الفكر الإسلامي
بقلم : الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي
كانت العرب أمةً مفطورةً على الأدب والشعر والبلاغة تحبّ ذلك، وتعشقه وتجيده وتستجيده، وترفع منزلة الشاعر أكثر ما يكون خطيبًا وشاعرًا وأديبًا، فإذا نبغ في القبيلة شاعر، أو ظهر فيها خطيب، استبشرت وافتخرت، وأقامت الموائدَ، واحتفلت بذلك الشيء العظيم، وأتت القبائل الأخرى فهنأتها، وباركت شاعرها أو خطيبها. كان ذلك فطرتها، لحياة التأمل والاستغراق والخيال في الصحراء، وللفراغ الكثير الذي كانوا فيه، ولحياة البادية التي تثير العاطفة وتستفز المشاعر، وتلهم الشاعرية، وتوقظ الخيال والبلاغة، وكانت حياتهم القبلية مدعاةً للتفاخر والتخاصم والحروب المستعرة؛ فكانت حاجتهم إلى البيان والشعر والشعراء على أشدّ ما تكون..
ومن ثم رأينا شعراء يلقي إليهم العرب القيادة، يُصغون لقولهم، ويسيرون وفق توجيههم، ويمضون مايحكمون به بينهم، يضعون الشريف النابه، ويرفعون الخامل الوضيع، فكان أمرؤ القيس لشعره الساحر زعيمًا، وكان النابغة سفيرًا للعرب في قصور المناذرة والغساسنة وحكمًا بين الشعراء في سوق عكاظ، وكان الأعشى يفد على كسرى وملوك الحيرة وبنى غسان ويسافر إلى الحبشة، ويرفع الصعلوك، ويخفض من السادة والنابهين، وكان قس بن ساعدة الإيادي يفد على قيصر والغسانين، وهذا كله مظهر من مظاهر سيادة الشعراء والبلغاء في المجتمع الجاهلي القديم، وتقدير هذا المجتمع لبلاغتهم وأدبهم، وبحسبنا أن الشاعر كان يعلن الحرب ويضع الهدنة فإذا شاء أعلن السلام ودعا إليه.
فلما بعث محمد صلوات الله عليه برسالته إلى الناس كافةً، نزل عليه كتاب مطهّر من السماء، هدىً ونور وبشرى، فيه دعوة إلى التوحيد والطهر، وإلى الحق والخير، وفيه ما شاء الله أن يبلغه للبشر من شؤون الحياة وأخبار الأمم، وقصص دعاة التوحيد من المرسلين والأنبياء، وفيه كل ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم من تشريع وعبادات وأخلاق وفضائل وآداب وتوجيه وإرشاد، وفيه ذكر لنهاية الحياة، ولما يكون بعد الحياة من بعث ونشور وحساب وجزاء.
نزل هذا الكتاب الكريم، والوحي الصادق، والدستور العظيم، والوثيقة الخالدة، والنور الشامل، فكان في أعلى درجات البلاغة، ومنازل الفصاحة، لايُدانيه بيانٌ ولا يشابهه أو يقاربه ما كان عند العرب من شعر وخطب ومحاورات ومفاخرات ومنافرات ووصايا ومثل وحكمة وكهانة..
سمعه فصحاؤهم وبلغاؤهم فخَرُّوا ساجدين لفصاحته، مذعنين لبلاغته، مقرّين بأنه نسيج وحده، وعلم مفرد في طبقته في البيان، وبهر الشعراء منهم، فخرست ألسنتهم، وسكتت شاعريتهم، وضاع إلهامهم كما يضيع السراب في الصحراء.. وعجبت الخطباء فيهم، فخرست مقاولهم، وصمتت ملكاتهم، وفقدوا مواهب البلاغة والقول، وذهبت كل بلاغة في تياره، وضلت الفطر الأدبية، وفرت أمام أضواء نهاره..
ولكن زعماء الشرك والوثنية أبوا الإذعان للدين، والإيمان برسالة خاتم المرسلين، فأخذوا يحاربون الحق بالأوهام، ويؤلبون قوى الشرك على دعوة الإسلام، فقالوا في القرآن هو شعر، وهو سحر، وإن هي إلا أساطير الأولين، ولو نشاء لقلنا مثل هذا، وإن هذا إلا اختلاق، ورموا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالجنون، فتحدّاهم الله عز وجل ورسوله بهذه المعجزة الظاهرة الخالدة القاهرة، بالقرآن الكريم، والكتاب العربي المبين، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِيْ رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلى عَبْدِنَا فَاتُوْا بِسُوْرَةٍ مِنْ مِثْلِه) وقال: (أَمْ يَقُوْلُوْنَ افْتَرَاهَ قل: فأتُوْا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه مُفْتَرَيَاتٍ) وقال: (أمْ يَقُوْلُوْنَ: تَقَوَّلَهُ، بَلْ لاَّ يُؤمِنُوْنَ. فَليَأتُوْا بَحَدِيْثٍ مِثْلِه، إِنْ كَانُوْا صَادِقِيْنَ) وقال: (قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أنْ يَّاتَوْا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأتُوْنَ بِمِثْلِه، وَلَوْ كَان بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيْرًا).
