في نحو الساعة الحَادِيَةَ عَشْرَةَ من يوم السبت: 19/ ربيع الثاني 1429هـ الموافق 26/ أبريل 2008م كنتُ جالسًا أتناول بعض الوجبات الدوائية بأحد أروقة منزلي بقرية “هربور بيشي” Harpur Beshi بمديرية “مظفربور” Muzaffarpur بولاية “بيهار” إحدى الولايات الشرقيّة بالهند؛ حيثُ كنتُ نازلاً بها ضمنَ إجازة طارئة تلقّيتُها من جامعتي: “دارالعلوم/ ديوبند” لتلقي العلاج ولتحقيق بعض الحاجات الأخرى المُلِحَّة، إذ رَنَّ في أُذُنَيَّ صوتُ الهاتف الجوَّال، وضغطتُ مُسْرِعًا على زرّ التلقّي، فإذا بأحد الإخوة وهو الأستاذ وصي أحمد القاسميّ الذي يعمل أستاذاً بجامعة الإمام أنور – معهد الأنور سابقًا – يتّصل بي بنبرة مستعجلة مُتَقَطِّعَة، مُسَلِّمًا وقائلاً : سيدي ! أنا الآن أحمل إليكم نبأً حزينًا للغاية ؛ حيثُ أنعى إليكم فضيلةَ الشيخ أنظر شاه الكشميري المسعودي، الذي استأثرتْ به رحمةُ الله تعالى منذ نحو نصف ساعة بمستشفى “كنكارام” بدهلي؛ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وانقطع صوتُه بنفس السرعة التي اتّصل بها بي.
لقد كان النبأُ حزينًا حقًّا ؛ فقد كان نبأَ وفاةِ عالمٍ كبير شَغَلَ الأوساطَ الإسلاميّةَ الهنديّةَ عَبْرَ حياته، بعلمه الغزير، وذهنه المتوقد ، وذكائه المُعْجِب، ونشاطه المُكَثَّف، وحَيَويَّته المغبوطة حتى لدى الشباب، وخفّةِ روحه، وطلاقةِ لسانه، وسيلانِ قلمه، وتدريسه المُطْرِب، وخطابه المُمْتِع بمعنى الكلمة، وحديثه العَذْب في كل مجلس الذي تُمِدُّه الدراسةُ الواسعةُ، والتجربةُ العميقةُ، ولباقةُ طرحِ الموضوع.
شُغِلْتُ إثـْرَ سَمَاع النعيِ عن كلِّ شيء كان يُهِمُّني، بذِكْرَيَات كثيــــرة ماتعــة ثارتْ في ذهني عن هذا العالم الجليل ذي الاهتمات والهموم الكثيرة، سَيْطَرَتْ على تفكيري واستبدَّتْ بمُخَيِّلَتي، التي دارتْ فيها صُوَرٌ رائعةٌ جدًّا عن شخصيّته الفذّة، وتحرّكاته المُتَّصِلة على درب الحياة ومسالك العلم والفكر والدين والدعوة، التي لم تتوقَّفْ إلاّ عندما توقَّفَتْ نبضاتُ قلبه بغرفة مسكونة بالهدوء في ذلك المستشفى بالمدينة الحضارية الثقافية دهلي عاصمة الهند التي تحتضن الخلاصَة المصطفاةَ من ذكريات الحكم الإسلامي بهذه الديار، الذي دَامَ نحو ألف سنة، وظلَّتْ – ولا تزال – في مُعْظَم عهوده عاصمةً وحيدةً.
* * *
مَثُلَتْ صورتُه أمامَ عَيْنَيَّ – ضمن ذكريات عن عهد تعلّمي بدارالعلوم / ديوبند – وهو يمشي على قَدَمَيْه في إحدى مَدْرَجَات دارالعلوم / ديوبند – أكبر وأعرق الجامعات الإسلاميّة الأهليّة بشبه القارة الهنديّة – منتهيًا من إلقاء درس في حصّة من الحصص، خارجًا من فصله، والابتسامةُ ترقص على شَفَتَيْه حسب العادة، والمَسَّرات تَتَفَجَّرُ من مُحَيَّاه، والانتعاشُ يَنْبَعِث من أسارير وجهه، وهو يُطْلِق فِقَرات فُكاهِيَّة يفيض بها كلَّ وقت ذكاؤُه المُلْهِم وتَطْوَافُه على كتب شتّى الموضوعات، ويُمْتِع بها جمعًا من الطلاّب يسير حولَه كالعادة، يستمتع بصحبته المُطْرِبة ؛ فلم يُعْهَدْ يسير وحدَه مهما كان الوقتُ وأيًّا كان الجوُّ؛ لأنّ جماعة من الطلاب كانت تُلاَزِمُه دائمًا مُلاَزَمَة الظلّ حتى في نُزْهَته الصباحيّة والمسائية ؛ فقد كان نُزْهِيًّا، كان لايتخلّى عن النزهة ولو كان اليومُ مطِيرًا أو كان هو في السفر أو أصابته وَعْكَةٌ صحيّةٌ مالم تقعد به عن المشي أو يمنعه الطبيبُ عنه. وكان فريدًا بين أقرانه ومُعَاصِريه من العلماء والمُثَقَّفِين في هذه المواظبة الدقيقة على ممارسة النزهة والجولة الصباحيّة والمسائيّة التي تَعَوَّدَها منذ أوائل عمره؛ فكان يعتمدها ركيزةً من ركائز الصحة الأساسيّة .
