بقلم : الدكتور محمد شهاب الدين السبيلي
الدكتور محمد حميد الله (رحمه الله) قام بأبرز الخدمات في مختلف شُعَب العلوم الإسلامية؛ ولكن موضوع كتابة السيرة النبوية، يُعْتَبَرُ من خواصّ موضوعه، والمجالُ الذي خاض فيه العلماء وبالغوا في الاعتناء به ولعبوا فيه دورًا ملموسًا، قد فاق الدكتور في نفس المجال وامتاز به على الأقران. وحينما يرى العلماء أن هذا الموضوعَ “موضوع السيرة النبوية” لايحتاج إلى الزيادة فيه بالنظر إلى وجود الكتب الضخمة القيمة كأمثال “السيرة النبوية” للعلامة شبلي النعماني والسيد سليمان الندوي – رحمهما الله – في اللغة الأردوية قد أثبت الدكتور من منهج تحقيقاته بأن هذا الموضوعَ ومجالَه واسعٌ مرتدح، وله عمق وأبعاد تحتاج إلى السير في أغواره؛ من أجل ذلك قد اعتبره العلماء المعاصرون من روّاد الكتابة في السيرة ــــــ ولماذا يُعطى لكتابته في السيرة هذا القدرُ من الأهميّة والاهتمام؟ ولماذا نشأت الحركة الجديدة بكتابته في الساحة العلمية و أوساط العلماء؟ اُحاول في السطور الآتية الإجابةَ عن هذه التساؤلات، وأتناول بعض مزاياه في الكتابة في هذا الموضوع.
النظر إلى السيرة النبوية بمنظار مقتضى العصر
لم ينظر الدكتور إلى السيرة النبوية بمنظارها العادي المعهود، وإنما رأى أن السيرة هذه، هي ثروة إنسانية عالمية فيها الرسالةُ للبشرية جمعاء، مُنطلِقـة من قيود الأمكنة، ولايصح ربطها بقوم أو عصر، ولا ينبغي تأطيرها بحدود جغرافية أو إسنادها إلى ساحة سياسية، ولاينبغي النظرُ إليها برؤية عنصرية أو قومية أو وطنية؛ لأن فيها الموهبة الكاملة والكفاءة التامة لحل جميع المسائل ومقتضيات العصر؛ فالحاجة ماسة لأَنْ تُطَالَع السيرةُ ويُنْظَر إليها بمنظار متناسق مع مقتضيات العصر الراهن. ولو سرحنا الأنظارَ إلى مؤلَّفات الدكتور محمد حميد الله لوجدنا عناوين معظمها مبتكرة. ولقد حاول الدكتور أن يزيد في ذخائر السيرة النبوية ويضيف إليها الجوانب الغريبة كأمثال “الرسول وحياته السياسية” و “نظام الحكم في العهد النبوي” و “تراتيب الدراسة والتعليم في العهد النبوي” و “ساحة القتال في العهد النبوي” و “الرسول وثائقه السياسية” و “رسالة السيرة النبوية إلى العصر الراهن”. ولا يرتاب أحد في أن مثلَ هذه المواضيع والعناوين تطابق حاجةَ العصر الراهن ومتطلباته. والدكتور لم يتناول هذا الموضوع مجردَ التناول، وإنما قام بالبحث المُشْبِع فيه، ويبدو كلُّ مُؤَلّف من مؤلَّفاته من البدائع في التأليف من جميع الجهات من المحتويات والمواد والأساليب والمستوى .
يُرى عامة أن مؤلِّفًا لو شحذ القلمَ وأطلق عنانَه وبدأ يكتب في موضوع جديد فلا يَقدِّم أمام الناظرين والقراء إلا النقاط الأساسية والمبدئية؛ ولكن يتبلور من مؤلَّفاته أنه لم يتناول الموضوعَ هكذا. وإنما حاول الوفاء بحقه، وتناول جميع جوانبه بشكل قد يخفى عن الأعين، أو لايتطرق إليه الذهن، وينطبع على الذهن بقراءَتها أنه جاء بكتابه جامع محتوٍ لايسع الزيادة فيه .
