بقلم: الأستاذ إحسان النمر
دروس من الماضي يحتاج إليها العلماء في كل عصر وقطر. وقد ترك لنا هذه الدروس علماء أعلام، وذلك بمواقفهم الصريحة الجريئة أمام الخلفاء، والسلاطين الأقوياء، ينصرون أمامهم كلمة الحق، ويبذلون لهم واجب النصح، في أدب من القول، وعفة عن متاع الحياة.
وأمثلة ذلك في التاريخ الإسلامي كثيرة ولكني أقتصر منها على الأمثلة الآتية:
عمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب:
جاء في كتاب المنهج المسلوك في سياسة الملوك للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله من علماء القرن السادس: «حكى مالك بن أنس رضي الله عنه أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما وُلي الخلافة دخل عليه محمد بن كعب وعنده هشام بن معاذ وقد وعظه فأبكاه فقال له محمد: ما أبكاك يا أمير المؤمنين فقال: أبكاني هشام حين ذكرني وقوفي بين يدي ربي. فقال له محمد: يا أمير المؤمنين إنما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج الناس بما نفعهم، ومنها خرجوا بما ضرهم، فلا تكن من قوم قد غرهم منهامثل الذي أصبحنا فيه، حتى أتاهم الموت فاستوعبهم منها فخرجوا منها ملومين، لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة، ولما كرهوا جنة، فاقتسم فيما جمعوا من لا يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم، فانظر يا أمير المؤمنين إلى تلك الأعمال التي تتخوف منها فكف عنها، وانظر إلى الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فاصنع منه. وابذل حيث يحمد البذل، ولا تذهب إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك، ترجو أن تروج معك. فاتق الله تعالى يا أمير المؤمنين وافتح الباب وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، واردع الظالم. يا أمير المؤمنين ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان، من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له قال: فاشتد بكاء عمر بن عبد العزيز وعلا نحيبه».
سليمان بن عبد الملك وأبو حازم:
وجاء في كتاب المنهج المسلوك أيضا. «حكي أن سليمان بن عبد الملك لما قدم المدينة أقام بها ثلاثا فقال: ما هـــاهنـــا رجــــــــل أدرك الصحابــــة يحدثنا؟ فقيل له إن هاهنا رجلا عابدا من التابعين اسمه أبو حازم أدرك جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ، ونقل عنهم الأحاديث فبعث إليه فلما جاءه واستقر به المجلس، قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال لأنكم أخربتم آخـــرتكم، وعمر تم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب.
قال: صدقت يا أبا حازم، فكيف القدوم على الله تعالى؟
فقال: أما المحسن فكغائب يقدم على أهله، وأما المسئ فكالعبد الآبق يقدم على مولاه.
قال: فبكى سليمان، وقال: ليت شعري ما لنا عند الله يا أبا حازم؟
فقال: اعرض نفسك على كتاب الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ﴾.
قال سليمان: يا أبا حازم. أين رحمة الله؟
قال: قريب من المحسنين.
قال: فبكى سليمان، ثم أطرق ساعة، ثم رفع رأسه إليه وقال: يا أبا حازم، من أعقل الناس؟ قال: من تعلم الحكمة وعلمها للناس.
قال: من أحمق الناس؟ قال: من دخل في هوى رجل ظالم فباع آخرته بدنيا غيره.
قال: فما تقول فيما نحن فيه؟ قال: اعفني من ذلك، فقـــال: إنما هي نصيحــــــــة بلغتها. فقــــــــال إن ناسا أخذوا هذا الأمر من غير مشورة من المسلمين، ولا إجماع من رأيهم فسفكوا الدماء على طلب الدنيا، ثم ارتحلوا عنها. فليت شعري ما قالوا، وما قيل لهم؟
فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا شيخ. فقال أبو حازم: كذبت والله يا جليس السوء. إن الله تعالى أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
فقال سليمان: يا أبا حازم كيف لنا على العلاج؟ قال: تدع التكلف وتتمسك بالحقيقة.
قال: فكيف طريق المأخذ لذلك؟ قال. تأخذ المال من حله، وتضعه في أهله.
قال: ومن يقدر على ذلك؟ قال: من قلده الله تعالى من الأرض ما قلدك.
قال: أفترى يا أبا حازم أن تصيب منا ونصيب منك؟ قال: أعوذ بالله من ذلك. قال ولم؟ قال أخاف أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني ضعف الحياة وضعف الممات.
قال: يا أبا حازم فدلني على ما أصنع قال: اتق الله تعالى أن يراك حيث نهاك. ويفقدك حيث أمرك. قال: ادع لي يا أبا حازم؟ قال: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيرَيِ الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى فعل الخير، وأصلحه في الدنيا والآخرة.
فقال: يا غلام أعط أبا حازم مئة دينار ليقضي بها دينه. فقال: لا حاجة لي بها، إني أخاف أن تكون عوضا عن كلامي فيكون أكل الميتة أحب إلي من أخذها.
