الفكر الإسلامي
بقلم : الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ/1880م
رئيس الطائفة المؤسسة لجامعة ديوبند
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة
مقــــدّمـــــــة
بقلم : الشيخ فخر الحسن
تلميذ الإمام محمد قاسم النانوتوي
يقول شاعر فارسي :
«إنَّ طلوع الشمس دليل على الشمس نفسها، فإن كنت تبغي دليلاً عليها فانظر إلى قرص الشمس ولاتُعْرِض عنه» .
اللهمَّ ! أنت المحيط بكل شيء والغالب على كل شيء ، وكلٌ باحث عنك ومبتغٍ إيَّاك ، إلا أنَّ إدراكك يفوق الوهم ، ويعلو الخيال ، ويتجاوز القياس ؛ فرسولك الصادق : محمد ﷺ أنقذ الناس من عبودية الآلهة المصطنعة ، وأيقظ ما أودعتَ قلب كل إنسانٍ من مبادئ الفطرة ؛ وعلَّم كلامك المقدَّس : القرآن الكريم الإيمانَ بالغيب و الإنابة إليك ، مما يجدر بعبوديتنا وألوهيتك ، ويليق بنقائصنا وفضائلك .
اللهم ! إنَّ آخر رسلك : محمدًا ﷺ وأفضلهم الذي نطق بكلامك المقدَّس ، وأنار العقل والقلب بنور هدايتك – علَّم علمًا و هدى طريقًا هو للنَّاس الرحمةُ الكاملة والنعمةُ العظمى ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
ولا بدَّ للوصول إلى هذا الطريق من الطلب المخلص والشوق البالغ ؛ ولم يبخل الزمان – حتى الآن – بورثة الأنبياء وفحول العلماء الذين يُفَسِّرون مرضاة الله ويشرحون علوم الأنبياء مما يشفي صدور السامعين ويَسُرُّ قلوب القارئين .
وقد عُقِدَ معرض «معرفة الذات الإلـٰـهية» في «شاهجهانفور» الذي حضره علماء المسلمين والهندوس والمسيحيين ، وجرت بينهم مناقشات ومحاورات في الدين . يسجل كاتب السطور : أحقر العباد فخر الحسن مداولات المعرض ويقدِّمها إلى القراء .
لماذا انعقد المعرض ؟ :
كان المنشئ «بيارى لال» من أهالي «جاندبور» بمديرية «شاهجهانفور» مؤسسًا لهذا المعرض ، وكان رجلاً ثريًا وإقطاعيًا كبيرًا ، وكان القسيس «نولس» – الذي كان معلمًا في المدرسة التبشيرية في «شاهجهانفور» إلى العام الماضي ، وانتقل الآن إلى مدينة «كانفور» – إذا زار قُرى شاهجهانفور وأريافها نزل بقرية «جاندبور» وألقى بها كلمته ، وكان المنشئ يستمع لكلمته . أخذ القسيس يستميله إلى نفسه رويدًا رويدًا ، ويتودد إليه حتى تأتر المنشئ بالقسيس الأوربي وأخلاقه وصحبته تأثيرًا شديدًا ، وبلغ منه التأثير كل مبلغٍ . ثم إنه زاد المنشئَ لقاؤه إعزازًا وتوقيرًا .
فلما رأى المنشئَ أصحابُه وجلساؤُه أنَّه تغيَّر عما كان عليه من قبل ، وأخذ ينتقد ما كان عليه آباؤه من الدين ، أشاروا عليه أن يعقد معرضًا لمعرفة الذات الألـٰـهية في بساتينه على شاطئ نهر «غَرَّا» بقرية «سربانغ بور» بالقرب من «جاندبور» ويحضره علماء الديانات المختلفة ويناقشون ويحاورون فيما بينهم بحثًا عن الدين الحق ، كما يحضره خلق كثير من الناس من قاضي البلاد ودانيها . مما يتجلى الدين الحق ، ويعود المعرض بفوائد أخرى .
وهكذا كان ، فقد استأذن المنشئ من السيد «رابرت جورج كهري» حاكم مديرية «شاهجهانفور» ، وعقد معرضًا في حمَّارة القيظ في 7/ مايو في العام الماضي ، حضره القسيس «نولس» ممثل المسيحية ، والمولوي محمد قاسم والمولوي أبوالمنصور ممثلا المسلمين .
فقد جاءت نتائجه ظاهرة جلية ؛ فقد حَاز فخارَ النصرِ المولويُّ محمد قاسم صاحب الإزار الأزرق ، وطبَّق صيته في الآفاق .
لقد تركَ المعرضُ أثرًا كبيرًا على عامة الناس وخاصتهم وشاهدهم وغائبهم ، كما قوَّتْ خطب الشيخ محمد قاسم نور الإيمان في قلوب المسلمين ، وكشفت الغطاء عن عيون المنشئ الذي كان يرمق إلى القساوسة ، ثم وجدهم ساكتين حيارى . وكان عامة الهندوس إذا رأوا الشيخ مارًا بسكة أو طريق قالوا: «هذا المولوي هو الذي جعل القساوسة خرسًا وبكمًا ، فكأنه نبي مرسل» .
