إساءة أيُّ إساءة إلى النبي ﷺ أن يقال : إنه – ﷺ – كان عشيقًا للّه تعالى

الفكر الإسلامي 

بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي

المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م

تعريب : أبو أسامة نور

       إن بعض الناس يصفون النبيَّ ﷺ ، أنه كان عشيقًا لله تعالى ؛ فهناك شعراء يقولون الشعر حاملاً لهذا المعنى . إن العشق خاصّتُه أن يجعل العاشق يقلق ويهِيم ، والله تعالى مُنَزَّهٌ من ذلك . ولكن المؤسف أن بعض المجترئين سلّموا له تعالى معنى القلق والهيمان ؛ فيقول شاعر من هؤلاء : «لإزالة القلق وكسب السلوان بعث محمدًا ﷺ مُمَثِّلاً قميصَ يوسفَ لصالح يعقوب عليه السلام ، فاحتفظ بظله ﷺ لديه» .

       يعني الشاعر أن الله تعالى بعث محمدًا ﷺ إلى الدنيا ، وبما أنه كان عشيقًا له تعالى ، والعاشقُ لايتسلّى عن العشيق ، فاحتفظ عنده بظله لتسلية نفسه . وذلك كما تسلّى يعقوبُ عليه السلام بقميص يوسف عليه السلام .

       ومثلُ هذا البيت ليس من المديح النبويّ في شيء، وإنما هو إساءة إلى الله تعالى إساءةً بالغةً ، كما أنه في الوقت نفسه إساءة إلى النبي ﷺ ، وإنشادُ مثل هذا الشعر والاستماعُ له فيهما إثم كبير؛ فالاحتراز من ذلك واجبٌ . وقد يُجنّ بعض من يحسبون متدينين فينشدون أمثال هذه الأبيات في تذوق مهما كانت معانيه لاتتفق والشريعةَ .

       وهناك أبيات تسيء إلى الأنبياء الآخرين ؛ ولكن الناس لايبالون بذلك ، ويطيبون بقراءتها نفسًا . على كل ، فاعتباره ﷺ عشيقًا له تعالى إساءة إليه تعالى لحد لايوصف ؛ لأن العشق يخص بني آدم ؛ حيث إنه عبارة عن انفعال نفسي يحدث لدى الإنسان ، والله تعالى منزه من الانفعال والتأثر. نعم كان ﷺ حبيبًا لديه دونما شكّ . وإن حمل أحدٌ «العشقَ» على المعنى المجازيّ ، فذلك يحتاج إلى إذن شرعيّ . ولو كان ذلك في أبيات من غلبته الحال، فربما يُعْذَرُ .

روحُ الميت لا تعود إلى الدنيا

       لا أرى صحيحًا ما هو شائع لدى العامّة من أن روح الميت قــد تعود إلى الدنيا متلبسةً بحيّ من الأحياء ؛ وإن كانت بعض الآثار تثير هذا الشك وتجعل المرأ يشتبه بذلك . يقول القرآن إن الكافر يقول بعد ما يموت : «رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَّرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُوْنَ» (المؤمنون/99-100).

       فذلك يدل على أن الميت يكون بين الممات والقيامة في حالة يتمنى فيها العودةَ إلى الدنيا ، ولكن البرزخ يحول دون الرجوع إلى الدنيا . والعقل أيضًا يقتضي أنه إذا كان الميت في حالة التنعم ، فلا حاجة به إلى أن يعود إلى الدنيا متلبسًا بغيره . إن الحديث يقول إن مع كل إنسان شيطانًا ومَلَكاً ، فيجوز أن يكون ذلك الشيطان هو الذي يمسّ الإنسان الحيَّ ، ويُسَمِّي لدى المسّ من كان معه في حياته . وقد يجوز أن يكون شيطان آخر غيره . والشيطان يقول عنه الحديث : «يجري من الإنسان مجرى الدم» . أما أن تالإنسان مجرى الدم< >يره . الا ومَلَكاً ، فيجوز أن يكون ذلك الشيطان هو الذي يمسّ الإنسان الحيَّ ، ويُسَمِّي لدى المسّ من ؤثر الأرواح البشرية بعد موت أصحابها على الأحياء ، فذلك لايجوز أبدًا . ولو قال أحد : إن الأرواح لايتعيّن أن ترجع إلى الدنيا ؛ فإنها يمكن أن تتصرف من بعيد، من حيث هي موجودة . فذلك إذا كان ممكنًا فإن وقوعه يحتاج إلى دليل قوي من الشريعة. فالإمكان لايكفي .

