إلى رحمة الله
في صباح يوم الاثنين : 18/ رمضان (بالتقويم الهندي) و 19/ رمضان (بالتقويم السعودي) 1428هـ الموافق 1/أكتوبر 2007م وافت المنية بنوبة قلبية العالم السعودي الجليل فضيلة الشيخ عبد العزيز المسند بمدينة الرياض في 69 عاما من عمره بالقياس إلى الأعوام الميلادية و 71 من عمره بالنسبة إلى السنوات الهجريّة ؛ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
وصُلِّي عليه عقب صلاة العصر من يوم الثلاثاء : 19/ رمضان = 2/ أكتوبر في جامع الراجحي بمدينة الرياض ، وشهد الصلاة عليه جمع كبير من أصحاب السمو الملكي الأمراء والمسؤولين ونخبة من العلماء والدعاة ومحبي الفقيد. وأمّ الصلاة عليه سماحةُ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء . ووُرِّي جثمانُه في مقبرة السلام بجوار منزله بحي السلام ، شرقي الرياض .
وتوافدت على منزله جموع غفيرة من المعزين إثر وفاته وبعد تورية جثمانه لتعزية أهله وأقاربه، بمن فيهم العلماء والمشايخ والمسؤولون والمحبّون؛ لأن الجميع كان يحبّه كثيرًا، لنفعه الخلق وكونه ذا خير كثير واهتمامات متنوعة . وقد أجرى صاحب السموّ الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء و وزير الدفاع والطيران والمفتش العامّ اتصالاً هاتفيًّا بالدكتور عثمان بن عبد العزيز المسند، أعرب من خلاله سموّه عن تعازيه ومواساته في وفاة والده الشيخ عبد العزيز المسند، وسأل سموّه الله عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جنّاته وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
كما أجرى صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخليّة اتصالاً هاتفيًّا مع الدكتور عثمان بن عبد العزيز المسند ، قدّم فيه سموّه تعازيه ومواساته في وفاة الشيخ عبد العزيز المسند، ودعا الله أن يسكنه فسيح جنّاته وأن يتغمده بواسع رحمته.
كما أجرى صاحب السموّ الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض اتصالاً هاتفيًّا مماثلاً بالدكتور عثمان أعرب فيه عن تعازيه ومواساته في وفاة الشيخ المسند ، وسأل الله أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ورضوانه وأن يسكنه فسيح جناته وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان .
ولم يبق كاتب ذو أهميّة وسمعة في المملكة العربية السعودية إلاّ وكتب عن الشيخ المسند وأشاد فيما كتب بعظمته وجلائل أعماله كمرب وإداريّ ورجل دولة ورجل علم ودعوة وصحافة وإعلام، وعلى رأسهم الرحّالة الداعية الكاتب فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبوديّ ، والأديب الدكتور حسن بن فهد الهويمل، ومعالي الدكتور محمد عبده يماني، والشاعر والكاتب الإسلامي عبد الرحمن بن صالح العشماوي ، والأديب العربيّ الكبير حمد بن عبد الله القاضي رئيس تحرير “المجلة العربية” سابقًا، والأستاذ خالد المالك رئيس تحرير صحيفة “الجزيرة” اليومية ، والأستاذ عبد الرحمن الشبيليّ وغيرهم .
الشيخ عبد العزيز المسند وُلِدَ عام 1357هـ/ 1938م بمدينة “بريدة” الشهيرة ، وتلقى العلم على مشايخها ابن حميد والخريصي وغيرهما. وكان من الطلائع الأولى التي التحقت بدار التوحيد بالطائف، ومن ثم كلية الشريعة في مكة المكرمة ، وكان من الرعيل الأول الذي أسس التعليم النظامي في المملكة، وأسهم في النهضة العلميّة في البلاد السعودية .
يقول الشيخ محمد بن ناصر العبودي وهو يذكر زمالته القديمة مع الشيخ على درب التعليم ثم على بعض مراحل درب العمل :
“لقد كان الشيخ عبد العزيز المسند صديقًا لي منذ أكثر من ستين سنة إذ نشأنا جميعًا في شمال مدينة “بريدة” القديمة . وكان والده صديقًا لوالدي؛ ولكن الأهم من ذلك بالنسبة إلى علاقتنا محبةُ الشيخ عبد العزيز المسند للمعرفة وتطلعه للجديد ؛ فقد ذهب الفتى عبد العزيز المسند ، أو على الأدق ذُهِبَ به – بالبناء للمجهول – إلى دار التوحيد بالطائف عام 1364هـ / 1945م مع مجموعة صالحة من شباب “بريدة” في ذلك الحين ، منهم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن دخيل والشيخ محمد بن صالح المرشد .
