بقلم: الأستاذ عبد العزيز الخياط (*)
عمل النبوة في الإنسان كعمل الربيع في النبات، يبعث القوة في كل الأجزاء، وينشر العطر في كل الأرجاء.. وكما أن للربيع امتدادًا يستمر الصيف كله ثمرًا وخيرًا، كان عمل حواري النبي (ﷺ) وصحابته امتدادا للنبوة في معناها الرائع، وعملها البناء.
ومحمد عليه السلام كان في عمله النبوي تضحية تبذل، وفكر يعصر، وقدوة تحتذى.. الليل للعبادة والتفكير والنهار للجهاد والبناء، والوقت في التعليم والتوجيه.
ولئن بنى محمد ﷺ هذه الأمة على قواعد تثبت على أرض صلبة لا تميد، وأقام بواسقها امتدادًا سامقًا في شرفات السماء.. في أرض جزيرة العرب، فلقد كان بناؤه في نفوس أصحابه أشد غورا وأبعد أثرا.
فالصحابة الذين خلفهم رسول الله ﷺ أمثلة حية على روعة البناء، وإعجاز يضاف إلى معجزات محمد وكبراها القرآن.. هؤلاء الصحابة كانوا الضياء الوهاج المشع خلال الأعوام المضنية المجهدة التي تلت وفاة رسول الله.
والصحابة كانوا ترجمة عملية للإسلام في تعاليمه أو إن شئت فقل: أنفاس النبوة تتهدج في نسيم الصحراء. فماذا عمل هؤلاء؟!
أنحيي آثارهم، منشورة ألوية متعددة مركوزة في عالم الفخر والثناء؟
أم نذكر أعمالهم لواء جامعًا يظلل كل باحث في التاريخ، أو مسجلا للنشاط الفكري في أوجهه المختلفة.
أجل: إن الصحابة في جهادهم الحربي والفكري والسياسي مثال لم يكن على مثال، وقدوة لم تقتد بأحد.
وكانوا في أخلاقهم آيات تدب على الأرض، تعيد إلى الدنيا معنى طالما فقدته في السمو والرفعة، وأشعة تخترق كل شيء إنارة أو تدميرًا، استبصارًا أو تغطية.. إنارة وتبصيرًا لمن حاد عن الطريق السوي وآثر الهوى والغي، وتدميرا للباطل في أصحابه دولا أو أفرادًا.
لما اشتد الأذى بأصحاب النبي ﷺ خرج أبو بكر مهاجرا إلى الحبشة فلما بلغ برك الغماد(1) لقيه ابن الدغنة سيد القارة(2) فقال أين تريد يا أبا بكر؟، فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي!
قال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك.
ورجع أبوبكر في حماية ابن الدغنة، وقد علم أشراف قريش بذلك، فقالوا لابن الدغنة: مره فليعبد ربه في داره ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، وكان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فكانت نساء قريش وشبانها يزدحمون عليه وينصتون في إعجاب إلى قراءته، وعلمت قريش بذلك فهرعت إلى ابن الدغنة، وآذنوه بخروج أبي بكر على عهد الجوار، وخيروه بين لزوم البيت أو استرداد الجوار.
وهرع ابن الدغنة إلى أبي بكر يخيره بين العبادة داخل بيته، وبين استرداد عهد الجوار، فقال أبو بكر قولة الرجل المطمئن المؤمن بربه، المستعصم بدينه ومبدئه: فإني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله تعالى.
ومثل آخر في الخلق القرآني المتسامح، ما رواه البخاري عن أبي الدرداء قال: كنت جالسا عند النبي ﷺ إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي ﷺ: أما صاحبكم فقد غامر.
وجاء أبوبكر فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك!
فقال النبي ﷺ يغفر الله لك يا أبابكر (قالها ثلاثا).
ثم إن عمر بن الخطاب ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي ﷺ، فسلم فجعل وجه النبي ﷺ يتمعر (يتغير) حتى أشفق أبوبكر فجثى على ركبتيه، وقال يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم! (قالها مرتين) فقال النبي ﷺ «إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله. فهل أنتم تاركون لي صاحبي (قالها مرتين) فما أوذي أبو بكر بعدها.
