بقلم : أحمد مصطفى حافظ
في مستهلّ المحرم من كل عام هجري جديد، تُشرق في سماء الشرق الإسلامي ذكرى وفاة شاعر باكستان الكبير، الدكتور محمد إقبال، بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال.
وقد كان إقبال وطاغور، هما أبرز شعراء الهند قاطبة في العصر الحديث.. وكما يقول طاغور في رثاء إقبال، والإشادة بشاعريته: “لاريب عندي أن ما ناله شعر إقبال من قبول وصيت، يرجع إلى مافيه من نور الأدب الخالد وعظمته.. ويقيني أني و “إقبال” عاملان للصدق والجمال في الأدب ونحن نلتقي حيث يقدم القلب الإنساني والعقل – إلى عالم الإنسانية – أجمل هداياهما وأروعها.. لقد تركتْ وفاةُ إقبال في أدبنا فراغًا كبيرًا لن يُملأ إلا بعد فترة طويلة، وإن موت شاعر عالميّ كهذا، مصيبة لا تحتملها بلادنا”.
* * *
وقد أجمل (أحمد حسن الزيات) سيرة حياته في عبارة بليغة مُوجَزة، حين قال عن إقبال: إن جسمه: “نَبَتَ في رياض كشمير، وانبثق روحه من ضياء مكة، وتألّف غناؤه من ألحان شيراز: لسانًا لدين الله في العجم، يفسر القرآن بالحكمة، ويصور الإيمان بالشعر، ويدعو إلى حضارة شرقية، قوامها: الله والروح، وينفِّر من حضارة غربية، عمادها: الإنسان والمادة”.
وعن الحضارة الأوربية، يقول إقبال: “إن أوربا تُحتَضَر، والروح تموت عطشًا في سرابها الخادع.. فيها حضارة؟ نعم؛ ولكنها حضارة تُحتضر، وإن لم تمت حتف أنْفها، فلسوف تنتحر غدًا، وتذهب”..
وقد كانت أُمْنيةُ إقبال أن يُتْقِن دراسة اللغة العربية، ليُبدع فيها فنَّه بعد أن أُتيح له إتقان الفارسية والتركية، ونظم فيهما شعره بجانب اللغة الأرْديّة.
وقد تحقّقت أمنيةُ إقبال حقًا؛ ولكن بطريقة أخرى، حينما قيَّض اللهُ بعضَ الشعراء النابهين في لغتنا العربية، ومنهم الدكتورُ عبد الوهاب عزام، والشيخ الصاوي شعلان (وخاصة فيما نشره عن إقبال بمنبر الإسلام مرارًا)، ومحمد حسن الأعظمي، ومحمد عبد المنعم إبراهيم، فقاموا بترجمة الكثير من روائعه إلى العربية – شعرًا – بما يشهد بعظمة شعر إقبال.. ومن ذلك أبيات نشيده التي يقول فيها:
الصيــنُ لنا والعُـــــرْبُ لنا
والهنــدُ لنا .. والكلُ لنـــا
أضحــى الإســلامُ لنـا دينا
وجميــعُ الكــون لنــا وطنـا
(تــوحيـــد الله) لنا نُــــــورٌ
أعْــدَدْنا الــروحَ لـــه سكنا
الكـــون يــزول ولا تُمحى
في الدهر صحائفُ سُؤْددنا
بُنيتْ في الأرض معابــدُها
و(البيتُ الأول) .. كَعْبتُنا
هـــو أول بيـت نحفــــــظه
بحيـــاة الـروح ، ويحفظنـا
إلى أن يقول مخاطباً أرض (الفردوس الإسلامي المفقود):
يا ظــل حــــدائق أنــــــــدلس
أَنَسيتَ مغــــانـــي نشْأتنــــــــا
وعلــــى أغصـــــــانك أوكارٌ
عُمِـــــرت بطلائــع نشأتنـــــا