كان المعرض والمحاورات التي جرت فيه ممتعًا جدًا ، مما أثار كوامن الشوق في قلوب الناس إلى معرفة الذات الإلـٰـهية ؛ فتقرر انعقاده في فصل الربيع كل عام ، وأما في هذه السنة فقد تقرر انعقاده في 19 ، 20 /مارس ، وأصدر المنشئ إعلانات ولاصقات عن المعرض ودعا العلماء الذين كانوا قد حضروا المعرض في السنة الماضية ، وكتب إليهم ، كما تناولتِ الصحف أخبار المعرض وأنباءه.
الحرص على الدعوة إلى اللّه :
هذا إلى أنّه قد انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم بأنَّ المعرض سيحضره كبار علماء الهندوس والقساوسة ، لم يُرِدْ الشيخ محمد قاسم والشيخ أبو المنصور بالحضور ظنًّا منهما بأنَّ السفر يُكَلِّفُ مبالغ باهظة ويؤدي إلى إضاعة الأوقات ، إلا أنهما لما سمعا بأنَّ المعرض سيحضره كبار رجال الدين ومشاهيرهم همَّا بالسفر مخافة أن يحمل الناس عدم حضورهم على الإعراض والفرار ؛ فسافرا على بركة الله بالقطار من «دهلي» إلى «شاهجهانفور» ومعهما نفر قليل من المحاورين والمتفرجين .
نزلوا من القطار على محطة «شاهجهانفور» في الثالثة ظهرًا في 17/ مارس ، وقد حضر المحطة المولوي حفيظ الله خان استقبالا لهم ، وذهب بهم إلى منزل الشيخ عبد الغفور ، وبالغ في حفاوتهم وأكرم مثواهم . استجموا بالراحة في 18/ مارس، وحصلوا على برنامج المعرض ، فعلموا أنه تجري المحاورات في المعرض يومين بدءًا من السابعة والنصف صباحًا إلى الحادية عشرة ضحىً ، ومن الواحدة ظهرًا إلى الرابعةعصرًا .
الدعاء لإعلاء كلمة الله :
استيقظ علماء المسلمين في الهزيع الأخير من الليل في 19/ مارس ، ويمموا شطر المعرض ، وكان يبعد عن مدينة «شاهجهانفور» نحو 24 كلوميترًا ، وكانوا ركَّابًا ، وأما الشيخ محمد قاسم فكان ماشيًا على قدميه ، فوصل المعرض عند مطلع الشمس ؛ فتوضأ من ماء النهر، وتنَفَّل بركعاتٍ ، ثم ابتهل إلى الله خاشعًا متضرعًا ، وأغلب الظن أنه دعا لإعلاء كلمة الله ؛ لأنه كان يقول – منذ غادر دهلي – لكل من قابله أن يدعو الله ليعِليَ كلمته ويُحِق حقه .
فلما وصلوا المعرض وجدوا الخيام مضروبة ، والقساوسة غُيَّبًا ، فاحتاروا بأن موعد الحوار قد حان ، والمحاورين غائبون ، فجلسوا في ظلال الأشجار الوارفة بالقرب من خيامهم ، وإذا بالسيد موتي ميان حاكم المديرية تشريفيًا ، حضر ، وانقطع إلى تنظيم المعرض ، فلما كانت التاسعة نهارًا تراءى لنا رجلان أو رجال من القساوسة ، فتأخر الحوار عن موعده أكثر من ساعتين ، فاجتمع الناس في قاعة الحوار في الساعة العاشرة .
اختيار الممثلين :
استشار الفرق الثلاث بأن يختاروا ممثلين لهم ، ويحدِّدوا شروط الحوار والمناقشة ، ثم يبدؤوا بالحوار؛ فاخْتِيْرَ الشيخ «محمد قاسم» والشيخ «عبد المجيد» مُمثلَيْنِ من الإسلام ، والقس «نولس» والقس «واكر» ممثلين من المسيحية ، والباندت «ديانند سرستي» والمنشئ «إندرمن» ممثلين من الهندوسية ، وكان السيد «موتي ميان» مشرفًا على المعرض .
تحديد فترة الكلمة لكل ممثل :
قال القَسُّ «نولس» : يُسْمَحُ لكل ممثلٍ لإلقاء كلمته عن الدين وطرح الأسئلة والإجابة عنها بخمسة دقائق ؛ فقال علماء المسلمين : إنَّ الدقائق الخمس قليلة لاتكفي لشرح الدين والمناقشة عنه . وإنما نرى إما أن تجرى الحوارات ثلاثة أيام بأن يلقي كل ممثل كلمته عن دينه ساعة أو ساعتين ويسمع الاعتراض عليه ويجيب عنه يومًا . وإما أن يُسْمَحَ الممثل للكلمة ساعة أو ساعتين وللمناقشة من عشر دقائق إلى عشرين دقيقةً .