* * *
ومثلتْ صورتُه لديّ وهو يقوم بالتدريس في فصله الدراسي بالجامعة والطلاب مُتَسَمِّرون كأنَّ على رؤوسهم الطيرَ يحرصون على أن لاتفوتهم كلمةٌ مما يقوله لهم ؛ لكون محاضرته مبنيَّةً على الدراسة الواسعة، ومُلْقَاةً بأسلوب يتّسم بالروعة والتنسيق، والحماس والصياغة الجميلة، مُمَدٍّ بالجدّ والهزل الحلال بنسبة مُتَّزِنَة ؛ مما يجعل الطلابَ مُنْتَبـِهين كلَّ الانتباه لا يَعْتَوِرُهم شيءٌ مما يُصَنَّف ضمنَ السآمة أو الإغفال الفكريّ الذي ينتاب المُتَلَقِّين والمُسْتَمِعِين إذا كان المُحَاضِر أو الخطيب يفقد لباقةَ الطرح التي كانت ميزتَه البارزة بين كثير من معاصريه ؛ فلم يكن أستاذًا يمتهن التدريس لكسب لقمة العيش فقط ، أو لملأ الفراغ في حياته، أو يعمل مُوَظَّفًا لأنه لم يجد عملاً؛ فهو يمارس التدريس مُجَرَّدًا من كل معنى للحرص والاهتمام؛ وإنّما كان أستاذًا مُلْهَمًا ومُعَلِّمًا مطبوعًا يجمع مُعْظَمَ الخصائص التي ينبغي أن يمتاز بها كلُّ من يُصَنَّف “مُعَلِّمًا مثاليًّا”؛ فكان يُجَهِّز الدرسَ ويُحَضِّر المحاضرةَ قبل أن يلقيها، وكان يحمل قدرةَ الإقناع وتقريب الموادّ إلى أفهام الطلاب بأسلوبه المُمْتِع، ولسانه الرشيق، ورصيده الثَّرِّ من الدراسة المختمرة ، وقبل ذلك وبعده بذكائه المُتَيَقِّظ وحضور بديهته وإرهاف ذهنه؛ الأمرُ الذي كان يقدر به كسب العقول، وإقناع الحضور وربّما على صنع الحقائق . وكانت لديه قدرة لايُسْتَهَانُ بها على وضع فقرات ساخرة عاجلة، ذات إشارات بارعة، ودلالات شتّى تجعل المُتَلَقِّين والحضورَ يهيمون في متاهات معانٍ حائرة، ولاسيّما إذا كانوا لايملكون من الرصيد العقليّ ما يُتِيح لهم أن يَفْطَنُوا لأبعاد حديثِ رجلٍ ذكيٍّ ذَرْبِ اللسان مثلِه. وذلك كلُّه جعله أستاذًا فريدًا، جمَّ المنافع، كثيرَ الإفادة، ينتظر الطلابُ بعد ما كانوا ينتهون من درسه يومًا درسَه الذي سيُلْقيه في اليوم الآتي، انتظارَ المُحِبِّ لحبيبه. وذلك – حقًّا – هو ضريبةُ التقدير التي ظلَّ الطلابُ المُوَفَّقُون يؤَدُّونها دائمًا نحوَ أستاذهم المُوَفَّق. وتلك سمةٌ بارزةٌ يتّسم بها كلُّ أستاذ بارع مُوَفَّق، خُلِق لينفع، وعَرَفَ كيف ينفع بشكل أوفى.
قام بالتدريس نحو 55 عامًا بالقياس إلى العام الميلادي و 77 سنة بالنسبة إلى السنة الهجريّة؛ حيث عُيِّن مدرسًا بالجامعة عام 1372هـ/1953م. ولقد استوعب تدريسًا جميعَ الكتب المُدْرَجَة ضمنَ المُقَرَّرَات الدراسيَّة التي يتضمَّنُها المنهجُ الدراسيُّ المُتَّبَع لدى الجامعة الإسلاميّة العريقة “دارالعلوم/ ديوبند” التي تقود الجامعات والمعاهد الإسلاميَّة الأهليَّة في شبه القارة الهنديَّة. تجلّت خلال تدريسه لها مقدرتُه البيانيَّة، وأهليَّتُه التفهيميَّة والنقاشيّة، ودراستُه المُتَأَنِّيَة العميقة الواسعة، وقوةُ ذاكرته اللاَّقطة، وتفنُّنه في الشرح والإيضاح، وتأصيلُه لمنهجيّة دارالعلوم ديوبند في نشر علوم الكتاب والسنة في بعدٍ عن كلِّ ما من شأنه أن يُصَنَّف ضمنَ الادعائيّة والقوّاليّة المُجَرَّدَة من الفعَّاليَّة، وانتهاجُه الأسلوبَ الأنجعَ الأمثلَ في طرح الموادِّ التي كان يريد إرسالَها إلى أفهام الطلاّب.
ولكنّه منذ عشرات السنين تَفَرَّغَ لتدريس مادّة الحديث الشريف ولاسيّما صحيح البخاريّ وجامع الترمذيّ. وقد تجلّتْ في تدريس هذه المادة خصِّيصًا عبقريّتُه التي تَوَارَثـَها عن والده العظيم العلاّمة أنور شاه الكشميريّ (1292-1352هـ = 1875-1933م) شيخ الحديث الأسبق بدارالعلوم/ ديوبند الذي دَرَجَ أكبرَ محدث في شبه القارة الهنديّة في عصره وأكبرَ محدّث أنجبتْه دارالعلوم/ ديوبند، وأَجْمَعَ علماءُ العرب والعجم على علوّ كعبه، وجلالة قدره، لا في فن الحديث وحده ؛ بل في مُعْظَم العلوم الإسلاميّة وعلى رأسها التفسيرُ والحديث والفقهُ وعلومُهما.