“فالتحقوا بدار التوحيد في الطائف ، ودرسوا فيها السنة الأولى من حياتهم الدراسيّة ، وعند ما حلّت العطلة ، عادوا إلى أهليهم في بريدة ، وهم أشدُّ شوقًا إلى معاودة الدراسة في دار التوحيد التي كانوا – أو كان بعضهم – قد أكرهوا على الدراسة بها إكراهًا . كان الشيخ عبد العزيز المسند عندما عاد من تلك العطلة في عام 1365هـ/1946م قد أحضر معه الكتاب الأوّل من سلسلة “وست” لتعليم الإنجليزية للأطفال العرب، وكنا في ذلك الوقت لم نكمل العشرين سنة، ونحن بالنسبة إلى معرفة اللغة الإنجليزية كأطفال المرحلة الابتدائية ؛ بل كتلاميذ السنة الأولى الابتدائيّة ؛ فكنتُ والشيخ عبد العزيز المسند نتدارس ذلك الكتيب الابتدائي باللغة الإنكليزية . هو معه الجرأة والرغبة في أن يتعلم الإنكليزية . ومعهما بضع كلمات سمعها في دارالتوحيد بالطائف . وأما أنا فمعي الرغبة وكلمات كنتُ تعلمتها أنا وصديقي الأستاذ علي الحصين – رحمه الله – على أستاذ فلسطيني يُدَرِّس في المدرسة الوحيدة آنذاك في “بريدة” .
“ومن هنا ابتدأت صداقتنا الحقيقية بالشيخ عبد العزيز المسند ثم توطّدت واستمرت إلى الآن. وقد قويت تلك الصداقة في خارج بلادنا عندما سافرنا معًا إلى مناطق من العالم، كان الدافع إليها حبّ الاطّلاع والرغبة في معرفة الأوضاع الإسلاميّة، وشرحها لمن يهمهم الأمرُ في بلادنا من أجل مساعدة الجمعيّات الإسلاميّة”.
ثم ذكر الشيخ العبوديّ عددًا من الرحلات التي قام بها بصحبة الشيخ المسند إلى أنحاء العالم ولاسيّما مناطق أوربّا وأقطارها، ثم قال:
“ثم تتابعت الزيارات والسفرات التي جمعتني بالشيخ عبد العزيز المسند … لقد كان الشيخ عبد العزيز المسند رفيقًا صالحًا في السفر؛ فهو لايملّ ولا يتعب من الانتقال إذا كان ذلك يشتمل على معرفة جديدة ببلد فيه مسلمون ، أو اتصال بإخوة مسلمين ، كما أنه محبّ للاطّلاع العامّ على الغرائب والعجائب التي يصادفها المسافر وإن احتاج ذلك إلى سفر داخل سفر”. (الشيخ عبد العزيز المسند وصداقة ستين سنة ، الجزيرة اليومية، الخميس 22/ رمضان 1428هـ، العدد 12789).
وقال الأديب حمد بن عبد الله القاضي في مقاله “الشيخ المسند رجل الدعوة والتعليم والسماحة”.
“الشيخ عبد العزيز المسند رجل لم يكن عاديًّا: كان مربيًا قديرًا ؛ فقد كان مديرًا عامًّا للكليّات والمعاهد العلميّة سنوات طويلة ، أسهم في سموقها ونهضتها، وكم هي الأجيال التي تربّت وتعلّمت والشيخ رأسُ هذا الجهاز، و واصل مسيرة عطائه في الميدان التعليمي إلى ما قبل سنوات قليلة من رحيله .
“وفي الجانب الإعلامي كان أحد رُوّاد الصحافة والكلمة ؛ فقد كان كاتبًا قديرًا ، وعضوًا في مؤسسة الجزيرة الصحفية ، فضلاً عن مؤلفاته الدينيّة والأدبيّة .
“وللشيخ المسند الراحل فضلُ السبق مع الشيخ علي الطنطاوي – رحمهما الله – في تقديم برامج دينيّة تلفزيونيّة امتازت بإبراز سماحة الإسلام ، ويُسر تشريعاته ، مما جعل المشاهدين يُقْبـِلُون على برامج هذين الراحلين ، لما فيها من جميل الكلم ، وإشراقة العرض ، وحسن الحديث الممزوج بالابتسامة والسماحة – رحمهما الله – جميعًا .