لم يرض القساوسة بأيٍّ من الأمرين أصلاً ، وإن قلنا وأصررنا بأن الدقائق الخمس لاتكفي لإلقاء الكلمة ؛ فالنزاعات الدنيوية يستغرق فصلها والمناقشة فيها أيامًا وأسابيع فما بالكم بالبحث عن الدين ، وهل يتم ذلك في غضون خمس دقائق ؟ . نحن أعضاء في الاجتماع ، ولابُدَّ أن تعير اهتمامًا لما نرى ، إلا أنهم لم يرفعوا لما قلنا رأسًا .
حيلة القساوسة :
تحايل القس «نولس» فجعَلَ المنشئ «بيارى لال» والباندت «مكتابرشاد» عضوين لمجلس الشورى ، وقالَ : هذان مؤسسا المعرض ؛ فلابد لهما من الرأي ، فوافقاه في الرأي لما كان بينهم من تعاقد سري، فظَفِرَ بالحيلة ، فقالو : إنما العبرة بكثرة الآراء ، ودعا القساوسة كلهم إلى الخيمة وقالَ لهم : لابد من العبرة بكثرة الآراء .
فما أدلى القس «نولس» من الرأي وافقه علماء الهندوس كلَّ الموافقة . اضطَرَّ الشيخ اضطرارًا ، ونهض قائلاً : إنما تعملون بما ترون من الرأي ، ولا تُعيرون لمشورتنا اهتمامًا ، فقد تصدَّعْنا منذ ثلاث ساعات ، ولم تلقوا على ما رأينا بالاً ؛ فافعلوا ما شئتم ، فنحن مستعدون للحوار ، سواء حدِّدوا خمس دقائق أو أقل منها .
هذه ميكدة :
رجع الشيخ إلى خيمته ، وأراد المنشئ «بيارى لال» أن يستشير السيد «موتي ميان» فعبس السيد «موتي ميان» وقطب قائلاً : «إننا لن نحضر المعرض في الأعوام المقبلة ؛ فإنكم لا تسمعون لما يقول المسلمون ، ويوافقون القساوسة في آرائهم كلَّ الموافقة دونما روية وتفكير، كلُّ هذا يدل على الميكدة والتعاقد السري فيما بينكم .
ثم جاء المنشئ «بيارى لال» إلى الشيخ محمد قاسم وأخذ يعتذر إليه قائلاً : «أنا عاجز مكتوف الأيدي ؛ فالقساوسة لايَسْمَعون لما أرى أصلاً ، وأنا أرجوك أن تعذرني وتقبل طلبي ، فقال الشيخ : «أنا مضطر إلى قبول ما تدلون به من الرأي ، إلا أنه يسوءني منك أنك مؤسس المعرض ، ثم تنحاز إلى القساوسة ، وكان عليك أن تعاملنا جميعًا بالعدل والسوية ، فكرر المنشئ الاعتذار ، وشكر الشيخ جزيل الشكر قائلاً له : «إنك تقبل طلبي واعتذاري، وأما القساوسة فمعاندون ومكابرون لايسمعون رأيًا ، فإن خالفناهم نخاف ذهابهم .
لا أوافق على هذين الأمرين كذلك :
بينما هما كذلك إذ قال الشيخ للمنشئ : «علىكلٍّ فدَعْ ما مضى ، إلا أنه عليك أن تَرْضىٰ وتُرْضِي القُسَّ بأنَّ نصف اليوم قد ضاع في النزاع لتحديد الوقت ، فليجر الحوار ثلاثة أيام عوضًا عما ضاعَ من الوقت ، وأن يُسْمَحَ لكل ممثل نصف ساعةٍ لإلقاء كلمته .وافق المنشئ على هذين الأمرين، ثم ذهب إلى القساوسة ، وأتى بالرد من قبلهم بأن القس «نولس» يقول : إني لا أوافق على هذين الأمرين ، إلا أنه إن حال دون مكثي حائل ، فالقُسُّ «إسكات» الذي سيصل اليوم يمكث في اليوم الثالث ويحاورك .
تناول علماء المسلمين الغداء ، وصلَّوُا الظهر، ثم سمعوا أنَّ الناس سيحضرون مخيَّم الحوار، فدخلوا المخيَّم ، فوجدوا أنَّ علماء الهندوس لما يحضروا . وقد اغتصت المخيمات بالمستمعين .
وفيما مضى من الوقت في انتظار علماء الهندوس أقبل الشيخ على القس «نولس» قائلاً : «إنك لم توافقني في توسيع الوقت رغم إصراري . فارضَ بأن ألقي كلمةً ساعةً بعد انتهاء الاجتماع في الرابعة عصرًا بالغد ، وتسمع أنت كلمتي ، ولك أن تُوجِّهَ الاعتراضات إلى كلمتي بعد انتهائها ؛ بل من شاء فليعترض على كلمتي وأنا أرد عليه».
ثم قال القسُّ : «فإن أُلْقِ الكلمة في أوقات الفراغ فهل تسمع أنت كلمتي» قال الشيخ : «نعم! على أن تسْمَحَ لي بالاعتراض وطرح الأسئلة» فقال القسُّ : «فأنا أسمع كلمتك كذلك» .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1427هـ = يناير 2007م ، العـدد : 12 ، السنـة : 30.