يا (دجلة) هل سَجَّلْتِ على
شَطَّيْــك مـــــآثــــرَ عـــزَّتنـــا
أمْـــواجُك تـــــروِي للدنيـــا
وتعيد جواهـــــر سيــــرتنــــا
ثم يتجه إلى (أرض الحرمين الشريفين) المقدسة، بقوله:
يا أرضُ النور من الحرمين
ويا ميـــــــلاد شــــريعتـــنا
روضُ الإسلام ودوحتُــه
في أرضك روَّاهـا دَمُنــــا
وهذان البيتان يُذَكِّرِاننا بقوله من قصيدة أُخْرى:
غَـــرْسُ الأخوَّة أصْله من يثــــــرب
هي جنةُ المأوى .. وغارُسها النبي
إنْ ضلَّتْ الدنيا .. أعــــاد صوابَها
نورُ (المدينة) لا شُعاع الكــــوكب
ثم يخاطب أمة الإسلام، بقوله:
أمة الصحراء يا شعب الخلــــــودْ
مَنْ سواكم.. حَلَّ أَغْلال الورى
أيُ داعٍ قبلكم في ذا الوجـــــــود
صاح لا (كِسْرى) هنا أو قصيرا
مَنْ سواكم .. في حديث أو قديم
أطلـــع القـــرآن . صبحًا للـــرشـاد
هاتفًا مَـــعْ مسمع الكـــون العظيم
ليس غيــــرُ الله ربًّـا .. لعبـــــــــــاد
ومن أروع قصائده التي ترجمها إلى العربية – شعرًا أيضًا – الشيخُ الصاوي شعلان، تلك التي يتحدث فيها عن السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، بقوله:
المجــدُ يُشـــرق مـــن ثلاث مطالــــــعَ
في معهـــد “فــاطمـــة” فما أغلاهــــا
هي بنت مَنْ؟ هي أُمُّ مَنْ؟ هي زوج مَنْ؟
مَنْ ذا يُــــدانِي في الفخــــار أبـاهــــا؟
هي وَمْضَــةٌ من نور عين (المصطفى)
هادي الشعـــــــوب إذا تـــروم هُـدَاها
هو رحمــــة للعــــالمين ، وكعبــــــةُ الـ
آمــــال في الــدنيــــــا وفي أُخـــــراهــا
وما أصدق وأدق الدكتور طه حسين، حينما قال عن إقبال إنه: “رفع مجدَ الآداب الإسلامية إلى الذروة، وفرض هذا المجدَ الأدبي الإسلامي على الزمان”.
تحصيله العلمي
وحينما تستعرض وقائعَ مراحل حياته، يشوقنا أن نعلم أن إقبال حَرَص على تنويع مصادر ثقافته، حينما اعتزم السفر إلى الخارج جاعلاً نُصْبَ عينيه الأخذَ بنصيحة كل من (مولانا محمد علي) والدكتور (وليّ الدين خان) – قبيل ذهابه إلى أوربا – بدراسة الفلسفة، والقانون، كوسيلة لمباشرة مهنة حرة.. فقد تمنعه قيود الوظيفة الحكومية – كما حَزَّرَا – من أن يفيد المسلمين بعلمه وآرائه الإصلاحية وقد تم له ما أراد، وما أراداه له، فقام بدراسة القانون والفلسفة بانجلترا، ونال لقب: (محام قانوني)، بجدِّه واجتهاده في نصف المدة المقررة للدراسة؛ بل وجاء ترتيبه: (الأوّل) على زملائه من الدارسين (البرياطانيين) أيضًا!.
ثم دَرَسَ الفلسفة بجامعة هايلدبرج بألمانيا، ونال درجة الدكتوراه فيها.
وقد عمل إقبال بالتدريس في الجامعة، إلا أنه لم يَقْوَ على قبول نفوذ الاستعمار، فاستقال.
وهكذا. صحَّتْ نُبُوءة ناصحيْه ..