“وفي مجال المناشط المنبريّة ظلّ اسمًا كبيرًا ومطلوبًا يشارك في الندوات ، ويلقي المحاضرات ، ويسهم في المنظومة الأدبيّة ؛ فقد كان – رحمه الله – عضوًا في نادي القصيم الأدبي سنوات طويلة” (الجزيرة اليومية ، الأربعاء : 21/ رمضان 1428هـ، العدد 12788).
ويقول الشاعر والكاتب الإسلامي عبد الرحمن بن صالح العشماوي في مقاله “الشخ المسند (منكم وإليكم)” المنشور في الجزيرة العدد 12789:
“كثيرًا ما كنتُ أسمع كبيرات السنّ من الأقارب والأمهات والزوجات يتحدثن عن معالجة الشيخ عبد العزيز المسند لقضايا الأسرة والعلاقات، بين الآباء والأمهات ، والأزواج والبنين والبنات ، بإعجاب وتقدير . وقد بدا لي من كلامهن أنهن يتعلمن مما يقول الشيخ ، ويستفدن منه في حياتهن ، ويصححن به كثيرًا من الأخطاء التي يقعن فيها . ولقد شجّعني ذلك على متابعة برنامج “منكم وإليكم” التلفازي في بعض حلقاته ؛ لأستمع إلى ما يقول الشيخ المسند؛ ولأعرف نمط الحديث الذي جعله مصلحًا اجتماعيًّا من خلال الشاشة إلى جانب كونه مفتيًا شرعيًّا . وعندها عرفتُ سببَ ذلك التأثير ، إنّها لغة البرنامج القريبة من المفردات المتداولة داخل الأسرة السعودية ، وإنه لأسلوب الشيخ المتواضع الذي يحرص على مصالح الناس، ويتلمّس احتياج الأسرة، ويقترب من المشكلات التي تُطْرَح عليه ، فيتجاوب معها بتلقائيّة مقصودة، وكأنه جالس مع الناس في مجلسهم يتجاذب معه أطراف الأحاديث، أسلوب ربما يجد فيه المثقف مبالغةً في النزول إلى مستوى الأحاديث العاديّة ؛ ولكنه – من وجهة نظري – كان ضروريًّا للدخول إلى حياة الناس ، الذين لايستطيعون مجارة الأساليب العلميّة ذات الدقائق والتفاصيل.
“وحينما علمتُ أن الشيخ عبد العزيز – رحمه الله – كان ذا دور فاعل في إصلاح ذات البين ومعالجة المشكلات الاجتماعيّة منذ خمسين عامًا ، أدركتُ سِرَّ ذلك الأسلوب التلفازي (المسندي) المُيَسَّر” .
حصل الشيخ المسند على شهادة الليسانس في الشريعة الإسلاميّة ، وعلى شهادة الدبلوم في اللغة الإنجليزية . وعمل أمينًا عامًّا لجمعيّة البر بالرياض ، وعضوًا في مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، وعضوًا في النادي الأدبي بالقصيم ، ومديرًا عامًّا لشركة الكهرباء بالرياض، ومديرًا عامًّا للمعاهد الدينية وكليات التربية التي تحوّلت فيما بعد جامعة باسم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّةِ ، ومحاضرًا غير متفرغ بالجامعات الوطنيّة والمدارس ، واشترك في الوفود الرسميّة للعديد من الدول الأجنبيّة ، وقدّم أحاديث دينيّة واجتماعيّة متنوعة في الإذاعة السعودية ، وقدّم برنامجًا اجتماعيًّا ودينيًّا أسبوعيًّا في التلفزيون السعوديّ .
استهلّ حياته العمليّة مديرًا للمعهد العلمي في “شقراء” ومديرًا لكليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض، ثم مديرًا عامًّا للكليَّات والمعاهد العلميّة، ومستشارًا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، ومستشارًا بوزارة التعليم العالي ، ومشرفًا على الإدارة العامّة لتطوير التعليم العالي.
وبما أن الشيخ المسند اشتهر خلال عمله بحسن الإدارة والحزم واللباقة ، فعندما شهدت مدينة الرياض نهضةً شاملةً سريعةً في السبعينيّات الميلادية، طلب مجلس إدارة شركة كهرباء الرياض إعارته لإدارة الشركة . فأجاد إدارتها بحيث نجح في تحقيق مطالب سكان هذه المدينة المترامية بشأن الطلب المتزايد للكهرباء .
