يشهد كثير من دول العالم اليوم وضعًا مأساويًّا من القتل والهرج، ويذهب ضحيته عشيةً و ضحاها كثير من الأبرياء الذين لايكون لهم ناقة ولا جمل في كثير من الأحيان. وتصاعدُ وتيرة القتل هذه له قراءات وتفسيرات مختلفة متعددة تعددَ المذاهب الفكرية والوسائل المستخدمة لقراءتها وتفسيرها. و الذي لايختلف فيه اثنان أن هذه الظاهرة المؤلمة أصبحت تدق ناقوس الخطر للمجتمعات البشرية كلها. ولاشك أن ارتفاع معدل الجرائم، وخاصةً القتل وسفك الدماء على المستوى العالمي والمحلي يعكس أزمةً أخلاقيةً واجتماعيةً ودينيةً معًا. ويرجع كثير من الخبراء في العالم هذه الظاهرة المشينة إلى ثالوث الفقر و البطالة والمخدرات، وأنه أعان على خلق جوٍّ قابل لتمدد العنف، والقتل العشوائي، ومن غير ذنب، ودون مبررات شرعية وقانونية؛ بل لأتفه الدوافع والملابسات، كما نقرأ أن أهل الجاهلية قبل الإسلام كانوا يتقاتلون لأتفه الأسباب، وبدون الأسباب أحيانًا، فتستمر الحرب بينهم سنين طوالًا. وما قصة حرب البسوس وغيرها من حروب الجاهلية ببعيد.
خُذ أيَّ صحيفة يوميةٍ أو غيرها في صباحك، وقلِّب النظر في صفحاتها تلامس عيناك أخبارًا بالقتل والهرج، تصدِّع الرؤوس، وتُدمع العيون، وتُدمي القلوب: حالات قتل لأتفه الأسباب: يقتل الأب ابنه، والابن أباه، والأخ أخاه، والرجل زوجته، والمرأة بعلها.
ونقرأ هذه الظاهرة المقلقة المتفاقمة مع مرور الأيام في ضوء النصوص الشرعية الإسلامية من القرآن والسنة النبوية، فترشدنا إلى السبب الحقيقي، وتضع النقاط على الحروف؛ فقد روى الإمام مالك-♫- عن يحيى بن سعيد، أنه بلغه، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: «ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عليهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولاختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو».[الموطأ برقم 1670].
كم من محاكم العالم تحكم بالحق والعدل، وكم من القضاة يراعون جانب الصدق والواقعية في القضايا المطروحة لديهم للدراسة وإصدار الحكم فيها ؟ إنها مأساة حقًّا، مأساة أتت على الأخضر و اليابس على هذه المعمورة. وإن كثيرًا من القضاة يتحاشون -كل التحاشي- أن يخطئوا في تطبيق القانون الذي بين أيديهم خطأً يؤاخذهم عليه مَن منَّ عليهم بهذا الكرسي الذي يزهون بالجلوس عليه على أقرانهم وأترابهم، ويتعاظمون على بني جنسهم، وذلك مخافةَ أن يحرمهم إياه. وأما الأخذ على يد الظالم، والانتصاف للمظلوم، و إراحة الحق على صاحبه، وإنزال العقوبات على من يستحقها، وإن خالفه في دينه وعقيدته، وأفكاره و آرائه في شؤون الحياة؛ فلايقيم أحدهم لشيء منه وزنًا وقيمةً حين إصدار الحكم، والبتّ في القضية، وإنما يعدُّ كل ذلك ذيولا وأذنابًا.
وقد أولى الإسلامُ – وهو أشد الأديان حرصًا على حقن الدماء، وصيانة الأعراض، والأموال- جانب الحكم بالحق، أيما عناية و أهمية، فدعت كثير من نصوص القرآن والسنة النبوية إلى الحكم بالحق والقسط، وحذرت من الجور والظلم والحيف، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ﴾ [المائدة:42]
وقال مخاطبا عامة المسلمين: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة:8]. [التحرير] (تحريرًا في الساعة العاشرة صباحًا من يوم الثلاثاء: 15/صفر1444هـ= 13/سبتمبر2022م)
مجلة الداعي، ربيع الآخر 1444هـ = نوفمبر 2022م، العدد: 4، السنة: 47