مؤسسٌ روحيّ لباكستان
ولم يكتف إقبال بهذا الكفاح (السلبي)، أي بمجرد الاستقالة، بل تفرَّغ لرسالته العظمى في إيقاظ الشرق من غفلته، ومناواة الاستعمار، وتقليص نفوذه في الهند، ومكافحته باللسان والقلم، وشتى الوسائل الممكنة.. وتوجّ ذلك كله: بالدعوة إلى إنشاء دولة باكستان، وكان هو السَّبَّاق إلى هذه الدعوة، وإليه يرجع الفضلُ في إقامتها، بزعامة القائد محمد علي جناح، في الرابع عشر من أغسطس سنة 1947م، أي بعد وفاة إقبال بتسع سنوات.. وكان (جناح) كثيرًا ما يُردِّد قوله عن إقبال: “إنه كان دليلي ورفيقي”.
ومن – حوالي عام 1930م – بدأ تفكيرُ الدكتور إقبال في إنشاء دولة باكستان، والمناداة بذلك في شتى المحافل والمؤتمرات، ومن ذلك قوله مخاطبًا المسلمين في الهند:
“إنكم تجتازون أدق مرحلة، وتمرون بأصعب الأدوار في حياتكم السياسية، فعليكم أن تحتفظوا بالارتباط الشامل، والاتحاد القويم، في عزائمكم وجهودكم، وفي وسائلكم وغاياتكم.. وعليكم أن تؤمنوا بأنّ وجودَكم كأمة إسلامية، هو عين فائدة الهند أيضًا، فحرِّروا أنفسَكم – والهند معكم – من كل عبودية سياسية، تأتي بالمصائب، والويلات غير المتناهية، وتحرير الهند، يعني تحرير آسيا كلها”.(1)
وحينما اعترضت (لجنة نهرو) على فكرة إنشاء دولة باكستان بحجة أنه لو قامت تلك الدولة الإسلامية، فستحتل منطقة واسعة – لا يمكن السيطرة عليها – انبرى لها إقبال مُجلجلاً :
“إن الإسلام نظام تليد، تَلقَّفَتْه الإنسانية وَحْيًا من خالقها، منذ مئات ومئات السنين، قبل أن يَتَنَسَّم روحَ الحياة، مؤلفُ (العقد الاجتماعي) جان جاك روسو، فالإسلام في دعوته الخُلقية الإنسانية وفي عقيدته السامية يجعل المسلم نافعًا في كل مجال يستطيع الإقامة فيه، وفي كل زمان يحيا فيه، فهو لا يكون مغروسًا، إلا كالشجر المثمر”.
* * *
مُؤثِّرات في التكوين
وراء تنشئة إقبال والد تقي شديد الصلاح، هو الذي أحْسن إعداد نجله (إقبال) للدور الكبير الذي قام به في تاريخ بلاده، فمنذ نعومة أظفار إقبال، اتفق له أنه انْتهر سائلاً ذات مرة وتعدَّى عليه بالضرب! ولما رآه والدُه في هذا الموقفَ الشائن، أخذ يبكي بشدة، وقام باسترضاء السائل المسكين، وطفق يعظ ابنه، ويخوّفه من عقاب الآخرة، قائلاً: “سوف يحاسبني اللهُ سبحانه وتعالى على هذه الإساءة منكَ للسائل؛ لأنني والدك المسؤول عن سلوكك وأخلاقك.
سيقول رب العالمين: – إني رزقتك شابًّا صحيح البنية والعقل؛ ولكنك لم تؤَدِّبْه بأدب الإسلام، بل لم تجعله إنسانًا، وقد خلقته أنا إنسانًا.
تمثل يا بني! موقفي وذلتي وخجلي أمام الله تعالى، وأمام النبي الكريم.. تَفَكَّر قليلاً، واذْكُرْ أننا معشر المسلمين أمة، هي خير أمة أُخرجت للناس.
انظر يا بني! شيبَتي وقلقي واضطرابي، لا تفضحني أمام رب العالمين..
وقد صاغ إقبالاً – شعرًا – هذه الواقعة ، استهله بقوله:
يــــوم الزحـــام وبين الأنام
سَيُفْجعنا(2): صارخًا باكيًا
ويختتم الوالد المؤمن هذه الموعظة البَليغة لنجله، بقوله “إنك واحد من الأكمام الكثيرة، التي تنتمي إلى غصن المصطفى الأمين”.
احْرص على أن تكون وردة من نسيم ربيعه.
خُذْ من ربيع النبي النضر المُزْهر نَصيبًا، واظفر من أخلاقه بكل ما تستطيع”.