كما تولّى منصب الرئيس العامّ لتعليم البنات، فصار محطّةً لافتةً في حياته ؛ حيث طَبَّقَ القواعد التي وضعها هو منذ 36 عامًا قبل وفاته عندما كان عضوًا في اللجنة الخاصّة بتطوير التعليم والمناهج ؛ فاعتبرت فترة توليه هذا المنصب فترة ذهبيّة ؛ لأنه نجح في الإكثار من إنشاء مدارس البنات وإنشاء معاهد للمعلمات في شتى أنحاء المملكة وفي مدنها وقراها .
وكذلك كانت جمعيّة البر بالرياض محطَّةً لافتة في حياته ؛ حيث أدارها نحو أربعة عقود من الزمان أمينًا عامًّا لها ، وخلال تولّيه المنصب حقّق نجاحًا مذكورًا مشكورًا حقًّا حيث أسّس أرضيّةً صلبة جديدة للعمل الخيريّ ، كانت منطلقًا للجمعيّات الخيريّة التي عمّت فيما بعد واطّردت.
وكان الشيخ عضوًا في اللجنة التي أمر الملك فيصل بتشكيلها لتتولّى وضع سياسة إعلاميّة في البلاد . وعمل أيضًا في جريدة “البلاد” وكتب في جريدة “القصيم” وساهم في إنشاء جريدة الجزيرة، وظل عضوًا في مجلس إدارتها .
أمّا برنامجه التلفزيوني (منكم وإليكم) فقد اشتهر كثيرًا ودخل كلَّ بيت سعوديّ بأسلوبه الممتع المُيَسَّر وجدواه العامّة الدينية والاجتماعيّة ؛ حيث اتّسم بالسماحة والاعتدال والتبسيط ، وظلّ يساهم فيه عبر 25 عامًا. كما اشتهر برنامجه الإذاعي الفقهيّ (نور على الدرب).
وإلى جانب ذلك ألّف الشيخ عددًا من الكتب القيمة من بينها: الزواج والمهور، والأندلس تاريخ وعبرة ، والنهج المحمديّ ، وغذاء الروح ، والعلم المفقود في المواريث الإسلاميّة .
وقد خلّف – رحمه الله – وراءه 8 أبناء وهم: الدكتور عمر، والدكتور عثمان، والأستاذ علي، والأستاذ عبد الرحمن، والأستاذ فيصل، والأستاذ عبد الله، والأستاذ فهد، والأستاذ محمد ؛ و 3 بنات وهن: الدكتورة غادة، والأستاذة غالية، والأستاذة ريم ، إلى جانب زوجته أم على. ألهمهم الله جميعًا الصبر والسلوان.
وقد ألّفت ابنته الفاضلة الدكتورة غادة المسند كتابًا، تحدّثت فيه إلى جانب حوادث حياته وجوانبها العامّة عن رحلة ممتعة شاقّة قام بها الشيخ من “بريدة” بالقصيم إلى “الجوف” بـ “سكاكا” واستمرت 14 يومًا على ظهر ناقة ، بصحبة الشيخ حمد الصالح والشيخ عبد الله الراشد . وكان الهدف منها الوقوف على معالم كادت تندرس ، ومنازل عفت عليها الرمال ونسيها أصحابها .
ويحلو لي أن أختم هذه السطور بما قالت السيدة غادة عن هذه الرحلة ، لتكون عبرة لهذا الجيل والأجيال القادمة :
تقول د. غادة: إن طواف والدي في أصقاع القارات على كرسي الطائرة لم يمنعه أن يطوف في أنحاء الأرض على ظهر الناقة، وعلى سفينة الصحراء بدل سفينة الجو.
ففي القرن الخامس عشر الهجري، وفي القرن العشرين عزمت مجموعة محدودة من الناس على إعادة أمر انتهى من الوجود وحلّت محله المخترعات الحديثة ، وضعف احتمال الناس . ونفد صبرهم؛ فتراهم يتضايقون ويتبرمون إذا تأخر موعد إقلاع الطائرة دقائق .
وفي هذا الوضع وفي خضم الحضارات وتقارب العالم ووجود ما يقطع البحار في ساعات، أصرّت فئة على إثبات قدرة الإنسان على التحمل والصبر على السير في الصحاري، والعيش على طعام محدود مثل ما كان يعيش عليه الأولون.
وبالتحديد عام 1401هـ نضجت فكرة الرحلة وأعدت العدة وكان والدي أحد أفراد هذه المجموعة رغم أنه لم يدرك زمن ركوب الإبل، ولم يمتهن ركوبها يومًا سوى لحظات للمتعة أو لمسايرة أصحابها.