فكان أنظر شاه الكشميري يشبه أباه في بعض النواحي – لا في كلّها – فكان يَصْدُرُ في تدريس الحديث عن التحقيق المُشْبِع والدراسة الوافية والتدقيق المُقْنِع، ويثير خلالَ التدريس نقاطاً عجيبةً قد لايتبادر إليها أذهانُ المشتغلين بالحديث وتدريسه منذ وقت طويل، ويَتَبَدَّى في تدريسه للحديث تذوّقُه للفنّ، واهتمامُه البالغُ به، وحرصُه المُتَنَاهِي عليه، وتوفُّرُه على دراسته روايةً ودرايةً، ومتنًا وسندًا، وألفاظاً ومعانيَ، ودلالات وإشارات؛ فأصبح من العلماء البارزين بالحديث وعلومه ، وغدا معروفًا بالنسبة إليه ، بعدَ ما كان يُعْرَف بأنّه أحد العلماء الأجلاء الأفراد بالهند بالقياس إلى مُجْمَل مزاياه ؛ فكانت وفاتُه خسارةً أيَّ خسارة من حيث كونه مُحَدِّثاً أيضًا يُتْقِنُ تدريسَ الحديث ؛ لأنّ هاتي الجامعات والمدارس الإسلاميّة الأهليّة – التي تَتَوَلَّى مسؤوليةَ المرابطة على الثغر الإسلاميّ الواسع – رغمَ انتشارها الكبير تشكو قلّة المُدَرِّسِين والأساتذةَ المُتْقِنِين للتدريس، ولاسيّما الأساتذة الأكفاء لتدريس العلوم العَالِيَة، وعلى رأسها الحديثُ والتفسيرُ والفقهُ ؛ حيث إنّ كسب صفة الإتقان في هذه العلوم يَتَطَلَّب التفرّغَ والانقطاعَ والانصرافَ عن الجشع الماديّ الذي أصبح اليومَ فاغرًا فاه يكاد يبتلع حتى كلَّ “مُخْلِص” فضلاً عن بعض المُرَائِين المُنْتَمِين إلى ركب الخدمة الإسلاميّة ذات المجال الواسع. والجبهةُ الإسلاميّةُ مخوفٌ عليها المخافةَ كلَّها من هذه الناحية، وليس مخوفًا عليها مخافةً كبيرةً من قبل الأعداء السافرين، الذين كثيرًا ما يندحرون بسهولة لأنّهم مَرْئِيُّون ؛ فالحذرُ منهم، وبالتالي مداهمتهم في مكانهم كلاهمان سهلان على كلّ مُهْتَمٍّ بالمرابطة على الجبهة الإسلاميّة.
* * *
ودارت في مخيلتي صورتُه وهو يُسَيْطِر على الحضور في حفلة كبيرة حاشدة ؛ بخطابه الحماسيّ، وحديثه العزيز اللّذيذ، وإلقائه اللاَّفِت، وطرحه الفريد، وصوته المُدَوِّي، ومادّته الغنيّة، ومعلوماته الوافية في الموضوع. وقد كان ولاسيّما إبّانَ تعلّمي بالجامعة أكبرَ خطيبَ حَمَاسِيٍّ لا يدانيه أحدٌ من خطباء الجامعة – وأكاد أقول من خطباء البلد كلّه – الذين عَهِدْتـُهم في كسب المستمعين وجَعْلِهِم يهتزّون بخطابه ويَطْرَبُون بإلقائه ويَفْرَحُون بما يكونون قد كسبوه من الفوائد الجمّة خلالَ الجلسة الواحدة .
وكان يمتاز بأسلوبه الفريد، ولهجته الخاصّة وبعض الفقرات الأردية التي كان قد نَحَتَها هو وتَفَرَّدَ بها، حتى كان عددٌ من الطلاب – ومنهم كاتبُ هذه السطور – يُحَاكُون أسلوبَه الخطابيَّ المُتَّسِم بتلك الفقرات الفريدة ذات اللهجة الممتازة .
وكان المستمعون يزدحمون في الحفلات التي كان يُدْعَى لإلقاء الخطاب فيها ؛ فلو حَدَثَ أنه غاب عنها لسبب مُلِحٍّ اضْطَرَّه للغياب وعدم الحضور، خَيَّمَ عليهم اليأسُ والأسفُ اللذان لايمكن وصفُهما إلاّ بعد جهدٍ.
وكانت الخطابةُ قدرةً فيه طبيعيّةً، فلم يكتسبها بالمحاكاة أو التقليد أو الارتياض، نعم امتلك ناصيتَها بالمواظبة عليها ومواصلة ممارستها عَبْرَ هذه السنن الطويلة المُمْتَدَّة على الفترة بين شبابه الغضّ وكهولته الطاعنة في السنّ ؛ فكان خطيبًا يُشَار إليه بالبنان عَبْرَ هذه البلاد: القارة خصوصًا وعبر شبه القارة الهنديّة عمومًا. وكان حضورُه بخطابه حفلةً ما ضمانَ نجاحها مئةً في المئة، وبالعكس كان غيابُه عنها رمزًا على فشلها أو نجاحها الناقص. وظَلَّ عَبْرَ حياته العمليّة الحافلة بكل نوع من الإنجازات على صفة “الخطيب المُفَوَّه المُحَبَّب”؛ فكانت وفاتُه المُفَاجِئه خسارةً لاتُعَوَّض بالقياس إلى هذه الناحية هي الأخرى، إلى جانب النواحي العديدة التي تَرَكَتْ – وفاتُه – فيها ثغرًا لايُمْلأ بشكل من الأشكال، في هذا العصر الذي أصبح يُعْرَف بأنه كاد يخلو من العباقرة في كلّ مجال من مجالات الحياة ولاسيّما المجــالات التي تمسّ الدينَ والعقيدةَ بنحوما؛ حيث يموت العلماءُ الأجلاَّءُ الوحيدون – كلٌّ في موضوعه الذي كان يختصّ فيه – فلا يُوْجَدُ لهم نظيرٌ إلى بعيد أبعد ؛ وكأنّ الأمة عادت – كما يقول المثلُ الأرديّ – تهبط من السماء فتقع على الأرض مُبَاشَرَةً ولاتقع على نخلةٍ أو ما يُمَاثِلُها من الأشجار.