ثم نهض فخرج من عنده فلما كان من الغد بعث إليه فأحضره، فلما دخل عليه قال: يا أبا حازم عظنا عظة ننتفع بها، فقال: إن هذا الأمر لم يحصل إليك إلا بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يدك مثل ما صار إليك، فبكى سليمان، وكاد يسقط عن جنبه. فلما أفاق، قال: ارفع إلى حوائجك يا أبا حازم. قال هيهات أني قد رفعتها إلى من لا تحجب دونه الحوائج، فما أعطاني منها قنعت، وما منعني منها رضيت وذلك أني نظرت إلى هذا الحال وهذا الأمر فإذا هو على قسمين أحدهما لي والآخر لغيري أما ما كان لي فلو احتلت فيه بكل حيلة ما وصلت إليه قبل أوانه الذي قدر لي فيه، وأما الذي لغيري فذاك لا طمع فيه، وكما منع غيري من رزقي كذلك منعني أنا رزق غيري. وانصرف فما برح سليمان بعد ذلك مستضعفا حتى مات.
المنصور والأوزاعي:
ومن كتاب المنهج المسلوك أيضًا حكى أبو القاسم عبد العزيز بن حسن بإسناده أن أمير المؤمنين المنصور بعث إلى الأوزاعي وهو بالساحل فأحضر عنده فلما استقر به المجلس قال له المنصور: ما الذي أبطا بك عنا يا أوزاعي؟ قال وما الذي تريد مني يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنك والاقتباس منك. قال يا أمير المؤمنين: إنك لا تجهل شيئا مما أقول، قال وكيف لا أجهله وأنا أسأل عنه، قال يا أمير المؤمنين: إنك تسمعه ولا تعمل به قال فصاح به الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور وقال هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة قال فصاح الأوزاعي رحمه الله تعالى: يا أمير المؤمنين حدثنا مكحول ابن عطية قال: قال رسول الله ﷺ: «أي عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله تعالى سيقت إليه فإن قبلها شكره وإلا كانت حجة من الله عليه يزداد بها إثما ويزداد بها عليه سخطا».
وقد بلغني أن رسول الله ﷺ قال: أيما وال بات غاشًّا لرعيته حرم الله عليه الجنة، يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله تعالى، لأن الله هو الحق المبين. يا أمير المؤمنين إن الذي لين لك قلوب الأمة، حتى ولاك أمورهم، لقرابتك من نبيه ﷺ، فحقيق أن تقوم له فيهم بالحق، وأن تكون فيهم بالقسط قائما، ولعوراتهم ساترا، فلا تغلق عليهم وعليك الباب، ولا تقم عليك دونهم الحجاب وابتهج بالنعمة عندهم، وتأذ لما أصابهم من مكروه. يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى، وإن من طلب العزة بطاعة الله رفعه الله وأعزه، ومن طلبها بمعصية الله وضعه الله تعالى وأذله، وهذه نصيحتي إليك والسلام عليك ورحمة الله.
قال فلما سكن عن المنصور البكاء رفع رأسه إليه وقال: يا أوزاعي قد قلت وأنت غير متهم في نصحك، وقد سمعناه منك، وصادف قبولا إن شاء الله تعالى والله الموفق للخير والمعين عليه. يا ربيع أدِّ للأوزاعي ما يستعين به على زمانه. قال يا أمير المؤمنين: أني غني عن ذلك، وما كنت لأبيع نصيحتي بشيء من عرض الدنيا، ثم ودع المنصور وانصرف إلى حال سبيله.
الرشيد وابن عياض:
وروي أيضًا: أن الفضل بن الربيع قال: لما حج الرشيد حججت معه وبينما أنا نائم ذات ليلة إذ سمعت قرع الباب، فخرجت فوجدته الرشيد، فقلت يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فقال: ويحك إنه قد حاك في صدري شيء، فانظر لي رجلا أسأله، فقلت: إن ههنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعنا عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت أجب أمير المؤمنين، فقال: لو أرسلت إلي أتيتك، فقلت: خذ لما جئناك به يرحمك الله، فحادثه ساعة، ثم قال: له أعليك دين، قال: نعم يا أمير المؤمنين: قال: يا أبا العباس اقض دينه.
ثم انصرفنا من عنده فقال الرشيد: ما أغناني صاحبك شيئا فانظر لي رجلا أسأله، فقلت له: الفضل بن عياض. فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فسمعناه يقرأ آية في كتاب الله تعالى، وهو يرددها. فقرعت عليه الباب، فأوجز في صلاته، وقال: من هذا؟ قلت أجب أمير المؤمنين. فقال: ما لي ولأمير المؤمنين. قلت: سبحان الله أما عليك طاعته، فنزل وفتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم انتجأ إلى زاوية، وأخفى نفسه، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف الرشيد إليه، فقال: كف ما ألينه إن نجا من عذاب الله تعالى. فقال الرشيد: خذ بما جئناك له يرحمك الله.
