دهى الجزيرة أمر لا عزاء له …

         قدَّر الله تعالى لكاتب هذه السطور أن يزور في الأيام الأخيرة بلدًا من بلاده؛ بلدًا إسلاميًّا، بلد كلمة التوحيد؛ بلدًا تنفس في جوه، وتشرب من مائه، وأكل من ثمراته؛ وذاق فيه حلوالعيش ومره؛ بلدًا هو منزل الوحي، ومبعث الدين، ومهوى القلوب، ومثابة الهوى والعروبة، ومستراح الأرواح، والموطن الأول لكل مسلم بغض النظر عن انتمائه؛ وملهمة الشعراء، فيه أمجاد الماضي وآمال المستقبل، فيه الدين والدنيا؛ بلدًا أتى عليه حين من الدهر طويل يسوده الحجاب يغطي نساءه من مفرق رؤوسهن إلى أخمص أقدامهن، فلايرى منهن حتى العيون والأكف والأقدام؛ بلدًا كله عفة وطهر و تستر، وصون وحجاب. فلاترى نساءه إلا ربات الخدور في قعر بيوتهن أو مع أولياء أمورهن من آباء وإخوة. فكان كل ذلك دليلا صارخًا على عز المرأة، ومكانتها، وقوتها، و وقارها، واحترامها، وحمايتها في مجتمعها، على عكس ما تتعرض له المرأة الغربية والشرقية، وفي مختلف أصقاع الأرض تحت شعارات براقة، تخدع البسطاء، وتستهوي الخبثاء؛ فإن ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب والخسران: كالفن والحرية، والاستقلال، ومكافحة الجهل و التخلف من المهانة والذل، ودوس الكرامة، وانتهاك الحرمات، وانهيار الأخلاق، وضياع القيم و المثل، وتلاشي حريتها التي تئن تحت جمرها، بعد أن رأت بأم عينيها بريقها المزور، وقناعها المزيف؛ من جراء السفور الفاشي في مجتمعها، الذي مزق الحجب حجابًا بعد حجابٍ.

         بلدًا عربيًا بمعنى الكلمة: عربيًّا بلسانه، وتقاليده، ومثله، ومجتمعه، يمتاز عن غيره من البلاد العربية بأن الداخل إليه – لزيارة أو عمل- يرى من أول واجباته أن يتعلم اللغة العربية؛ لأنها لغة القوم، ولغة التخاطب بين مواطنيه ووافديه على حد سواء، فيجد نفسه مدفوعة – شاء أم أبى- إلى تعلم هذه اللغة التي كان أهلها يعتزون بها، وكانوا عليها غيارى أشد من غيرة المرء على قرينه، فلا يسمحون حتى لعامل النظافة إلا أن يتعلمها بالقدر الذي يسمح به مكنته واستعداده، وبالقدر الذي يحتاج إليه في مخاطبة القوم، وتسيير شؤونه على أقل التقديرات.

         وجاءت هذه الزيارة بعد طول اجتناب هذه البلاد وأهلها، فإذا كل شيء قد انقلب رأسًا على عقب، وفقدت بها صديقي، ولم أجد البلاد كما هي، على عكس ما قاله أحد شعراء الحماسة – وهو إِيَاس بن الْقَائِف-:

         إذا زرتُ أَرضًا بعد طول اجتنابها

فقدتُ صديقي، والبلاد كَمَا هيا

وتذكرت ما قاله أبو قطيفة:

         ألا ليت شعري هل تغير بعدنا

جنوب المصلى أم كعهدي القرائن

         وهل أدور حول البلاط عوامر

من  الحي أم هل بالمدينة ساكن

و

         ألا ليت شعري هل تغير بعدنا

قباء، وهل زال العقيق وحاضره

         نزلتُ على المطار؛ فإذا كل شيء على غير ما تركته، وما ظننت إلا أني نازل في مدريد أو فيينا أو غيرهما من المدن الأوربية؛ فلما قالوا لي: هذه المدينة الفلانية، شُدهت، فوجدتني لا أكاد أعرفها. و وقفت في طابور طويل على المطار بين يدي إحدى موظفات الجوازات- وهن الأكثر، وأما الرجال من موظفي الجوازات فربما يعدُّون على أصابع اليد الواحدة -، وكأنها حديثة عهد بهذه المسؤولية، ولم تمارس هذه المهنة إلا عن وقت قريب، فطال الانتظار، وكثر القيل والقال، فلما جاء الدور علي تقدمت بجوازي إليها، فوجهت إلي بعض الأسئلة الروتينية، ولم تفاجئني إلا بلغتها الإنجليزية، وأنا أتحدث إليها باللغة العربية، فكان ذلك مشهدًا صادمًا لي، فكدت أكذب سمعي، فقلت وأنا أغادر المكان: العربية إلينا – نحن المسلمين – أحب من الإنجليزية. فعبست، وقطبت وجهها، ولم تنبس ببنت شفة.

         ودخلت المدينة، فتوجهت إلى بعض المحال التي تبيع شرائح الهواتف الجوالة، فوجدت الموظف عربيًّا في الصميم: بدله وسمته، وشماغه وغطرته، وثوبه، فقالت لي نفسي: لا بد أنه عربي النطق واللسان، فسلمت عليه فحياني بأحسن منها أو مثلها، و رحب بي، ثم كشف لي عن سريرته، و وجَّه لي بعض الأسئلة باللغة الإنجليزية برطانة واضحة فيها، يلوي لسانه بها، فكأنه كان يوهمني أنه إنجليزي بحت، معتز بإنجليزيته، ومحتقر ومزدرٍ بعربيته، فاستغفرت الله تعالى، وقلت في نفسي: هل أصبحت العربية غريبة في دارها، وأجنبية بين من كانوا حماتها وأنصارها؛ مبذولة في مجتمعها؟ وبدأت أسترجع ذكريات الماضي الحبيب، ذكريات محمد-♀- وصحبه، أولئك القوم من السلف الصالح، الذين:

         لهم منتهى حبي وصفو مودتي

ومحض الهوى مني، وللناس سائره

         إن العربية وشبه الجزيرة العربية ينبوع قوتنا، وردها آباؤنا فصدروا عنها أئمة الهدى، وملوك الدنيا شرقها وغربها، ونحن إذ أخطأنا الطريق، وسلكنا بُنيات السبيل، وذهبنا نبحث عن العز في غير مكانه: في لندن، وباريس، وموسكو… وفي اللغة الإنجليزية وغيرها، بعد أن تخلينا أو كدنا نتخلى عن ديننا ولغتنا، فعدنا بخفي حنين أو بلا خف، ولم نرجع إلا بالذل والهوان، وصدق عمر الفاروق رضي الله عنه إذ قال: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله».

         والذي قال: «عليكم بديوان العرب؛ فإن فيه تفسير كتابكم». قال الشيخ محمد المجذوب في تعليقه على هذا الأثر: «ولعله – رضي الله عنه- راعى ما فيه من تسجيل عاداتهم وأخلاقهم وتاريخ وقائعهم وأيامهم وما أودعوه من معادن حكمتهم وكنوز آدابهم».

         أكتب هذه الكلمات والعين تفيض دموعًا؛ بل دماءً، والفؤاد يتمزق أسى وشجنًا على ما رأيت وشاهدت، وليتني لم أر ما رأيت، ولم أشاهد ما شاهدت:

         دهى الجزيرة أمر لا عزاء له

هوى له أحد وانهد ثهلان

و

         لمثل هذا يذوب القلب من كمد

إن كان في القلب إسلام وإيمان

         كنا طلابًا في بعض الجامعات العربية في قسم اللغة العربية، وكان أحد أساتذتها الغيارى على الدين واللغة يقص علينا قصصًا عاشها في بلاد أوربا حين كان يحضر لمرحلة الماجستير أو الدكتوراه في بعض جامعاتها، وكان أستاذه أحد الأوربيين الذين كان لهم القدح المعلى واليد الطويلة في اللغة العربية تحدثًا وكتابةً واستيعابًا. وكان من غيرة هذا الأستاذ الأوربي على لغته أنه كان لايستخدم غير الإنجليزية حتى مع طلابه الناطقين باللغة العربية، وهم ضعفاء في اللغة الإنجليزية.          إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47

Related Posts