* * *
وإلى جانب ذلك كان كاتبًا بالأرديّة قديرًا يمتاز عن غيره بأسلوبه الفريد الذي كان يجمع بين السهولة والسلاسة، وبين الألفاظ الجميلة الجزلة، والتراكيب الرشيقة، والجمل التي مُعْظَمُها كانت تكون مُبْتَكَرَة من عنده ؛ حيث كان لايؤمن كثيرًا ولايعمل بالتقليد والاستعارة من الغير؛ من هنا كانت كتاباتُه مُعْجِبَةً مُمْتِعَة يَلَذُّها لسانُ القارئ وذهنُه، كما كان يَلَذُّ المُسْتَمِع خطاباتِه المُرْتَجَله؛ لكونها جديدةً في الشكل والمضمون؛ فجَمَعَتْ كتاباتُه ومُؤَلَّفَاتُه بين طرافة الخيال وروعة الحياكة وسحر البيان والأداء، وتَنَوَّعَت في الموضوعات والأغراض. وسنسوق في ذيل المقالة قائمةً بمُؤَلَّفَاته المستقلة، والكتب التي نَقَلَها من العربيَّة إلى الأرديّة.
ونشرت مقالاته كثيرٌ من المجلات والصحف الأردية الصادرة في طول البلاد وعرضها، أمثالُ مجلة MبرهانL الأردية التي كانت تصدر بدهلي، واحتجبتْ منذ سنوات، ومجلة MالفرقانL الأردية التي تصدر بـ”لكهنؤ” ومجلة “الحرم” الصادرة بـ”ميروت” و”صدق جديد” الأسبوعية الأردية التي كانت تصدر بـ”لكهنؤ” و”الجمعيّة” الأسبوعية التي تصدر بدهلي ومجلة “فاران” الأردية التي تصدر بـ”لندن” و”جنك” الأردية الأسبوعية التي تصدر بـ”باكستان” و”نوائي وقت” الأسبوعية الأردية التي تصدر بـ”باكستان” و”سياست” الأردية اليومية التي تصدر بـ”حيدر آباد” و”انقلاب” الأردية اليوميّة التي تصدر بـ”ممباي” و”قومى آواز” اليومية التي كانت تصدر بدهلي و”راشتريا سهارا” اليومية التي تصدر بدهلي و”ترجمان إسلام” التي تصدر بـ”بنارس” و”صبح كشمير” اليومية التي تصدر بـ”كشمير” و”هندوستان إكسبريس” اليومية التي تصدر بدهلي إلى جانب مجلة “محدث عصر” الأردية الشهرية التي أنشأها هو وظلّ يصدرها عن جامعته “جامعة الإمام أنور” بديوبند، التي أَسَّسَها عام 1418هـ/ 1997م ملاصقة بمُصَلَّى العيد بديوبند.
وقد رأس – رحمه الله – تحرير عدد من المجلات الأرديّة ، منها مجلة “هادي” الأردية الشهرية التي صدرت في الفترة ما بين 1374هـ/1955م و 1382هـ/1962م ومجلة “نقش” الأردية الشهرية التي صدرت في الفترة ما بين 1374هـ/1955م و 1380هـ/1960م ومجلة “يثرب” الأردية النصف الشهرية التي صدرت في الفترة ما بين 1398هـ/1978م و 1403هـ/1983م.
وفيما يتّصل بكتاباته يجدر بالتسجيل أنّه كان سريعَ الكتابة وسريعَ الإِملاء معًا، ولايَتَأَتَّيان معًا لمعظم الكُتَّاب مهما كانوا عباقرةً بارعين في فنّهم ؛ فكان ذلك ميزةً يَتَفَرَّد بها بين القوم بفضل من الله. وكان يُمْلِي مُرْتَجِلاً فلا تختلّ لديه الكلماتُ أو المعاني أو الصياغةُ التي كان يريدها لتعابيره عن المعاني التي كان يتوخّى ضبطَها فإرسالَها.
* * *
وإلى جانب أشغاله العلميّة مَارَسَ التحركات السياسية التي رآها الطريقَ إلى خدمة الشعب والبلاد ولاسيّما أمته المسلمة الهنديّة التي ظلّت تحتاج إلى من يُمْسِك بيدها في لباقةٍ في البحر اللُّجِّيِّ من القضايا الشائكة التي ظلّت تعيشها – ولاتزال – مند استقلال البلاد. وظلّ الشيخُ الكشميريُّ يتّصل في صدد تحركاته السياسيّة بجمعيّة علماء الهند، التي كان لها الدور الطليعي الفعّال في تحرير الوطن ؛ ولكنّه انفصل عنها منذ عشرات السنين لبعض الأسباب التي دعتْه إلى الانفصال. ولكونه مُنْتَميًا في مُعْظَم مراحل تحركاته السياسيّة إلى “جمعية علماء الهند” ظلّ مُوَالِيًا – في الأغلب – لحزب المؤتمر السياسيّ العلماني الذي ظلّت “جمعيّةُ علماء الهند” تُؤَيِّدُه في الأغلب لكونه ينطلق في أفكاره وأعماله الغالبة من العلمانية المرنة والقاعدة العريضة للتعامل مع الشعب الهندي الذي تتوزّعة الدياناتُ والاتجاهاتُ؛ ولكنّه اختلف مع الحزب وانفصل عنه في بعض مراحل المشوار السياسيّ، عندما لاَحَظَ – كما لاَحَظَ كثيرٌ من العلماء والقادة المسلمين – نفاقَه في التعامل مع الشعب المسلم وازدواجيَّتَه في السلوك تجاهه لدى ممارسة السلطة ومباشرة الحكم وإدارة البلاد. وانتماؤه إلى حزب المؤتمر ظَلَّ على العموم غيرَ رسميّ؛ ولكنه منذ سنوات كان قد اختير بشكل رسميّ نائب رئيس له لعموم ولاية “يوبي”؛ فقام بأنشطة مُكُثَّفَة أفادته – الحزبَ – وانعكست بعضُ آثاره على مصالح الشعب المسلم في الولاية . وبقي يشغل المنصبَ حتى وفاته.
