كنا شببة متقاربين في السن، نتلقى الدراسة الدينية في بعض المدارس الأهلية الهندية، ونجتمع على أساتذة وشيوخ في العلم والأدب والحديث والفقه. ثم تخرجنا فيها، وكتب الله تعالى لبعض زملائنا أن يتوجه للدراسة ثم للعمل إلى الدول الخليجية العربية. ويقضي فيها ما شاء الله تعالى أن يقضي من زهرة عمره، وريعان شبابه، وشيئًا لابأس به من كهولته.
ونحن الهنود وكثير من المسلمين المنتمين إلى مختلف البلاد الإسلامية وغير الإسلامية قد عُجنت طينتنا- إلا من عصمه الله تعالى من هذا الداء الوبيل- بالإكثار من الشكوى، والتظلم، والتشكي. فإذا نال أحدَنا من زميله أو شيخه أو مسؤوله في الدراسة والعمل سوء أو مكروه أو سمع أذى أو بلغه أن فلانًا من الناس يسيء الظن به أو يقول فيه مالايحبه ولايرضاه، لم يلبث أن يجِدَ عليه في نفسه قبل أن يتأكد من البلاغ والخبر، فيضمر في نفسه ما لايعلمه إلا الله تعالى من السوء والبغيضة، والمكيدة والحرب. وكثيرًا ما يدخل الكذوب المحتال بين المتحابين فينم إليه من حبيبه ما لم يكن، ويأتي بما لم يقل، ويفعل، فلايزال بهما حتى يحملهما على التقاطع والتدابر والتباغض والمشاحنة، ويفسد بينهما.
والحق أن المصارحة فيما بين الناس – مهما قست – خير من النفاق والتشكي والتظلم إلى من لايقدر على أن يشفيهم. وما أكثر من يلاطفك ويجاملك في التعامل، ويثني عليك ويطريك بما هو فيك وبما ليس فيك، و يرقيك بالقصائد «المسومة»، فإذا خرج من عندك وفارقك، اتهمك بسوء المعاملة و الاعتداء عليه، وأضمر في نفسه المكيدة والشر. وما أكثر مَن يتأذى من الآخرين، ولكن لايجد من نفسه جرأة على المواجهة والمصارحة به لهم.
وربما تجد صديقًا من أصدقائك قد أخطأ، أو انحرف عما هو الحق والصواب، فتؤاكله وتشاربه و تجالسه وتخالطه دون أن تتجرأ على المصارحة له بما فيه من الخطإ والانحراف، فلاتأخذ على يده، ولا تمنعه عما هو فيه رغبةً في الإبقاء على صداقته وحبه لك فيما تزعم. وهو الداء الدوي الذي ابتليت به الأمم قبلنا، وقطع دابرهم.
والدين الإسلامي يحث على المصارحة والوضوح كثيرًا قبل الحكم على أحدٍ من الناس بسوء أو شر. وما قصة حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- منا ببعيد؛ فقد بلغ النبي ﷺ أمرُ الكتاب الذي أرسله حاطب إلى أهل مكة بيد امرأة قدمت المدينة، فبعث النبي -ﷺ- بعض أصحابه وراء المرأة، فلحقوا بها، واستخرجوا منها الكتاب، ورجعوا إلى المدينة، فلما عُرض الكتاب على رسول الله ﷺ، وعلم أنه من حاطب بن أبي بلتعة طلبه، ولم يتعجل في معاقبته قبل أن يصارحه بالأمر، ويسأله عنه في رحابة صدر وعطف: «ما حملك على ما صنعت»؟ فقال حاطب: والله، ما بي إلا أن أكون مؤمنًا بالله ورسوله-ﷺ-، أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال: «صدق، لا تقولوا إلا خيرًا».
فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: «أليس من أهل بدر؟ – فقال-: لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة- أو- قد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.. وزاد البخاري في كتاب المغازي: فأنزل الله السورة: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة/1].
لِنَقِفْ هنا أمام عظمة الرسول ﷺ وسموّ شأنه وعلوّ منزلته؛ حيث إنه لم يستعجل في مؤاخذة حاطب، وإنما صارحه بالأمر، و واجهه به حتى يدرك الأسباب الدافعة له إلى ذلك.ثم منع الصحابة-رضي الله عنهم- عن الطعن فيه، قائلا: «صدق، لا تقولوا إلا خيرًا»… لنتأمل جيدًا موقف الرسول الكريم المتأني الذي لايغض الطرف عن جميع ظروف القضية وملابساتها.
وكان من حديث صاحبنا الذي ذكرناه آنفا أنه وجد العرب – على ما تسرب إليهم من عادات غيرهم وتقاليدهم- على غاية من الصراحة والوضوح، والمواجهة بالأمر لمن يهمه دون التشكي والتظلم إلى غيره. فكان صاحبنا ربما تشكى إلى أحد زملائه العرب مسؤولَه أو زميله في العمل فلا يلبث صاحبه أن يقول له: هل واجهته بذلك؟ وهلا صارحته بالأمر الذي تشتكيه إلي؟
وهذه القيمة الإنسانية الإسلامية تشكل في الواقع صمام الأمن من كثير من مساوئ الظنون، وسدًّا منيعًا ضد كثير من الويلات التي نواجهها نحن العجم من جرّاء الابتلاء بمثل هذه الشنائع. والعرب أمة عجنت طينتهم بقلة التشكي، يقول تأبط شرّا:
قَلِيل التَّشَكي لِلمُهِمِّ يُصِيبهُ
كثيرُ الْهوى شَتَّى النَّوَى وَالمسَالِكِ
وقال دريد بن الصِّمة يرثي أخاه عبد الله بن الصمة:
قَلِيلُ التّشَكّي للمُصِيبَاتِ، حَافِظٌ،
مِنَ اليَوْمِ، أَعْقَابَ الأحَادِيثِ في غَدِ. أبو عائض القاسمي المباركفوري
مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47