* * *
وهكذا بدأ التحدي بالقرآن كله، ثم بعشر سُوَرٍ منه، ثم بسورة من مثله، وقد سجل الله عز وجل عجز البشر كافةً، وبين أنه لا يستطيع الإنس والجنّ – ولو تظاهروا – الوقوف أمام هذا التحدّي، ولا يقدرون على مثل هذه البلاغة التي هي فوق طاقتهم؛ لأنها بلاغة خالق البشر، والإله القادر الأعظم، ونفى الله عز وجل عنه الشعر والسحر، وبرأ رسولَه من أن يكون شاعرًا وساحرًا، ومن الافتراء والجنة، ومن الكذب والخيال، يقول الله تعالى: (وَالنَّجْمِ إذَا هَوَىٰ. مَاضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوْحىٰ)، وقالَ: (إنَّه لَقَوْلُ رَسُوْلٍ كَرِيْمٍ. وَمَا هُوَ بَقَوْلِ شَاعِرٍ، قَلِيْلاً مَا تُؤْمِنُوْنَ. وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ، قَلِيْلاً مَاتَذَكّرُوْنَ. تَنْزِيْلٌ مِنْ رَبّ العَالَمِيْن. وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيْلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِيْنِ. ثـُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِيْنَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ عَنْه حَاجِزِيْنَ. وإنَّه لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِيْنَ).
وهكذا ردّ الله عزّ وجلّ عليهم، وبَيَّنَ كذبهم وافتراءهم، ونفى عن القرآن الكريم ما وصفوه به، وبيّن أنه منزّل من السماء، وأنه معجزة محمد رسول الله، وتحداهم إن كانوا كافرين ومكذّبين إلى الإتيان بمثله أو بعشر سُوَرٍ مفترياتٍ من مثله، أو بسورة واحدة، فعجزوا أمام التحدي، وباءوا بالخزي والهوان والذلّة، وصغرت نفوسهم وأقدارهم؛ فلم ينطقوا بقول، ولم يجاروا بلاغة القرآن في آية أو آيات، أو سورة أو سور، واستمر عجزهم طيلة ثلاث وعشرين سنة، لا فرق بين خطيبهم وبليغهم وشاعرهم، ولا فرق بين كبير وصغير فيهم.
* * *
وامتدت الأجيال، وتوالت العصور، والقرآن يتردد صداه في المشارق والمغارب، فلم نر رجلاً وقف يتحدى بلاغة القرآن، أو يدعي قدرته على مثل هذا البيان، ولم نر مفكرًا يؤلف كتابًا، أوشاعرًا ينظم قصيدةً، أو خطيبًا يلقى خطبةً، أو كاتبًا يحبر رسائل ومقالات، ويزعم أحد منهم أن ماجاء به صنو هذه الفصاحة، أو شبه ذلك السحر.. وفي تاريخ العربية فحول وفحول كابن المقفع والجاحظ وابن العميد والبديع، وكالبحتري وأبي تمام والمتنبي والمعرى والشريف الرضي، ولكن أين بلاغتهم من هذه البلاغة، وأين منازلهم من هذه المنزلة؟ وفيها كتب ومؤلفات في أعلى ذروة البلاغة: كنهج البلاغة، ورسائل الجاحظ، وكليلة ودمنة، ومقامات البديع.. إلخ.. ولكن ما مكانها وما قيمتها؟ وما أثرها وما خطرها في البلاغة الأدبية، والقيمة الفكرية، أمام كتاب الله المعجز، وكلامه الحكيم.
حتى الحديث النبوي الشريف، وهو في الدرجة العليا من الفصاحة، أين يقع نظمه من نظم القرآن، وكيف يوزن حسنه بحسن قدسي البيان؟ واقرأ إن شئت بلاغة البلغاء، وفصاحة الفصحاء، ثم انظر بسكون تام، وخفض جناح، وتفريغ لب، وجمع عقل في ذلك، فسيقع لك الفصل بين كلام الناس وبين كلام رب العالمين، وتعلم أن القرآن يخالف نظم كلام الآدميين، أراد مسيلمة الكذاب – فيما يروى – أن يقول كلامًا، فخزى وعجز، وبان عليه العيّ والعجز، وباء بالخسران وسوء المنقلب، وأين يقع قوله: “والليل الدامس، والذئب الهامس، ماقطعت.. أسيد من رطب ولا يابس” وقوله: “والمبديات زرعا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنا، ماسبقكم أهل المدر” وغير ذلك من كلامه، أين يقع من ذلك النظم القرآني العجيب، المعجز الذي (لاَ يَأتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِه، تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ).