فما أروع هذه النفسية عند أبي بكر وعند أصحاب رسول الله!!
وشهد سعد بن معاذ سيد الأوس غزوة الأحزاب، ولما شاع أن يهود بني قريظة نقضوا العهد، وحالفوا قريشًا أرسله النبي ﷺ وسعد ابن عبادة سيد الخزرج ليتبينا جلية الأمر، ويناشدا اليهود ألا ينقضوا العهد والخطر محدق بالمدينة من كل جهة، وقد حصنت بالخندق وتركت جهة اليهود غير محصنة اعتمادًا على مخالفتهم، فأساء اليهود استقبال الزعيمين، وتطاولوا عليهما وعلى رسول الله فحنق سعد بن معاذ عليهم؛ لأنهم كانوا حلفاء قومه في الجاهلية، ووقفوا هذا الموقف الغادر، فرجع إلى القتال وفي نفسه شيء، فلما أصيب بسهم من الأحزاب دعا الله قائلا: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه فلم تقطر منه قطرة، حتى أمكن الله للمسلمين من الأحزاب فهزموا، ومن بني قريظة فحوصروا، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم بما يرضى الله ورسوله: أن يقتل كل من حمل السلاح منهم وتسبى نساؤهم وذراريهم.
والصحابة في تقواهم كانوا أطوع لله ورسوله من طاعتهم لأنفسهم، يتبعون ما يأمره الله ورسوله ولو إشارة أو رمزا. روى الذهبي في سير الأعلام والنبلاء عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر كان الرجل إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله ﷺ، وكنت غلاما عزبا شابا فكنت أنام في المسجد فرأيت كأن ملكين أتياني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر ولها قرون كقرون البقر، فرأيت فيها ناسا قد عرفتهم فجعلت أقول: «أعوذ بالله من النار، فلقينا مالك (أي خازن النار) فقال: لن ترع، فذكرتها لحفصة، فقصتها حفصة على رسول الله ﷺ فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل، قال سالم فكان بعد (أي عبد الله بن عمر) لا ينام من الليل إلا القليل.
وهم في كل ناحية من نواحي الحياة على بصيرة وفهم، ودراية وعلم، فكم خلفوا من ثروة لا تقدر في الفقه والتشريع، وكم تركوا من آثار لا تلحق في إدارة الدولة والحكم، وكم كانت لهم من روائع في فهم كتاب الله والعمل به، ويستوي في ذلك كبارهم وصغارهم على السواء، أما كبارهم فما أكثر ما علم المسلمون منها، وردد المؤمنون من أتباعهم أخبارها، وأما صغارهم فهم على نحو كبارهم، قرأت في سيرة صحابي صغير هو جندب بن كعب فيما روى أبو عثمان النهدي أن ساحرا كان يلعب عند الوليد بن عتبة فكان يأخذ سيفه فيذبح نفسه ولا يضره، فقام جندب إلى السيف فأخذه فضرب عنقه ثم قرأ (أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ) وفي رواية انه قال (إن كان صادقًا فليحيي نفسه).
ومرجع ذلك إلى إيمانهم القوي الغلاب قبل أي شيء فبه تعلموا القرآن، وبه حفظوا الإسلام، وبه نشروه في الدنيا وفتحوا به الأمصار، وشادوا دعائم حضارة الإسلام. وروى جندب بن عبد الله قال: كنا غلمانا حزاورة (أي على وشك البلوغ) مع رسول الله ﷺ فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا، وبهذا الإيمان استطاعوا أن يقيموا دعائم الإسلام منارات هدى، ورواد علم، وحملة رسالة وأساتذة أجيال.
(*) عميد كلية الشريعة – عمان.
مجلة الداعي، المحرم – صفر 1445هـ = يوليو – سبتمبر 2023م، العدد: 1-2، السنة: 48