ولكونه ذكيًّا ذربَ اللسان كسب نفوذاً لابأس به لدى الساسة رفيعي المستوى والقادة ذوي الصلاحيّات الكبيرة في حزب المؤتمر وغيره من الأحزاب ؛ فكان يُؤَثـِّر عليهم بآرائه واقتراحاته التي كان يَطْرَحُها إليهم لصالح الشعب المسلم ولاسيّما أوساط العلماء والمدارس الإسلاميّة التي عادت تمسّ بها الحاجةُ بشكل غير مسبوق إلى الاتّصال بالقادة والساسة، لكونها قد أثيرت حولها من قبل السلُطَات الطائفيين والأعداء المتحركين عَبْرَ العالم شكوكٌ وتُهَمٌ بتَبَنِّي الإرهاب وهي منها بريئةٌ براءةَ الذئب من دم ابن يعقوب – عليهما السلام – .
* * *
وكان هشًّا بشًّا بطبيعته، يتناول كلَّ أحد بابتسامة، ما رُئِيَ قطُّ مُقَطَّبَ الجبين مهما كانت الحال، ومهما تَنَكَّر الموقفُ، وكان متواضعًا لايتعالى بأيّ من سلوكه حتى على الأصغر منه سنًّا أو علمًا أو مكانة ، وكان ينبسط لدى اللقاء مع كل أحد بنحو قلّما ينبسط مثلُه من العلماء المشهورين. وكان مِضْيَافًا يُصرِّ على ضيوفه للإصابة مما على المائدة من الأطعمة، وكان لايكتفي بوضعها عليها والالتماس من الضيـوف للجلوس إليها كما يصنع معظمُ الناس ؛ حيث لايُلحوّن على الضيوف للتناول ولا يُقَدِّمون إليهم بأيديهم شيئًا. وكان أنيقَ الملبس جميلَ المظهر، نظيف الثياب. وكانت الأناقةُ من المزايا التي عُرِفَ بها بين أوساط المدارس. وكان لطيفَ المعشر، عامرَ المجلس، وكان يعقد مجلسًا بعد صلاة العشاء، يجتمع إليه العلماء وأخلاطُ الناس وتدور فيه أحاديثُ عفويَّةٌ حولَ كلِّ موضوع: دينيّ علميّ أدبيّ تاريخيّ اجتماعيّ سياسيّ وما يهمّ المسلمين في حياتهم العامّة. وكان يستمع إلى الحضور ويشاركهم بحديثه الشيق المبنيّ على التجربة والدراسة والاطّلاع. وكان لديه رصيدٌ ثرٌّ من المعلومات والتجارب والمعارف كان يُثْرِي به رصيدَ كلِّ حاضرٍ مجلَسه، يُمِدُّه في ذلك ذكاؤه ومقدرتُه الكلاميّة .
* * *
أحيانًا ما كنتُ أُصَادِفه في الطريق بين بيته وبين سَكَنِنا “أفريقي منزل قديم” – ولم تكن بينهما إلاّ مسافة خطوات – خلال توجّهه للنزهة أو عودته من الجامعة، فكان يسابقني كالعادة في السلام، ويتناولني بترحاب وابتسامة لم أجده قطّ يفارقهما لدى ملاقاة أحد من الصغار أو الكبار، وكان لايبرح الموقفَ دون أن يستخبرني الأحوال ويتبادل حديثًا ودّيًّا عاجلاً بنبرته العذبة المعهودة يدخل به البهجة على القلب.
خلال نحو الخَمْسَ عشرة سنةً الماضية عُدْتُ أكتب بعضَ ما حَلَتْ لي الكتابةُ فيه باللغة الأرديّة بعد ما ظِلْتُ أكتفى بالكتابة بالعـربيّة. وكان باكورةُ مُؤَلَّفَاتي بالأردية Mحديث عن مغامرL وهو عبارة عن بعض انطباعاتي العفوية عن أكبر معلم للغة العربيّة في الهند في العصر الحاضر وأكبر خادم عبقريّ لها: أستاذنا الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكرانوي رحمه الله (1349- 1415هـ = 1930-1995م) فأرسلتُ نسخةً من الكتاب إليه –الشيخ الكشميريّ رحمه الله – عن طريق بعض تلاميذي فسُرَّ بهاكثيرًا، وأثنى من خلال اتصاله بي تلفونيًّا على محتويات الكتاب وأسلوبه الجميل وطرازه الفريد وطباعته الأنيقة ومظهره الرائع الجذّاب، وذكر محاسنه الظاهرة والباطنة في عدد من مجالسه كما أحاطني بذلك بعضُ تلاميذي . وتلك فضيلةٌ أخرى كان يمتاز بها عن غيره من الأقران ؛ حيثُ لم أجد في أوساطنا في ديوبند يكون قد شَجَّعَ الصغارَ أمثالي هذا التشجيعَ العفويّ الكبيرَ الذي شَفَّ عن طيب أرومته، وكبر نفسه، وسعة قلبه ؛ فلم يمارس لدى إبدائه التحبيذَ الواضحَ تجاهَ عملي الكتابيّ الأوّل المتواضع أيَّ “تحفّظ” يُمَارِسُه معظمُ الكبار لدى تحبيذ عمل من أعمال الصغار. وظِلْتُ أُهْدِي إليه نسخةً من كل مُؤَلَّف صدر لي لاحقًا؛ فَقَّرَظه تقريظاً قيِّمًا، وأشاد به شكلاً ومضمونًا فيمن كان يجلس إليه، كما أبدى كلمات الثناء أمامي لدى أول زيارة مفاجئة له سعدتُ بها في أيّ مكان. حقًّا كان كبيرًا بكثير من المعاني.
ومن خلال إبدائه آراءَه في مُؤَلَّفاتي تَبَيَّنْتُ أنه كان يقتطع فرصةً لابأس بها لقراءتها المُتَأنِّيَة من أوقاته المُزْدَحِمَة حقًّا بالاهتمامات المُكَثَّفَة والأعمال المُتَلاَحِقة، ومُعْظَمُ العلماء والمُثَقَّفِين ذوو الأقلّ منه مكانةً وشهرةً وشغلاً لايجدون دقيقةً أو دقيقتين ليتصفّحوا عملاً كتابيًا للأصغر منهم سنًّا أو مكانةً، فضلاً عن أن يتناولوه بقراءة دقيقة ؛ مما يؤكّد أنّه كان محبًّا للعلم وأهله ؛ فكان لايجد بدًّا عن الاعتناء بهما على كلّ حال .