أسلوبه الاستنتاجي
أسلوب كتابته يتناسق مع أساليب الاجتهاد والاستنباط، إنّه عرض موضوعَ السيرة في قالب يمكن لـدارسي السيــرة والمطالعين إيّاها أن يجدوا فيها الدروس والعِبَر، وتَنَبَّط فيها جوانبَ العلم والاكتشاف، مُعرِضًا عن أسلوب سرد الوقائع والقصص. ونجد أنه يستنتج النقاط ويأتي بالاكتشافـــات من كل واقعـــة وحادثـــة؛ لأنه يرى أن حياته وسيـــرتـــه صلى الله عليه وسلم تحتل المكانةَ القانونيــة أكثرَ من أن تكــون مجردَّ بيان الأيام والليالي ووقائع الحياة، ولا شك أن هذا الأسلوب لايتخذ الصبغةَ الجديدة المتناسقـــة من الأسلوب العلمي المعاصر وإنما يشير إلى طبيعتــه الأخّاذة ومذاقه الموفور بموهبة الإبداع والاستنتاج، فنرى أنه قد يسرد واقعة من الوقائع العادية بأسلوبه المميز البديع، لايترك القارئَ إلا أنّه يجد فيه نوعًا من الاكتشاف والابتكار.
ولو أخذنا مؤلَّفة من مؤلَّفاته، وسرحنا الأنظار على محتوياتها، نجد المعارفَ الجديدة والنِكاتَ العلمية مبعثرة فيها، ولوقُمنا بجمعها وتدوينها بين الدفتين لظهر مجلَّد ضخم يُروي غليل الباحثين، ونجد في كتاباته مالا نجد في كتب غيره. انتشل الدكتور – رحمه الله – من الوقائع مالم يلتفت إليه الآخرون .
الاستفادة من المخطوطات والمصادر القديمة
نجد مستوى كتابته في السيرة يرتفع جدًا ويتألّق، لايكتب واقعة إلاّ ويبحث فيها بحثًا دقيقًا وينخلها نخلاً، ولايتقاصر في البحث عن المصادر وتحقيق الواقعة بدقة؛ لذا يُوجَد الإكثارُ من الإحالة إلى المصادر القديمة في كتابته، فقد عثر على ذخائر نادرة منقطعة عند مساس الحاجة مالم يعثر عليها الغيرُ، وتقاصرت هممُ عامَّة أهل العلم دون الوصول إليها .
وكتاب “سيرة ابن إسحاق” الذي يُعْتَبر من أوثق المصادر الثابتة وأهمها وأقدمها وأغناها في السيرة النبوية، وكانت الإحالات والمقتطفات تُوجد في المؤلَّفات إلا أن الكتاب نفسَه كان منقرضًا؛ لكنه قد عثر عليه بجده واجتهاده المتواصل، وقام بنشره وطبعه بعد تحقيقه والتعليق عليه. وهكذا يسّر لأهل العلم الاستفادة من كتاب “أنساب الأشراف” للمؤرخ العالمي المعروف العلامة البلاذري بمساعيه الجادة وعمله الدؤوب، وكتاب “المحبر” لابن حبيب البغدادي الذي كان نادرًا مخَفيًّا عن أعين الناس، قد قام بطباعته وساعدَ أهلَ العلم في الانتفاع به بإخراجه إلى حيز الظهور. ولاشك أن مثلَ هذه الخدمات العلمية والمآثر الثقافية أبرزُ دليل وأزكى شهادة على حسن مذاقه في التحقيق، وأجلُّ برهان على مستواه الرفيع في مجال التأليف والتحرير.
والدكتور محمد حميد الله باعتباره الكاتبَ التحرير في “السيرة النبوية” يتمتع بميزة يمتاز بها عن الآخرين حيث أنه لم يكتف عند تدوين وقائع السيرة بالمواد الموجودة في الكتب والمراجع والمصادر، وإنما بحث فيه عمليًا، وتمتّع بالمعاينة والمشاهدة الشخصية عندما مسّت إليها الحاجة.
