بقلم:  الأستاذ البهي الخولي

         ﴿إِلَّا ‌تَنصُرُوهُ ‌فَقَدۡ ‌نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ﴾.

– 1 –

         في هذه الآية الكريمة من عبر الهجرة، ما يثبت الإيمان، ويزيد المرء بصيرة بتوحيد الله عز وجل، وثقة بأسرار الحق في هذا الوجود.

         فالله سبحانه يقرر فيها أنه نصر رسوله ﷺ في ظروف تجمع فيها لعدوه كل ما يعرف الناس حينئذ من أسباب الغلبة، دون أن يجتمع له منها سبب واحد.. ذلك لأن العبرة ليست بما يجمع الناس من أسباب ظاهرة؛ بل ما يخفي الله وراء تلك الأسباب من عجائب القوى، وأسرار الغيب.

         إن جهدنا في هذا الوجود أن تنصرف فيما يبدو لنا من مادته على اختلاف صورها وألوانها، وفق ما رسم الله لنا من علم، وكشف لنا من وسائل.. ولكن وراء المادة وما لها من صور وألوان عالما آخر واسع الآفاق، عظيم القدر، حافلا بأسرار القوى، لا يرى بعين، ولا يسمع بأذن، ولا يلمس بيد، ولا يعلم أحد جند الله فيه إلا هو سبحانه.. وتلك الأسرار والقوى إنما هي أمر مسخر لكل من عرف الحق، واتخذ كل سبيل لنصرته.

– 2 –

         نعم هي أسرار مسخرة لتأييده لا محالة ما دام قائما بأمر الحق، آخذا له بكل ما استطاع من سبب.. وهي في الشدائد بوجه خاص، جند  مسخرة لنصرته وتلبية مشيئته، وجبر ما نقص من أسبابه وعدته، فإذا لم يستطع حشد الكثرة الكاثرة – مثلا – لمواجهة عدوه، قامت هي له في الخفاء مقام الكثرة، وما فوق الكثرة، وتولت عنه علاج عدوه بما لا ترى العين، ولا تسمع الأذن، فإذا هو من حيث لا يدرى، قد بطل كيده، وضل تدبيره، وختم على سمعه وقلبه، وصار في أيدي جند الله كالدمية الجامدة، يصرفونها على حسب مشيئته سبحانه.

         وذلك هو ما نقرؤه في عبرة الهجرة، إذا كان العدو بخيله ورجله قد أحال مكة كلها، وما يحيط بها من بطاح وهضاب، ميدانا لمعركة رهيبة تطلب دم النبي ﷺ، وليس معه من الأعوان سوى رجل واحد – وليس أقل في العدد من واحد – لتسلم العبرة، ويقوم الشاهد أقوى ما يكون على أن الباطل لا حجة له مهما يكن عدده، وأن الحق هو القوة الغالبة مهما يهن في رأي العين شأنه ونصيره، وذلك قول الله سبحانه ﴿إِلَّا ‌تَنصُرُوهُ ‌فَقَدۡ ‌نَصَرَهُ ٱللَّهُ﴾.

         متى؟!.. «إذ أخرجه الذين كفروا».

         في كم رجل؟!.. «ثاني اثنين».

         ولكن أين المعركة هنا؟.. وأين مظاهر النصر؟.

         إن الناس قد اعتادوا ألا يعترفوا بنصر، ولا يقروا بمعركة، إلا إذا شاهدوا جمعين يلتقيان، فيغلب أحدهما الآخر، ثم يستخرجون من بعد ذلك ما شاؤوا من عبر النصر، أو نتائج الهزيمة. وهذا فهم ساذج، وتقدير فيه قصور، فإن الغلبة في الحقيقة، إنما هي غلبة فكرة لفكرة.. ورأي لرأي.. وعقيدة لعقيدة، وليس ضروريا أن تلتقي الجنود، ولا أن تقوم المعارك، وتزهق الأرواح، وتتناثر الأشلاء.