* * *
وكان واثقًا بنفسه لحدّ كبير، يَتَجَلَّى ذلك في مواقفه التي كان يتّخذها وفي آرائه التي كان يراها؛ ومن هنا كان يختلف معه أحيانًا كثيرٌ من علماء مذهبه وأنصار جماعته أيضًا ؛ لأنّه كان لايَصْدُرُ في إطلاق الآراء أو اصطناع المواقف عن الاستشارة معهم وإنّما كان يُبْدِي مايراه هو ويهديه إليه تفكيرُه وتجربتُه. كما كان في الأغلب لاينطلق لدى إبداء رأي أو موقف من المصالح والأغراص، والمُنْطَلِق منها يَتَلَفَّت في اتّخاذ قرار أو رؤية رأى يمينًا وشمالاً؛ فلا يقول إلاّ بما يرضي الناسَ حولَه. كما أنّه كان يرى الرأيَ ارتجالاً، وكان لايعتقد إعمالَ الرويّة والتفكير طويلاً. وأوضحُ مثالٍ لذلك كلِّه تأييدُه المطلق لخطوة الحكومة الهنديّة إلى تأسيس Mهيئة المدارس الإسلامية الرسميّةL وإطلاقها لإعلانات برَّاقَة وشعــارات جاذبـة للشباب المتخرجين من المدارس إذا تَخَـــرَّجُـــوا من المدارس المنتسبة إلى الهيئة والمُسَجَّلَــة لديها. على حين إنّ معظم العلماء في الهند ولاسيّما علماء ديوبنـــد عارضـــوا هــذه الخطوةَ الحكوميّةَ ورفضوها مُطْلَقًا، ورأوها طريقًا مُمَهَّدًا للتدخل الحكوميّ المباشر في شؤون المدارس وإيجادَ حيلة للهيمنــة عليها والحدِّ من حرّيتها وبالتالي سلبها دورَها الفاعل في الحفاظ على الدين والمرابطة على الثغر الإسلاميّ. وأكّدوا أنّ الحكومةَ مهما أخفتْ حالاً ما تريده ، فإن أسلوب ممارستها في الماضي لعملية تجفيف منابع الدين والإشعاع الإسلامي يُؤَكِّد أنها ستُوَظِّفها لضرب المدارس والجامعات الإسلاميــة الأهليّة التي هي وحدها تضخّ الدمَ الطازج القاني في الجسم الإسلاميّ في هذه الديار.
* * *
بمناسبة زواج أحد أبناء بعض أساتذة دارالعلوم/ ديوبند كنّا موجودين ببلدة “تَهانَهْ بَهوَنْ” Thana Bhawan بمسكن وزاوية الشيخ الكبير والعالم الهندي المتقن أشرف علي التهانوي رحمه الله (1280-1362هـ = 1863-1943م) وذلك يوم الجمعة 18/ شوال 1427هـ الموافق 10/ نوفمبر 2006م. وكان مجلس الشيخ الكشميري بجنب الكرسي الذي كنتُ جالسًا عليه، وما إن انتهى من حديثه مع بعض العلماء الذين كانوا يصاحبونه إذ التفت إليّ بكل كيانه وأمسك بيمناي قائلاً: أخي العزيز! تعالَ، نتبادلْ بعضَ الأحاديث الودّية في عزلة عن القوم؛ فانتحينا جانبًا. وأفاض الشيخ في حديث عفويّ، وبدا لي كأنه يَشْجُنُ شجونَ الحمامة ، وقال فيما قال: إنّي والله تَعِبْتُ من تكاليف الحياة ، وعدتُ مجهودًا، وسَئِمْتُ الرحلات والخطابات، وعدتُ أحبّ أن أعتزلها حتى أتفرغ لإنهاء بعض الأعمال العلميّة التي أودّ أن أتـّخذها نهايةَ المطاف في هذه المرحلة من عمري. قلتُ له مُقَاطِعًا فقراتِه: سيّدي! أنتم الآنَ في سنّ ناضجة، وقد بدتْ آثارها على وجهكم، والتَعبُ الطبيعيُّ يفيض من ملامحكم ، وحقًّا أنا أرحم شيخوختكم، وأودّ أن أهمس في أذنيكم بكل أدب واحترام يكنّهما لكم مثلي من تلاميذكم الصغار أن تَقْبَعُوا في ديوبند، وتَتَّخِذوا جامعتَكم – جامعة الإمام الأنور – منبرًا لشنّ حركة التأليف والكتابة، والتوجيه والدعوة ؛ فقد تجوّلتم كثيرًا، وأكثرتم من الرحلات والزيارات، وإلقاء المحاضرات والخطابات، في الحفلات الدعوية والشعبية في طول البلاد وعرضها وخارج الهند كذلك. والآن ينبغي أن تقعدوا في زاوية وأن تلتقطوا الأنفاس، وتستريحوا من الكدّ الذي أصابكم به الإكثارُ من هذه التحركات المُكَثَّفَة، وأن تـُوقِفُوا باقيَ مراحل عمركم على هذه الأعمال البنائية ذات الأثر الدائم. وحَبَّذَا لو عمرتم مسجدَ جامعتكم بنفسكم في شهر رمضان المبارك بالاعتكاف وإحياء الليالي .
استمع الشيخُ لحديثي الذي كان في الواقع يُمَثِّل “جراءةً” من الصغير المتواضع على الكبير المحترم؛ ولكنّه كان يُحْسِن الاستماعَ كما كان يُحْسِن التكلّمَ. والاستماعُ للغير ولاسيّما الصغير قد لايُحْسِنُه مُعْظَمُ الكبار. وكان ذلك إحدى المزايا التي لايتمتّع بها إلاّ مثلُه من الكبار الذين يُمَثِّلون “أقليَّةً”. وأبدى قرارَه قائِلاً: إنني أفكّر في هذه الناحية التي أشرتَ بها عليَّ منذ سنوات، وأُؤَكِّد أنِّي سأعمل بها إن شاء الله. وفعلاً اتّخذ نظامًا للاعتكاف بمسجد جامعته وعدم مغادرته ديوبندَ في رمضانَ والإقلال من الرحلة إلاّ لدى حاجة ماسّة. وعَمَّمَ برنامجَه هذا عبر الصحف فسُرَّ به مُحِبُّوه وتلاميذه ؛ لأنهم رأوه أنفعَ وأجدى .