وقد بدأت الرحلة من شمالي (بريدة – القصيم) بتاريخ 15/4/1401هـ = 19/2/1981م) وانتهت (بالجوف – سكاكا) ومدتها أربعة عشر يوماً وكان زادهم الطحين والتمر والسمن لم يحملوا معهم سواها.. مما توفر من أنواع الطعام، ولم يستعينوا بأحد ولم ينزلوا على أحد ضيوفًا يومًا واحدًا ، ولم تنقطع الرحلة .
حيث إن الرحلة قد سجلها والدي في كتاب مطبوع أسماه : (سفينة الصحراء) وقدم له الأستاذ الشيخ حمد الجاسر. فإني سأحيل المهتمين بهذا النوع الفريد من الرحلات إليه. وأكتفي بنقل فقرات من المقدمة التي قدم والدي بها الكتاب ؛ إذ يقول: كنا مجموعة متقاربة الأفكار مختلفة الأعمار والأعمال نجتمع أحيانًا ويجتمع بعضنا دائمًا نحب (البر) حيث الهدوء وجمال الطبيعة والبعد عن ضجيج المدن، وروائح المحروقات ، فإذا طاب البر في الربيع وكثر العشب خرجنا نتمتع بمناظره الخلابة وروائحه الزكية .
ويدور الحديث ويتصدره أولئك الرجال الذين كانوا يجوبون أطراف الأرض على الإبل وتارة على أرجلهم فيغروننا بركوب الخيل والإبل ويتفننون في وصف رحلاتهم وسعادتهم بها.
ثم ينبري أحد الذين ولدوا في عصر السيارات فيقول: نحن نستطيع أن نفعل مثل ما فعلتم، فيتنهد أحدهم تنهدًا عميقًا ثم يقول: انتهى ذلك العصر. ولن تتحملوا تلك المشاق، وينتهي الحديث.. وكلما خرجنا للبر.. وركب بعضنا الإبل أو امتطى جوادًا عاد الحديث في رحلة على الإبل تجمع المتعة الرياضية والمران أو على الأقل تجمع أشتاتًا في حياة واحدة نقضي فيها وقتًا طويلاً نسمع تاريخاً شيقًا وشعرًا صادقًا منطبقًا، ونمت الفكرة وبدأت تقوى حتى صمم اثنان من المجموعة على إنفاذها، ومر عامان وهي فكرة ، وفي ربيع العام الثالث كانت حقيقة.
الهدف من الرحلة
الهدف من رحلتنا الوقوف على معالم كادت تندرس، ومنازل عفت عليه الرمال ونسيها أصحابها لتغير أسلوب الحياة لديهم، وتجديد العهد بديار وموارد وطرق كان لها ذكر كبير في التاريخ، ولم يبق منها سوى ما أثبت في بعض الكتب – وغالبه من أناس لم يقفوا عليه بأنفسهم وإنما نقلوه عن غيرهم – وقد تحقق ذلك الهدف فأثبتُّ ما استطعتُ إثباتَه في هذه الرحلة من غير استقصاء أو رجوع إلى الكتب حتى تكون له طرافة الجديد ولذة الحديث ونظرة أصحاب المدن وركاب الطائرات والسيارات . ولا أقول: إنني أتيت بما لم يأت به من سبقني؛ ولكني جددت، وشحذت الهمم، وفتحت الطريقَ لمن سيأتي باحثًا أو متمتعًا أو سائحًا.
ولعل من الجديد الذي لايدركه من يقرأ الكتب، ذلك الموقف الرهيب حينما يندفع أحد رفقائنا من (العقيليين) فيجثو على ركبته وتنهمر دموعه حوله فإذا بللت دموعه ذلك المكان قال:
إن هذا موضع تركت فيه علامة كذا أو حدث فيه كذا ، أو دفن فيه صاحبي (فلان عندما نزلنا هنا) وذلك موقع باهت نادر لاتستطيع وصفه الأقلام .
هذا وقد لقيتُ أنا نور عالم خليل الأميني الشيخ المسند بالرياض بمسجد حيّه وبمكتبه أكثر من مرة خلال قدماتي إلى المملكة فوجدتُه سمحًا كريمًا ، وإنسانا شريفًا لحدّ لايوصف . لدى لقياه ما كان زائره يشعر بأنه أمام علم من أعلام المملكة في العلم والعمل والخدمات الجلي والقيام بالنفع العامّ ؛ بل كان يبدو رجلاً عاديًّا آلفًا مألوفًا ، يترك لقاؤه في نفس الزائر انطباعًا لايمَّحي وذكرى لاتُنْسَىٰ عن الإنسانيّة والمروءة والأريحيّة العربيّة . رحمه الله رحمة الأبرار الصالحين، وأدخله فسيح جنّاته ، وأعلى درجاته.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32