القول ببطلان القياس الفقهي باطل

       لايجوز أن يشك أحد ويقول : إن القياس القفهي باطل؛ لأن فيه اتباعًا لأمر تحقيقُه ليس مُؤَكَّدًا؛ حيث إن الحكم المجتهد فيه ظنٌّ ، وليس يقينًا، وقد ذمّ القرآن في آية من آياته اتّباعَ الظنّ : «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الَحقِّ شَيْئًا» (النجم/28).

       والإجابة عن هذه الشبهة : إذا أكّدت الدلائل الشرعية المستقلة أن الاجتهاد والقياس جائزان بل واجبان لدى الحاجة ، فإنه لايصدق في شأنهما : «مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ» (الإسراء/36) وإنما يكون ذلك مصداق (ما لك به علم) لأن عمومَ العلم يشمل باليقين الدلائل الشرعيّةَ المستقلةَ التي تُثْبِت أنّ القياسَ حجةٌ . وإن لم يشمل «العلمُ» القياسَ ، لكان العمل به اتباعًا لـ«مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ» ، فإذا شمل القياسَ كان اتباعًا لـ«ما لك به علم» . أمّا اتباع الظّن الذي ذَمَّهُ القرآنُ ، فليس المراد به المصطلح الفقهيّ ؛ لأن الظنّ في المصطلح القرآني عامٌ لكل من الباطلِ بطلانًا محتّمًا والدليلِ المعارض الصحيح ؛ فجاء على ألسنة المنكرين للبعث : «إِنْ تَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا» (الجاثية/32) فكانوا لايرون احتمالاً لوقوع البعث ، فضلاً عن أن يروه احتمالاً راجحًا أو يروه عندهم معارضًا للصحيح المطابق للواقع ؛ ولكن القرآن عَبَّرَ عنه بـ«الظنّ» ؛ فثبت أن الظَّنَّ عامٌّ في اصطلاح القرآن، يشمل الأمورَ الباطلةَ وغيرَها . إذاً يكون معنى الآية الكريمة : (إن يتبعون إلاّ ما خالفَ الدليلَ القطعيَّ . وكلُّ ما خالفَ الدليلَ القطعيَّ لا يغني من الحق شيئًا؛ بل هو باطل قطعًا). فهذه الآية هي الأخرى فَنَّدت كلّ مجال لإثارة الشبّهة .

تفنيد الشبهة حول انقطاع الاجتهاد

       يقول الذين لايقولون بتقليد مذهب من المذاهب الفقهية المتبعة : إن الأحنافَ هل نزل عليهم الوحيُ بانقطاع الاجتهاد ؟ على حين إن القاعدة الطبيعية تقضي بوقوع كل شيء في أوانه وفي وقت الحاجة إليه. فنزول المطر عادة لايتم إلاّ في موسم الحاجة إليه، وكذلك الرياح لاتجري إلاّ في أوقات الحاجة إليها . والأمكنة التي يكثر فيها البرد حيواناتُها تحمل أشعارًا طويلة على أجسامها. ولهذه القاعدة أمثلة مطردة . وكذلك فعند ما مست الحاجة إلى تدوين الحديث ، وُجـِد كثير من العلماء أقوياء الذاكرة ، لايوجد أمثالهم اليوم . إن المحدثين أيضًا لايوجد فيهم من يداني الإمامين : البخاري ومسلم في حفظ الأحاديث مع الأسناد . وعلى هذا ما دامت الحاجة ماسة إلى تدوين الدين وُجـِد من يتمتعون بقوة الاجتهاد . وبما أن الدين قد تمّ تدوينه ، وصارت الأصول والقواعد مُمَهَّدَةً فلم تبق حاجة إلى الاجتهاد . نعم لاتزال القوة الاجتهادية باقية لدى العلماء للقدر الذي تمس به الحاجة إلى الاجتهاد . أي إن العلماء لايزالون يستخرجون الجزئيات الجديدة في ضوء الأصول التي قرّرها المجتهدون الكبار في الماضي .