ومنذ رمضان القادم تَرْجَمَ برنامجَه إلى العمل كما قَرَّرَ؛ ولكنه ما إن أمضى أيّامًا من رمضانَ، حتى أَلَحَّ عليه المرضُ الذي علمنا فيما بعد أنه ناشئ عن فساد في الكَبِد والكُلْية، وتَلَقَّى علاجًا مُكَثَّفًا جمع فيه بين الطبّ الحديث والطبّ اليوناني العربيّ القديم، وظلّ يسافر لذلك إلى دهلي وأمكنة أخرى في الهند وغيرها، وازحم عليه العلماءُ والطلابُ والمُحِبُّون يعـودونه ويدعون له بالشفاء العاجل وكان كاتبُ هــذه السطور ومُعْظَمُ أساتذة دارالعلوم ممن عادوه مرات كثيرة، وكان يستضيف عائديه في حالة مرضه أيضًا، وكان يتحدّث إليهم في العلم والدين الأوضاع الراهنة رغم منع الأطباء عن التكلّم.
وبعضَ الأحيان شَعَرَ ببعض الشفاء، فألقى بعضَ الدروس النظاميّة في “دارالعلوم وقف بديوبند” التي كان أستاذَ الحديث فيها، كما تَحدَّث إلى الجمع الحاشد بمناسبة افتتاح المكتبة الجديدة لدارالعلوم وقف يومَ الجمعة غرة محرم 1429هـ الموافق 11/يناير 2008م. وكان ذلك آخر كلمة ألقاها في حياته في حفلة ما. وما إن مضى كبيرُ وقت حتى عَاوَدَه المرضُ الذي أصبح عُضَالاً حقًّا، وكان لايشعر ببعض البرء حتى كان يحضر الصلواتِ والجمعةَ في المسجد ؛ وفي الأيام الأخيرة قبل وفاته، كان الداءُ قد انعكس سلبيًّا حتى على ملامح وجهه ولون جلده، وأَنْهَكَ قواه، وجَهَدَه من الداخل والخارج. وكنا ندعو له ونأسف عليه كثيرًا عندما نراه مُحَطَّمًا لهذا الحدّ، ولاسيّما لأنه كان مطبوعًا على الحركة والنشاط واجتناب دواعي الانغلاق والكسل.
يومَ السبت 5/ربيع الثاني 1429هـ = 12/ أبريل 2008م اشتدّ مرضُه فنُقِلَ إلى دهلي وأُدْخِلَ المستشفى ووُضِعَ تحت العناية المُرَكَّزَة، ولكنّه لم يُبِلَّ من مرضه رغمَ العلاج المكثّف الفاعل، ولفظ في المستشفى أنفاسَه الأخيرة في نحو الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم السبت 19/ ربيع الثاني 1429هـ الموافق 26/أبريل 2008م؛ فحَزِنَتْ عليه الأوساطُ العلميةُ والدينيةُ كثيرًا ولاسيّما أوساطُ العلماء والمدارس والجامعات الإسلاميّة الأهليّة. في نحو الساعة الواحدة ظهرًا نُقِلَ جثمانُه من دهلي إلى ديوبند، ووصلَ إلى ديوبند في الساعة الخامسة عصرًا. وبعد ما تمّ غسله وتكفينُه، نُقِلَ في الساعة السابعة والنصف ليلاً إلى القاعة التحتانية للحديث الشريف بدارالعلوم ديوبند، حيث زاره العلماء والطلاب مَيِّتًا، ثم صلّى عليه بالناس في الساعة العاشرة ليلاً فضيلة الشيخ محمد سالم القاسمي العالم الهندي الكبير. وفي الحادية عشرة ليلاً وُرِّيَ جثمانه بجنب قبر والده العظيم العلاّمة المحدث أنور شاه الكشميري وشقيقه الأكبر أزهرشاه قيصر(1338-1406هـ = 1920-1985م) بن أنور شاه بجوار مصلى العيد بديوبند. رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله فسيح جنّاته.
مُوْجَزٌ من ترجمته
الاسم: أنظرشاه بن العلامة أنور شاه الكشميري.
الولادة: يومَ السبت 14/شعبان 1347هـ الموافق 29/ديسمبر 1928م.
مكان الولادة: شاه منزل، حيّ “خانقاه” بمدينة “ديوبند” بولاية “أترابراديش” بالهند.
الوفاة: حوالي الساعة 10 wيومَ السبت: 19/ربيع الثاني 1429هـ = 26/ أبريل 2008م.
ووُرِّي جثمانه بقبره بديوبند في الساعة 11 من الليلة المتخللة بين السبت والأحد: 19-20/4/1429هـ الموافق 26-27/أبريل 2008م.
المؤهلات العلمية:
شهادة المنشئ باللغة الفارسية من جامعة البنجاب عام 1944م.
شهادة المنشئ الفاضل باللغة الفارسية من جامعة البنجاب.
شهادة الأديب العالم باللغة الأردية من جامعة البنجاب .
شهادة الثانوية من جامعة البنجاب .
شهادة الدبلوم بالفارسية من قسم اللغة الفارسية من الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند.
شهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية من الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند.