         إن العبرة في النصر أن تغلب إرادة إرادة، وأن ترجح وجهة نظر على وجهة نظر أخرى.. وقد أراد النبي ﷺ أن يهاجر.. وأراد الكفار أن يمنعوه من الخروج، ويقهروه على إرادته تلك، بالقتل، أو بالحبس، وجمعوا لذلك من الرجال والسلاح ما جمعوا، ورصدوا له من الأموال ما رصدوا.. فماذا كانت النتيجة؟. هل نفعهم ما جمعوا ورصدوا؟.. ألم تنتصر إرادة النبي وتنهزم إرادة عدوه؟ .. ألم تنفذ وجهة النبي، وتنتكس وجهة عدوه؟.

         لو أن ظروف النبي ﷺ أمكنته أن يلقى تلك المعركة في أمثال عدتها من الرجال والسلاح، ليغلب هؤلاء على إرادتهم، ويمضي إلى هجرته التي أمر الله، فماذا كنت تقدر لتلك المعركة من الرجال والمال والسلاح؟ وماذا كنت تقدر لها من خسائر الضحايا والجرحى والمشوهين؟.

         إنك قد تبالغ في تقدير حاجة المعركة إلى الرجال، وكثرة ما يكون فيها من خسائر الأنفس والثمرات، وقد تذهب إلى التهوين من أمر ذلك كله، وتنزل بتقدير عدد الرجال والخسائر التي تنجلي عنها المعركة إلى أقل عدد يسيغه العقل المنصف، أو المكابر، ولكن مهما تذهب في تهوينك، ومهما تنزل في تقديرك، فإنك لن تبلغ أن تقول: إنه يكفي لمواجهة تلك المعركة، وتنحية المشركين من وجه الهجرة، وردهم على أعقابهم خاسرين، لن يبلغ بك أن تقول: إنه يكفي لمواجهة ذلك كله رجل واحد، وإنه لا يكون هناك من الضحايا أو الإصابة شيء مذكور.

         وهذا هو لباب العبرة، وسر تدبير الحق سبحانه من وراء الأسباب، فأعز عبده بغير جند، ونصره بغير معركة، وكثره بغير عدد، وهو من فقه الإيمان، وعجائب تصريف الحق في عالم الخفاء، التي تطالعنا من ثناياه قوله جل شأنه ﴿إِلَّا ‌تَنصُرُوهُ ‌فَقَدۡ ‌نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ﴾.

– 3 –

         ونرى الآية الكريمة تمضي في تجلية عجائب النصر، فلا تكتفي بتقرير هوان الكثرة المبطلة، بإزاء القلة المؤمنة؛ بل تعرض لأمر آخر لا يقل عجبا عن سابقه، فتتحدث عن «إستراتيجية» مكان المعركة، وتبين أن العامل الإستراتيجي كان في صالح الأعداء، ولم يكن في صالح الطرف الآخر بوجه من الوجوه.

         فمن المقرر في الحروب أن أحد الخصمين إذا سبق خصمه إلى احتلال أصلح المواقع، واضطره إلى النزال في أماكن غير صالحة لتحركاته، كان ذلك من عوامل النصر للسابق، وعوامل الهزيمة لخصمه.. ولكن حين يحتشد الباطل لمنازلة الحق ينسخ الله كل ميزات «الإستراتيجية» إذا كانت ضد أهل الحق.. ولم يكن في معركة الهجرة أضيق من غار ينزله أحد طرفي المعركة، ليقيم الله منه الحجة الباقية على أن قوانين الزمان والمكان، إنما تعمل بمشيئته سبحانه، لا بمشيئة الطغاة من أهل الباطل، فلقد كانت بطاح مكة ورباها كلها، ميدانا حرا لتحركات العدو، وكان الغار الضيق في متناول أيديهم وتحت أبصارهم.. وهو بعد غار ضيق لا مجال فيه لحركة دفاع أو هرب، وما كان عليهم إلا أن يمدوا أيديهم فيستولوا عليه، ويأخذوه أخذا هينا سهلا، ولكن هيهات لما يريدون، فقوانين السماء تنسخ قوانين الأرض عند ضرورة الحق، لتنبعث آية النصر متحدية بإذن الله كل تنظيم مكاني، ناطقة بأن الحق وحده، هو القوة الفاعلة الغالبة في هذا الوجود، وأن الباطل إن هو إلا صور من الوهم، لا سند لها ولا قرار، وهو ما تقرره الآية الكريمة في شأن الغار بقوله سبحانه ﴿إِلَّا ‌تَنصُرُوهُ ‌فَقَدۡ ‌نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ﴾.