* * *
ودرس آخر ذو مغزي عميق تلَقّاه إقبال من والده، بقوله: “يرجع الفضلُ في كل ما أنشأته من شعر أو نثر إلى توجيهات أبي رحمه الله، فقد عوَّدني تلاوة القرآن الكريم بعد صلاة الصبح من كل يوم.. وكان كلما يراني سألني: ماذا أَصنع؟ فأجيب بأني أقرأ القرآن الكريم.. ثم إنه كان يعود إلى القاء هذا السؤال صبيحةَ كل يوم، فأجيبه بالجواب نفسه حتى دفعني الفضولُ والضجرُ أن أقول له: “يا والدي: أنت تراني أتلو كتاب الله، فَلِمَ تُلقي هذا السؤال عليّ؟ وأنت تعلم جوابي..” فقال رحمه الله: – بل إني أردتُ أن أقول لك: – اقْرأ القرآن، وكأنه نزل عليك. ومنذ ذلك اليوم، بدأت أتفهَّم القرآن، وأقْبل على دواخل كلماته ومعانيه، فكان من أنواره ما اقتبستُ، ومن بحره ما نظّمتُ…”.
وقد نظم إقبال تسعة دواوين من عيون الشعر الإسلامي، وقام الدكتور عبد الوهاب عزام – أول من عُنِي من العرب والعروبة بأدب إقبال – قام بترجمة معظم الدواوين التي تحمل عناوين:
- أسرار خودي.
- رموز من خودي.
- صليل الجرس.
- رسالة مشرق.
- بيام مشرق.
- ضرب الكليم.
- جاويد نامة .
كما صنف إقبال كتابه الذي يحمل عنوان: (تجديد الفكر الديني في الإسلام).
* * *
هذا، ولإقبال جانب فلسفي، يتمثل في دعوته إلى تقوية (الذاتية) عند كل مسلم، فالمسلم القوي خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالذاتية عنده أصل كل خير(3).
ويُجْمل إقبال فلسفته عن (الذات) بقوله:
“إن القطرة في البحر، حين تقْوَى ذَاتُها تُصبح دُرَّة.. إن الجبل إذا غفل عن ذاته، انقلب سهلاً، وطَغَى عليه البحر”.
فلسفة الذات
وإذا أردنا أن نقف على حقيقة فلسفة (الذات) عند إقبال، فإنّ البحث عنها لايطول – كما يقول العقاد – في شعر إقبال ونثره، ولا في سيرة حياته وسِجِلَّ مساعيه وأعماله، فهو متصوف؛ لأنه يطلب للحياة سرًا لا يراه طالبه من النظرة الأولى، وهو مسلم؛ لأن السرَ لا يوجب عليه أن يعاف نصيبه من الدنيا، ولا كفّه عن العمل ؛ بل يُطلب منه العمل الذي يراه الله والرسول والمؤمنون :
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُون، وَسَتُرَدُّوْنَ إِلىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ سورة التوبة – آية: 105.
وليس من مقتضى هذا العمل “إنكار الذات – والقول لايزال للعقاد – لأن قوة العمل قوة للعامل يحقِّق بها كمالَه، كما يحقق بها الكمالَ في قومه ودنياه. ولهذا كان “إثبات الذات”، لباب الفلسفة الإِقْباليَّة، وكانت معرفة النفس سبيلاً إلى معرفة الله، ومعرفة الكوْن.. ورائد إقبال في هذا المذهب، هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من عرف نفسه، فقد عرف ربَّه”.