الحاجة ماسّة جدًّا اليوم إلى التقليد الشخصي للحفاظ على الدين

       إنّ الجواز قائم في مكانه في شأن تقليد عدد من العلماء المجتهدين ، كما يرجع رجل إلى شيخ ويتلقى منه مشورة في شأن قراءة ورد من الأوراد، ثم يرجع في وقت آخر إلى شيخ آخر ويستشيره في شأن قراءة ورد آخر . فاتباع عدد من المجتهدين جائز في مكانه ، وقد درج السلف الكرام على ذلك ؛ حيث كانوا يراجعون في قضية الإمامَ أبا حنيفة ، وفي أخرى الإمام الأوزاعي . وبالنظر إلى عادة السلف يطمع الناس اليوم كذلك في انتهاج منهاجهم ؛ ولكن ذلك رغم جوازه يمنع من ذلك عارض قويّ .

       وقبل أن نتحدث عن العارض ، أرى أن أطرح أولاً مقدمة وهي : أن العبرة إنما تكون بالحالة الغالبة، فالحالة الغالبة أن الناس في الماضي كانوا أكثر تدينًا من الناس اليوم ، فهم يراجعون عددًا من العلماء إمّا بشكل اتفاقي ، أو لأنهم يريدون أنهم سيأخذون بقول من يرونه أحوط . على كل فلو كانت حالة التدين مثلما كانت في الماضي ، لما أُمِرَ الناس باتباع مجتهد واحد . وما كانت الحاجة لتبقى مستمرة ، وقد تكهَّن الحديث بأنه «ثم يفشو الكذب» أي إن الناس حالتُهم تتغير بعد القرون المشهود لها بالخير ، ويفشو الكذب ، فساءت حالة الناس على قدر بعدهم عن هذه القرون . وقد سادت حالة الإعجاب بالنفس والمصلحيّة ؛ فالناس لايراجعون عددًا من العلماء إلاّ لكي يعملوا بقول من يحقق مصلحتهم ويواتي غرضهم .

قصة عن المصلحية

       هناك بلدة قريبة من بلدتي – تَهانَهْ بهَوَنْ – تمّ فيها زواج رجل مع امرأة وبعد ذلك انكشف انهما رضعا امرأةً . وجاءني رجل ليسألني عن المخلص ، قلت له : إن الزواج لم يصحّ ، ويجب التفريق بينهما. قال: إن ذلك سيؤدي إلى سوء السمعة على نطاق كبير ؛ فلا معدى عن أن تستخرجوا حيلةً للجواز . قلت : التفريق لايستلزم سوء السمعة ، وإنما السمعة تسوء في حالة عدم التفريق ؛ حيث إن الناس سيقولون : إن هؤلاء جمعوا بين الأخ والأخت . وثانيًا : مهما استلزم التفريق سوء السمعة فإن العمل بالشريعة واجب ؛ فلا عبرة لسوء السمعة مقابل الشريعة. قال: إنّ الرجل كان قد مَجَّ ما ارتضعه من اللبن ولم يبتلعه . قلت له : مهما صنع من الابتلاع أو المجّ فإن الصنيعين سواء في حق الحرمة. وعندما وجد منى إجابة صارمة ، قصد دهلي ، ودخل على «عامل» بالحديث ؛ ليجد عنده ما يحقق مراده . فقال الرجلُ : إن كان الارتضاع أقلَّ من خمس مصّات لا تثبت الحرمة . فاستفتاه قائلاً : إن هناك رجلاً ارتضع أقل من المصتين فهل ثبتت الحرمة أم لا؟ قال الرجل : لاتحرم المصة ولا المصتان. فسر الرجل المستفتي كثيرًا، وجاء «الزوجين» بهذه الفتوى ، قائلاً : إنها أيضًا فتوى عالم ، ولا حرج في العمل بها . فهذ الزمان قد ابتلي فيه الإنسان بمثل هذه المصلحيّة . ولسائل أن يسائله : يا عبد الله ! هل كنت تعدّ المصّات حالَة ارتضاعه ، حتى علمت عددَها . ولو صحّ ذلك فإنّه لايبرأ من التهمة ؛ حيث لم يرض بفتوى الحرمة، ورضي بفتوى الحلال . على حين إن الذي أفتى بالحلّ لم يكن يشاركه المذهبَ . ولابأس بذلك إذا كان ذلك هو مذهب المستفتي من ذي قبل ؛ ولكنه لما رأى أن مذهبه لايساعده وإنّما يساعده المذهب الذي لايتّبعه ، فأخذ به ، فآثر الدنيا على الدين . والمؤسف أن بعض «ذوي العلم» أيضًا اشتبهوا بذلك، وقالوا : ماذا يضرّ إذا عُمِلَ بمذهب إمام آخر في قضية مجتهد فيها . ولم يدروا أن رسول الله ﷺ قال : «إنما الأعمال بالنيات» فالعمل بمذهب إمام آخر لايتحقق اليوم باعتباره دينًا وإنما يتحقق باعتباره دنيًا، ولتحقيق غرض دنيوي .