         في أي مكان؟..

         «إذ هما في الغار!»..

         وكتاب الله الذي فصله على علم، ما كان ليذكر كلمة الغار سدى، ولا جزافًا، فهو المنزه عن اللغو والحشو ما ذكرها سبحانه إلا ليرفع منها علم هذه العبرة، ليزيد العقول والقلوب علما بسعة تدبيره جل شأنه.

– 3 –

         ويمضي القول الكريم بعد ذلك ليقرر أن الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ فقد في هذه الجولة صلاحية المكان، وعامل الكثرة العددية، فقد عاملا آخر، لا غنى عنه في أية معركة، هو عامل السلاح في الوقت الذي تسلح فيه عدوه بكل ما رأى من عدة كافية.. فإذا صار المرء المؤمن إلى مثل هذا الموقف الأعزل المحصور، تولته مقادير الله بما لا يدور في خلده من تدابير النصر، فيشعر أنه من رعاية الحق في حصن أمنع من كل حصن، وأنه من اعتزازه بحقه في أمضى من عدة الكمي، وهذا هو بعض ما يطالعنا من نور قوله سبحانه ﴿إِلَّا ‌تَنصُرُوهُ ‌فَقَدۡ ‌نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ﴾.

         وسر النصر كله في قوله تعالى ﴿إِنَّ ‌ٱللَّهَ ‌مَعَنَاۖ﴾.

         فلقد قلنا: إن النصر يتبين في ظهور فكرة على فكرة، ورأي على رأي، وإرادة على إرادة، وذلك هو النصر في الأمور الجزئية، ووقائع الصراع في سلسلة الجهاد الطويل، أما النصر العام والقاعدة الكلية له، فأن يوفق المرء إلى اعتقاد الحق، والعمل له، كما أن الخذلان العام، والقاعدة الكلية للدمار، أن يوكل المرء إلى اعتقاد الباطل، والعمل له.

         ذلك أن الحق هو السر الذي قام به الوجود.. وإذا تسامحنا في التعبير قلنا: إن الحق هو المادة التي صور بها أو صور عليها هذا الوجود. ولكنه مادة غير مشاهدة، وسر غير منظور.. فمن اعتقد الحق فقد أسكن قلبه سر الحياة.. والقوة، وبنى وجوده الحسي والمعنوي على الأساس الذي لا تعترف قوانين الوجود بسواه، وذلك هو النصر كل النصر.

         أما الباطل فهو وهم من تخيل الأمزجة الفاسدة، والعقول المضطربة، وصور حائرة لا قرار لها ولا سند كما قدمنا. فمن ذهب هذا المذهب من الباطل فقد أبعد عن الحق، وقطع نفسه عن موارده وأسكن قلبه سر البوار والكساد، وذلك هو الخذلان الحق، والهزيمة شر الهزيمة؟.. وقد نعى الله على قوم أنهم أبعدوا عن الحق وناوؤوه، ووصف فعلهم بأنهم إنما يهلكون أنفسهم، ولا يخذلونها فحسب، وذلك قوله تعالى ﴿وَهُمۡ ‌يَنۡهَوۡنَ ‌عَنۡهُ وَيَنۡـَٔوۡنَ عَنۡهُۖ وَإِن يُهۡلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾.