ويزيد الدكتور محمد حسين هيكل (نظرية الذاتية) وضوحًا وجلاء بقوله: “الذاتية عند إقبال هي الروح المنشيء الذي أوْدعه الله الإنسان، وجعل العمل والدأب فيه وسيلتنا إلى انتشار هذه الروح فيما حولنا، وإبراز ما تنطوي عليه نفوسنا من قوة وخير، وكما ينمو جسْمنا حتى يبلغ كماله، وكما تزدهر الشجرة وتثمر، كذلك يجب أن تنمو الذاتية حتى تبلغ كمالها، ويجب أن تزدهر وتثمر، وهي لاتنمو بحكم الطبيعة كما ينمو الجسد، بل هي تنمو بالسعي والعمل الدائب الذي لاينقطع، ونموّها وازدهارها وإثمارها هو الذي يجعل للحياة قيمتها، وهو الذي ينشيء في الحياة جديدًا، وهو الذي يُضْفي علينا القوة، ويُجنبنا تحكّمَ الغير فينا.. أما القعود عن العمل فيجعلنا عالة على غيرنا نتسوَّل من فضله، ونُصبح أذلة له، ونفقد بذلك حريتنا…”
وما تقدم، يفسر لنا موقفه من (موسوليني)، حينما قال له بعد حديث طويل بينهما أثناء زيارته لإيطاليا: من مَلَكَ الحديد مَلَكَ كل شيء، فردّ عليه إقبال على الفور، بقوله: مَنْ كان هو في ذاته حديدًا، فهو كل شيء.
* * *
ومن مأثور أقوال إقبال:
تلقَّيْتُ درسًا من إسْراء النبي صلى الله عليه وسلم، هو: أنَّ السماء ليست بعيدة عن مُتناول البشر.
وحينما ترك عمله تحت وطأة الاستعمار البريطاني للهند، قال على لسان الشاهين (أي النسر)، واصفاً واقع الحال:
إني هجرتُ مساكنَ الدنيا إلى رَحْب الفضاء
وأبيْتُ رزقَ الذُّل تحت الظّلّ من حَبّ وماء
لأهيمُ في الغــــابات في شُمِّ الجبــال كما أشاء
فمـــوائـــدُ العيش المُهين طعامها: سُمّ الفنـــاء!
ولم يكن ابتعاده عن رِقِّ الوظيفة، كما قدَّمنا، ابتعادًا سلبيًا؛ ولكن الهدف منه كان- كما يقول:
ضرْبُ الغُزاة.. بضربة الأبطالِ في يومِ النــــــــزال
ومن الهُجومِ، إلى الدِّفاعِ، إلى الْوُثوبِ، إلى الْقِتال
في مثل هذا.. أسْتطيبُ منـــاهلَ الـــــرزقِ الحلال
لا في الــــذليلِ من الطعامِ، وحولــــــه الماءُ الزلال
ثم يصوِّر في قصيدة أخرى شموخه وتعفُّفه عن كل ما يشدُّه إلى تراب الأرض، باعتباره أحد كبار النفوس القليلين في زماننا هذا، فيقول:
الأرضُ بستــــانُ البـــلابلِ، للتــرنُّم والغنــــاء
والقُبَّـــــةُ الـــــزرقاءُ ميـــداني، إلى غَيرِ انْتهاء
أنا ناسكٌ بين الطيورِ، وخَلْوتي.. عبْرَ الهواء
لا يَبْتَنِي الشاهينُ وكـرًا، إن منـــزلَــه السماء
أما مَنْ يُماليء الاستعمار ويخون وطنَه، فإن إقْبال يصوِّر مصيره، حينما ينتهي إلى .. القبر، ويُجْرِي حديثًا للقبر معه، يقول فيه(4):
يا أيهـــا الشيخُ المُلِــــمُّ بحفــــرتي
وعليه مَيْسم ذِلَّـــــــــةٍ وصَغــــــار
يشكو التــــرابُ إلَيَّ حين حَلَلْته
فَحَلَلْتَ من مثـــواك دار بَــــوَار
فبظلمِ نفسِكَ زاد ليلُ ظلمـــــة
يطوي دجاها صفحةَ الأنـــوار
وتكاد أرضُ الله تلفظ جُثــــــة
جعلَتْ ثـَرَاها.. مَسْكنًا للعار!