وقد تَلَقَّى التعليمَ كلَّه من مرحلة الابتدائية العربية إلى ما بعدها بمدينة ديوبند. ويُذْكَرُ أنَّ الشيخ الصالح الفقيه الأديب محمد إعزاز علي الأمروهوي الديوبندي (1300-1372هـ = 1882-1952م) كان شخصيةً أساسيّة في تعليمه الديني وتربيته الإسلامية، وظلّ الشيخ عَبْرَ حياته يُعْنَىٰ بالشيخ الكشميري عنايةً فائقة لكونه نجلاً للعلامة المحدّث أنورشاه الكشميري الذي انتهت إليه مشيخة الحديث في عصره، ولأنه كان في الرابعة أو الرابعة والنصف من عمره عندما توفِّي العلاّمة أنور رحمه الله.
الأعمال التدريسية:
عُيِّن مدرسًا بدارالعلوم ديوبند عام 1372هـ/ 1953م ومنذ ذاك الوقت لعام 1980م قام بتدريس كل مادة من المواد التي يجري تدريسها بالجامعة سوى مادة الفلسفة. وكان منذ أعوام – منذ أربع سنوات – فيما قبل 1980م يدرّس صحيح البخاري والجزء الثاني من جامع الترمذي. وخلال ذلك عمل مشرفًا عامًّا على إدارة السكن الطلابيّ، كما عمل مديرًا مساعدًا للمجلس التعليمي ثم مديرًا له ورئيسًا للجامعة بالنيابة. وعندما تحكّمت فيها يوم 22/مارس 1982م الموافق 24/ جمادى الأخرى 1402هـ إدارة جديدة بعد اضطراب إدرايّ دام سنتين 1980-1982م أسست جامعة أخرى باسم “دارالعلوم وقف” بديوبند، وانتظم النظام التعليميّ لها بالمسجد الجامع بالمدينة، ثم انتقلت إلى قطعة أرضية واسعة قامت عليها مبانيها، وكان الشيخ الكشميريّ من رجالات هذه الجامعة الجديدة المتحركين ومؤسسيها ؛ حيث نشط في توفير الإمكانيات الماديّة لها، وعمل فيها يُحَرِّك الأجهزة الإدارية، ويُفَعِّل الأنشطة التعليميّة، وكان شيخَ الحديث بها يُدَرِّس صحيح البخاريّ وجامع الترمذي. وقد تخرج عليه في السنة النهائية للحديث الشريف في الجامعة الإسلامية الأم دارالعلوم ديوبند 1657 طالبًا، بينما تخرج عليه في دارالعلوم وقف 7318 طالبًا علاوة على العدد غير المُحْصَى من التلاميذ الذين قرأوا عليه كتب شتى العلوم والفنون في هذه الفترة الواسعة التي قضاها في التدريس في الجامعتين، والتي تمتدّ على أكثر من نصف قرن.
المناصب والأعمال التأسيسية والإدارية:
(1) أَسَّسَ عام 1418هـ/1997م مدرسة ذات قاعدة عريضة باسم “معهد الأنور” طَوَّرها فيما بعد وأسماها “جامعة الإمام أنور” أجرى فيها منهجًا تعليميًّا جامعًا بين المنهجين التقليدي والحديث، كما أنّه نظّم فيها حركة للتأليف والتدوين والكتابة وأنشأ لها قسمًا خاصًّا أصدر منه عددًا من مُؤَلَّفَات الإمام العلامة أنور شاه الكشميريّ، واشترى لها قطعة أرضية كبيرة أقام عليها مبنى لها وبنى فيها مسجدًا جميلاً. وهي تقع بجنب مصلى العيد ملاصقة بضريح العلاّمة أنور شاه الكشميري كما أصدر من الجامعة عام 2001م مجلة أردية شهرية لاتزال تصدر باسم “مُحَدِّث عصر”.
(2) رأس وفدًا مشرفًا رسميًّا على حجاج الهند.
(3) أكرم بجائزة المقرئ محمد طيب من قبل المدرسة الفرقانية بلكهنؤ.
(4) أكرم بجائزة الأمن البييء بمدينة سهارنبور.
(5) أكرم بجائزة رئيس الجمهورية الهندية للبراعة في اللغة العربية عام 2003م .
(6) أسس منظمة باسم Mمنظمة علماء الهندL لاتزال نشيطة .
(7) عمل عضوًا تأسيسيًّا ليوم وفاته في هيئة الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند.
المؤلفات :
1- تفسير القرآن الكريم باللغة الأردية باسم “تقرير شاهي”.
2- بركات أسماء الله الحسنى بالأردية.
3- الفيض الجاري باللغة العربية.
4- تراجم أبواب البخاري بالأردية والعربية.
5- تفردات الكشميري بالأردية.
6- “لاله و ﮔل ” بالأردية (تراجم شخصيات)
7- نقش دوام بالأردية ترجمة للعلامة الكشميري.
8- “تذكرة الإعزاز” بالأردية ترجمة للشيخ محمد إعزاز علي .
9- خطبات كشميري بالأردية مجموع خطاباته.
10- فروغ سحر بالأردية مجموع خطاباته.
11- ﮔل أفشاني ﮔـفتار بالأردية مجموع خطاباته.
12- فردوس درود وسلام بالأردية مجموع الأدعية المأثورة.
13- ربّنا بالعربية والأردية مجموع الأدعية.
الكتب التي قام بنقلها من العربية والفارسية إلى الأردية
1- تعليم المتعلم .
2- تفسير ابن كثير .
3- تفسير مدارك التنزيل.
4- تفسير الطنطاوي .
5- تفسير الجلالين.
6- تفسير مظهري .
7- شرح التفسير الحقاني.
8- تكميل الإيمان (من الفارسية إلى الأردية)
9- كشف الحاجة (شرح أحاديث).
الحياة الاجتماعية :
وُلِد للشيخ 9 أولاد. وخلّف بعد وفاته ولدًا اسمه الأستاذ السيد أحمد خضر شاه المسعودي متخرج من جامعة ديوبند و يخلفه في أعماله العلمية والإدارية والحركيّة وهو متزوج وله أولاد ، كما خلّف رحمه الله ستّ بنات، وكلهن متزوجات وذوات أولاد .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب 1429هـ = يوليو 2008م ، العـدد : 7 ، السنـة : 32