وفي الأمم الكبيرة فلاسفة ومفكرون ومشرعون، وأدباء وكتّاب وشعراء وخطباء، ولكل منهم كتب وآثار أدبية وفكرية، ولكن هل هناك من هذه الآثار ما يعادل في أثره وخطره ومنزلته القرآن الكريم، بما تضمنه من بلاغة باهرة، وبما اشتمل عليه من توجيه صالح كامل للحياة، وتحديد واضح للمثل الإنسانية العليا، ورسم لأهداف الأفراد والجماعات والشعوب، ودعوة إلى الحق والعدل والحرية والإخاء والمساواة، والحضارة والعلم والمعرفة؟ وهل من بينها مثله كتاب يتعبد به الملايين من البشر ويقدسونه، ويعدّونه دستورهم في الحياة؟ وهل من بينها أثر قام به دين، ونشأت عليه دولة وحضارة استظل العالم برايتها أجيالاً طوالاً مثل القرآن الكريم والكتاب الحيكم؟ وهل للقرآن – بربك – شبيه من الكتب، وحد لغة، وحفظها وأذاعها في العالم، ورفع شأنها، وهذب ألفاظها وأساليبها، وأحيا فنونًا جديدة من الأدب، وتأثر الناس ببلاغته وعذوبته وسحره، وما أحدثه من آثار أدبية وبيانية وفكرية في لغة العرب، فوق آثاره في حياتهم الاجتماعية والدينية والفكرية والسياسية، وفي حياة العالم، والإنسانية كافةً..
ولا يزال البلغاء والنقاد ورجال الأدب والبيان حتى اليوم يؤمنون إيمانًا صادقًا بأن لاسبيل إلى الوقوف في تيار بلاغة القرآن وفصاحته وإعجازه، هذا الاعتجاز البياني والأدبي والفكري والروحي، وبأن هذا كله شيء انفرد به القرآن وحده، وأنه كلام الله وكتابه، وأن نبوة محمدٍ صلوات الله عليه إنما بنيت على هذه المعجزة وذلك الكتاب الحكيم المبين. وستمضى الأجيال، وتتوالى العصور. وهو يضيء كما يضئ الفجر، ويزخر كما يزخر البحر، ويفتن الألباب والعقول بسحره وجلاله وعظمته وحكمته وروعته.
ومن شأن بلاغة المفكرين أن تتغير بهجتها وقيمتها وفكريتها بتغير العصور، وتعاقب الأجيال، ولكن القرآن انفرد بثبات قيمه ومثالياته وعقائده وتجدد بلاغته وحسنه وروعته منذ نزوله حتى اليوم..
وخصائص القرآن البيانية، وما اشتمل عليه من روائع الحكم والأمثال، وبليغ المجاز، ودقيق التشبيه، وجيد الاستعارة والكناية، وساحر الطباق والجناس، ومحكم الايجاز والإطناب المفيد، كل ذلك مضرب المثل بين الأدباء والنقاد.
* * *
أما أغراضه ومقاصده فحسبك أنه قد جال في كل غرض، في الاجتماع والسياسة والحكمة والقصص والزهد والأدب والتعليم والإرشاد والوعظ والوعد والوعيد، وفي التشريع والتنظيم والتوجيه، وفي سائر أمور الدنيا والدين.. وأما معانيه فحسبك ما تشتمل عليه من صدق وحق ووضوح وجلال، وهي من غير معين العرب الذي ينهلون منه، لاطمئنان النفوس إليها، وارتياح القلوب لها، ولما تشتمل عليه من الحجة الباهرة والأدلة الساطعة، والأحكام الصائبة، وبحق إنه معجزة البيان، وآية السماء.. وأما ألفاظه فحسبك جزالتها وقوتها في موضع الجزالة والقوة، وسلاستها وعذوبتها في موضع العذوبة والسلاسة.. مع البلاغة الرائعة والإيحاءات البعيدة، والدلالات الكثيرة، ومع البعد عن الوحشي والغريب النافر والسوقي المبتذل، والبعيد المعقد فوق ما تتحلى به من سحر وجمال، وما تنطوي عليه من أسرار الفصاحة، وخصائص البيان والاعجاز.
* * *
نزل القرآن في أسلوب لا هو شعر ولا هو سجع ولا هو مزاوجة، ولا هو نثر مرسل ولا خطابة، إنما هو نظم رائع. وألفاظ رفيعة، ومعان عجيبة، ولما سمعه خطباؤهم وفصحاؤهم سجدوا له خاشعين، وما إيمان عمر t حين سمع “طـٰـهٰ” وما فزع عتبة بن ربيعة وقوله: “والله ما هو بشعر ولا كهانة ولاسحر” حين سمع – فصلت – وما تردد بلغاء العرب على الأماكن التي يتعبد فيها محمد ليلاً ليسمعوا هذه البلاغة الباهرة خفيةً. وما عجزهم أمام التحدى، ما كل ذلك إلا دليل على الاعجاز وعظمة البيان وجلال النسج وجماله، يقول أبوبكر الباقلاني: “إن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام كلام العرب، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطراز وعلى هذا القدر..”.
إن لبلاغة القرآن حديثًا طويلاً، وهي القضية التي سلم بها أساطين البيان وفحول البلاغة، أرأيت هذا التحدي مع العجز الواضح، والخزي المهين.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر – ربيع الأول 1430هـ = فبراير – مارس 2009م ، العـدد : 2-3 ، السنـة : 33