وعند تأليف كتاب “ساحة القتال في العهد النبوي” لم يتمكن من معرفة الوجوه والأسباب التي دفعت إلى إقامة القتال بمناسبة غزوة أُحد عقب عمران المدينة، ولم يجد نكتةً تُوحِيه سرَّ ذلك، فترك تأليف الكتاب وتوقف عن إتمامه. ولما تشرّف بالحج بعد عشرين سنة وحظي بسعادة زيارة المدينة المنورة وعاين الأماكنَ ومَرَافقها استعدّ لإنهاء تأليفه؛ ولكنه لم يقم بإكماله إلا بعد ما ارتفع الظلام وانجلت الغيام وزال التوتر والارتباك، وظل خائضًا في التحقيق والبحث ردحًا من الزمن حتى انكشف السر واطمئن القلب، ولا شك أن هذا المستوى الرفيع للبحث والتحقيق لا يوجد لدى معظم الكُتّاب في السيرة النبوية .
والدكتور طبيعته التحقيقية هذه إنما هي فطرته التي فطره الله عليها، فينظر إلى مساري الحياة ومجرياتها بمنظاره العلمي والتحقيقي فلا يتكل على مجرد الشهادة التاريخية وإنما يتناول حقائق العلوم الطبيعية أيضًا، ولايصرف النظر عن الاكتشافات العلمية .
أسلوب الواقعي والعلمي
وهكذا يبدو في كتاباته أنه يتحاشى عن الإسهاب بإيراد العبارات الفارغة، وطرح المزاعم والمظنونات البعيدة، وبالمبالغة بلاجدوى، وإنما يساير مع الواقعية والجديدة، فيذكر كل جانب من جوانب السيرة دون زيادة أو تقصير، ولايهتم بما إذا رآى القارئ غير المتعمق أسلوبَه هذا غيرَ جميل؛ لأنه يرى وجوب التأكيد على هذه الجوانب من السيرة بطريق يطمئن به القلب ويعترف به العقل ويقع في الخاطر؛ لأن حياته صلى الله عليه وسلم أسوة يجب تقليدها واتباعها للبشرية جمعاء، فنرى أنه حينما يذكر المهاجرين، يذكر أولاً كيفية حل قضاياهم المعيشية ومشاكلهم الاقتصادية عقب وصولهم إلى المدينة ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قضى على هذه المشكلة مؤقتًا بالموأخاة بين المهاجرين والأنصار ثم يأتي بالتفاصيل ويشير إلى أن معيشة النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كيف تم تدبيرها وانتظامها، ويحاول بسرد التفاصيل لإثبات كيفية حل قضيته المعيشية منذ قدومه إلى المدينة حتى غزوة بدر الكبرى، ولاشك أن معظم الكُتّاب في السيرة النبوية لم يدرسوا هذا الجانب دراسة متأنية جدية وواقعية ولعلهم صرفوا النظر وأعرضوا عنها خشية أن يجعلوا هذه القضية موضوع بحث ونقاش.
أسلوبه في الرد على المستشرقين
وهكذا من أسلوب كتابته في السيرة، أنّه إذا يمرُّ بواقعة من وقائع السيرة جعلها الأغيار هدفًا للانتقاد بدافع المعاداة مع الإسلام ورسوله، يرد عليهم بكامل الشكيمة والشحامة والوقار العلمي بالاستناد إلى الإدلة والبراهين، وإلى الاكتشافات الجديدة. وعلى سبيل المثال أنه قام بالرد على المستشرقين في قولهم بعدم تغطية النبي صلى الله عليه وسلم الوجهَ عند نزول الوحي كعامة الكهنة، ردًا مُقنِّعًا شافيًا، وهكذا أثيرت الشبهات والتساؤلات منهم حول تدوين الحديث ، فرد عليهم الردود الوافية وأثبت صحةَ الأحاديث ومعيار تفحصها .
هذا: وقد اجتهد في العثور على “صحيفة همام بن منبه” حتى توصل إليها، وقام بطبعها ونشرها، وهكذا أثبت أن الأحاديث لم يتم تدوينها في القرون المتأخرة بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما بدأ عمله في عهده صلى الله عليه وسلم. وقد تجاوزت مؤلَّفاته من (150) مائة وخمسين مؤلفًا ونجد أسلوبه الإبداعي الفريد في جميع هذه المؤلَّفات.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الثانية 1429هـ = يونيو 2008م ، العـدد : 6 ، السنـة : 32.