ولا يفوتنا أن نثبت بعض أبيات رائعته المشهورة: (حديث الروح)، التي يستهلها بقوله:
حديثُ الروحِ للأرواحِ يُسْري
وتُـــدركـــه القلــوبُ بلا عَناء
هتفتُ به ، فطارَ بـــلا جناح
وشقَّ أنينهُ صــــدْرَ الفضـــــاء
ومَعْــــدنُــــه تـــرابيٌّ ؛ ولكن
جَرَتْ في لفْظه لغــــةُ السماء
وصدق (الصاوي شعلان)، عندما وقف عند قبر إقبال، وقال:
عجبْتُ لنَجْم مُشـــرق وهـــو غائِبٌ
ومحتجبٌ .. مــازال يــبدو ويظْهَـــرُ
ولم أر نجْمًا قطُّ بعــد احتجــــابــــــــه
يــزيــد ضِيــــاءً في العيون ويُبْهـــــــر
سَلِ الجوْهر المكنون في باطن الثرى
متى عاد للأصداف قبلك جـــوْهر؟!
ولا نجد أبلغ من قول (الدكتور عبد الوهاب عزام)، حينما خاطب (إقبال) بقوله في يوم ذكراه الأولى:
“إقبال!
يا شاعر الإسلام! أنرتَ مقاصدَه، وجلوْتَ فضائله، وأضأتَ سراجه، وأوْضحْتَ منْهاجه، ودعوت المسلمين إلى المجد الذي يكافئ دَعْوتهم، ويلائم سُنَّتهم ، ويناسب تاريخهم.
إقبال!
يا شاعر الشرق! أشَدْتَ بمآثره، وفَخرْتَ بروحانيَّته، وأخذتَ على الغرب: الماديَّة الصمَّاء، والغرور والكبرياء، ونقدْتَ قادته؛ دَحَضْتَ باطلهم، وأبْطلْت سحرهم”.
ولم تسلم شعوبُ الأمة العربية من زفرة قلبه المكلوم، حين هتف فيهم قائلاً:
كلُّ شعبٍ قام يَبْني نهضـــــــه
وأرى بُنْيــــانَكُم منقِسمـــــــــــًا
في قــــديم الـــدهـــر كُنتم أمَّةً
لهْفَ نفسي: كيف صِرْتُمْ أممًا؟
هذا في حين يصف المسلم القوي، بقوله:
يَبْتَسم المسلـــــــمُ في سِلمـــه
عن رقة المــاء ولين الحريــــر
وتُبْصر الفــولادَ في عَزَمتــــه
إذا دعا للحرب نَادَى النفير
وما أروع قوله، قُبيل وفاته بساعات:
بقلبي ســــرُّ جُثمــــان وروح
فلا فَزَعْ إذا أَجلي أتـــــــــاني
فإمَّا غاب عن عينيّ كــــــوْنٌ
فباقٍ.. ألْفُ كَوْنٍ في جنـاني
ويقول:
“الذاتية ما الذاتية؟” .
إنها يقظة الكائنات، إنها بحر في قطرة، هي ضياء القمر، وشرار في الحجر.. ماضيها الأزل، وآيتها الأبد..
إن سر الحياة، أن يغوص الإنسان في نفسه، ثم يَبْرُزُ منها، كما تغوص القطرة في البحر، فتصير: لؤلؤة.. وأن يتجمع الشرار تحت الرماد، فيصير: شعلة تُبهر الأَبصارَ..”(5).
رحم الله إقبالاً، رحمة واسعة.
الهوامش:
- انظر مجلة (التمدن الإسلامي) عدد ربيع الثاني 1380هـ .. ص 285.
- يعني (السائل)، وترجمة هذا البيت – شعرًا – لصاحب هذه السطور .
- انظر مقالاً للدكتور عبد الوهاب عزام عن إقبال بمجلة الكتاب عدد ديسمبر 1951م.
- هذه الترجمة الشعرية تُنشر لأول مرة وقد عارت عليها في كراسة صغيرة تحتوي ترجمة نثرية وشعرية إلى العربية من نتاج إقبال وكان المرحوم الشاعر محمد عبد المنعم إبراهيم قد سلّمها لي قبيل وفاته بأيام قلائل .
- انظر كتاب الدكتور عبد القادر محمود: (مذاهب وأفكار – في الفلسفة والفن) من ص 340 إلى ص 353.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الثانية 1429هـ = يونيو 2008م ، العـدد : 6 ، السنـة : 32.