حكاية

       ساق العلاّمة الشامي حكايةً مفادها أن فقيهًا خطب ابنته إلى محدّث ، فقال : سأتزوجها على أن تقوم برفع اليدين وبالتأمين بالجهر ، فقبل الفقيه الشرط ، وتَمَّ الزواج . وذُكِرَ الحادث لدى شيخ، فأطرق رأسه ، وفكّر قليلاً ثم قال: إني أخاف ذهاب إيمان الفقيه ؛ لأنه كان يعمل بما كان يعمل به من ترك رفع اليدين والتأمين سرًّا ، اعتقادًا بكونه سنّة ، فترك ما كان يعرفه ويعمل به سنةً إلى غيره دونما دليل قوي عنده ، وإنما تركه لغرض دنيوي.

الحاجة إلى تقليد شخص معيّن

       ففي مثل هذا الوضع الذي نعيشه اليوم ، لولم يُقَيَّد الإنسان بتقليد إمام معين ، فــإنّــــه سيأخذ من كل إمام ما يراه يفي بغرضه وينزل لدى هواه. فمثلاً توضّأ ثم خرج الدم من مكان من جسمه ، فإن وضوءه انقضى لدى الإمام أبي حينفة ، ولم ينقض على مذهب الإمام الشافعيّ ، فسيأخذ ههنا بمذهبه. ثم لمس زوجته ، فانقضى وضوؤه على مذهب الإمام الشافعي ، ولم ينقض على مذهب الإمام أبي حنيفة ، فسيأخذ ههنا بمذهبه . على حين إن الجمع بين السببين المذكورين قضى على الوضوء لدى كليهما . أما لدى أبي حنيفة فلخروج الدم ، وأما لدى الشافعي فلمس المرأة ؛ ولكن مثل هذا الرجل لن يبالي بشيء ؛ حيث سيأخذ بقول كل إمام إذا كان يرضي هواه، ولا يأخذ بما لايحقق مراده . وهنا لايبقى الدين وإنما يبقى المصلحيّة واتباع الهوى . وذلك هو الفرق بيننا وبين السلف ، فكانوا لايحتاجون لتقليد شخص معين ، لأنهم كانوا ملتزمين بالدين بشدة ، وكانوا لايرغبون في السهولة وتحقيق إملاءات الهوى . أما نحن فعدنا محكومين بالمصالح والأغراض ومتهالكين على اليسر والسهولة ؛ فنحن بحاجة إلى أن نقلد شخصًا مُعَيَّنًا ، ليس لأننا نؤمن بكون ذلك واجبًا أو فرضًا ، وإنما نؤمن بأن ذلك يضمن انتظام الدين وفي عدمه يلزم سوء الانتظام . إن من يترك التقليد لو عمل بما هو أحوط لدى كل إمام لتعرَّض للمصيبة ، ولو عمل بما هو سهل لدى كل منهم لكان متبعًا لهواه . فالتقليد فيه راحة ومخلص من الفتن و وقاية للنفس . وكما أن تقليد إمام فيه هذه الحكمة التي أشرنا إليها كذلك ينبغي أن لايراجع لدى الحاجة في مذهب من المذاهب إلاّ عالمًا واحدًا، لأن علماء مذهب واحد قد يختلفون اختلافًا كبيرًا في استنباط الجزئيات والفروع. فإنه لو ترك المرأ حرًّا، لأخذ برأي عالم يوافق قولُه هواه، ولا يلتفت لعالم رأيُه يعارض هواه .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1427هـ = يناير 2007م ، العـدد : 12 ، السنـة : 30.

Related Posts