         ولقد تخلف الأعراب عن رسول الله في غزوة الحديبية، وأعدوا في أنفسهم ما يعتذرون له به، فكشف الله له حقيقة أمرهم، وبين أنهم ظنوا ظنونا سيئة، واعتقدوا أمورا باطلة زينها الوهم في صدورهم، فأورثتهم الهلاك والبوار، وهم ما يزالون أحياء بين الناس، وذلك قوله سبحانه ﴿بَلۡ ‌ظَنَنتُمۡ ‌أَن ‌لَّن ‌يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰٓ أَهۡلِيهِمۡ أَبَدٗا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورٗا﴾ (… أي قوما هالكين…).

         فإذا قلنا: إن حقيقة النصر، أن يعتقد المرء الحق.. وأن حقيقة الخذلان، أن يوكل المرء إلى الباطل فإنما نصيب الحقيقة التي قررها كتاب الله عز وجل.

         ولقد كانت كل حقائق النصر تزدحم في وجدانه عليه السلام وهو يقول لصاحبه ﴿لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ﴾ وليس أدل على اعتقاد الحق في أصفى صوره وأعمقها وأقواها، من شعور المرء بمعية الله سبحانه ساطعة في وجدانه، ماثلة في كل أقطار وعيه وحسه، تهون له كل ما عدا الله من جند أو سلاح، وتقر في إدراكه يقين النصر، ومدد المعونة فيقول ﴿حَسۡبُنَا ‌ٱللَّهُ ‌وَنِعۡمَ ‌ٱلۡوَكِيلُ﴾ إذا قال له الناس ﴿إِنَّ ‌ٱلنَّاسَ ‌قَدۡ ‌جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ..﴾ أو يقول إذا اجتمع العدو حول غاره وأوشكوا أن يطبقوا عليه: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ﴿لَاتَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ﴾ ذلك درس عميق من معاني النصر يجب أن نعيه من عبر الهجرة.

– 5 –

         وبعد فإذا تلونا هذه الآية الكريمة في ذكرى الهجرة أو في غير ذكراها، فلنلحظ أن الله سبحانه كرر كلمة «إذ» ثلاث مرات.

         إِذۡ ‌أَخۡرَجَهُ ‌ٱلَّذِينَ ‌كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ .. إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ..

         إِذۡ ‌يَقُولُ ‌لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ..

         لينسخ في الأولى عامل الكثرة العددية إذا كانت مبطلة .. وليبطل في الثانية لعبده المؤمن المضطر ما يسمى «بإستراتيجية» المكان.. ولينبه في الثالثة إلى أن حقيقة النصر أن يوفق المرء إلى اعتقاد الحق والعمل به، وأن كل ما عرف الناس من ألوان السلاح ووسائل القتال إنما هي في نظر المؤمن أدوات مغلولة معطلة بإزاء ما يملأ قلبه من ثقة بربه عز وجل.

         نعم فلنلحظ هذا، ولنعلم إلى جانبه، أن الله لا يعطل القوانين، ولا يبطل السنن لأهل الكسل والتشدق بمعاني الإيمان.. فإن إيقاف السنن وخرق العادات أمر خطير جليل لا يطوعه الله إلا لمن مسك بالحق، وأقام معالمه في نفسه، وغلب سلطانه على هواه، وسخر له وقته، وماله، وعلمه، وعقله، وجوارحه ووجوده كله.

         إن الحق هو حبل الله المتين، الذي تحرك به السماء ما شاء الله من مقادير، وسنن، وجند، وأسباب، ولكن إذا عرفناه حق المعرفة وصبرنا عليه، وجاهدنا فيه حق جهاده.

*  *  *          نسأل الله سبحانه أن يبصرنا بالحق، ويهب لنا العزيمة عليه، والحياة له وبه، والممات في سبيله، إنه سميع قريب، مجيب الدعاء.

مجلة الداعي، المحرم – صفر 1445هـ = يوليو – سبتمبر 2023م، العدد: 1-2، السنة: 48

Related Posts