فقال يا أمير المؤمنين: إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ابن عمر، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيان، وقال: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي ما أصنع. فعد الخلافة بلاء – وأنت وأصحابك تعدونها نعمة – فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله تعالى فليكن كبير المسلمين لك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وصغيرهم ولدا، فوقر أباك، وتحنن على أخيك، وارفق على ولدك.
وقال له رجاء بن حيان: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله تعالى فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت متى شئت.
فهل عندك يا أمير المؤمنين مثل هؤلاء القوم من يأمرك بمثل هذا الأمر؟ واني لأقول لك هذا، وأخاف عليك أشد الخوف يوم يزل القدم قال فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا حتى غشي عليه فقلت له يرحمك الله ارفق بأمير المؤمنين فقال قتلته أنت وأصحابك وأرفق أنا به، فلما أفاق قال: زدني قال: يا أحسن الوجه أنت الذي يسألك الله تعالى عن هذا الخلق يوم القيامة فإن استطعت أن تقي وجهك من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فقد قال رسول الله ﷺ: من أصبح غاشا لرعيته، لم يرح رائحة الجنة.
قال: فاشتد بكاء هارون الرشيد. فلما أفاق قال: هل عليك دين؟ قال: علي دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن حاسبني، والويل لي إن لم يلهمني حجتي. فقال: إنما أردت دين العباد. قال: لا فإن ربي لم يأمرني بذلك؛ بل أمرني أن أصدق وعده، وأطيع أمره. فقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ ٥٧ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ﴾. فقال هارون الرشيد: هذه ألف دينار خذها وأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادة ربك فهي عن وجه حل. فقال: سبحان الله: أنا أدلك على النجاة، وأنت تدعوني إلى النار.
ثم سكت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرناعلى الباب سمعنا امرأة من نسائه تقول: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من الضائقة وسوء الحال، فلو قبلت منه هذا المال لتقوينا به على زماننا، فقال لها: إنما مثلي ومثلكم كقوم لهم بعير يأكلون من كسبه: فلما كبر وعجز عن الكسب نحروه وأكلوا لحمه.
فلما سمع الرشيد قال: يا فضل ادخل بنا إليه، فلعله يقبل منا هذا المال، فلما دخلنا عليه، وأحس بنا، خرج فجلس على السطح على التراب. فجلس الرشيد إلى جانبه، وجعل يكلمه فلم يجبه، فخرجت جارية وقالت يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف عنه يرحمك الله. فلما خرجنا من عنده قال لي الرشيد: إذا دللتني فدلني على مثل هذا الرجل، فهذا يوم وليلة من أشرق الأيام والليالي. رحمة الله عليهم أجمعين.
وفي سيرة الإمام مالك بن أنس أنه لما حج الرشيد زار المدينة المنورة وأراد أن يسمع الحديث عن الإمام مالك بن أنس، فأرسل يستقدمه، فقال مالك للرسول. «قل لأمير المؤمنين أن طالب العلم يسعى إليه، أما العلم فلا يسعى إلى أحد» فأذعن الخليفة وزار مالكا في داره، ولكنه أمر أن يخلى المجلس من الناس، فأبى مالك إلا أن يظل الناس كما كانوا وقال: إذا منع العلم عن العامة فلا خير فيه للخاصة.
وقد ورد في العقد الفريد للملك السعيد مواقف مشرفة جدا للقضاة في العهد العباسي، فكان القاضي منهم إذا لم يذعن له خليفة أو أمير، فإنه يختم قمطره (ملفاته) ويلزم بيته، إلى أن يذعن ذلك الأمير أو الخليفة، فيحضر مجلس القضاء، ويرضى بالحكم وينفذه، مما يدل على عزة نفوس القضاة وجرأتهم.
وقد يقول قائل إن خلفاء الإسلام والأمراء كانوا يعظمون علماء الدين، وهذا ما كان يطمع العلماء بالجرأة عليهم، إلا أن الأمر لم يقتصر على الخلفاء فقد وقفوا مواقف جريئة من هولاكو والقازان وتيمورلنك كان فيها القضاء على حياتهم.
تيمورلنك والراميني:
وقد كان من أبرزها وأظهرها حكاية الراميني مع تيمورلنك، فقد ورد في شرح منظومة الآداب للشيخ محمد السفاريني، أن تيمورلنك حينما دخل دمشق صار يحرج العلماء بالأسئلة، فطلب منهم الإفتاء بأن يفتوا بأن فضيلة النسب مقدمة على فضيلة العلم بلا ارتياب، فتقاعسوا وأحجموا، فابتدر بالجواب الإمام شمس الدين بن مفلح الراميني فقال: «درجة العلم أعلى من درجة النسب، ومرتبتها عند الخالق والمخلوق أعلى الرتب، والهجين الفاضل، يقدم على الهجين الجاهل، ثم أخذ القاضي شمس الدين في نزع ثيابه مصححا لتيمورلنك ما يصدر من جوابه ففكك أزراره، وقال لنفسه إنما أنت إعارة، وكأس الموت لابد من شربها، فسواء ما بين بعدها وقربها، والموت على الشهادة من أفضل العبادة، وأفضل أحوالها لمن علم أنه إلى الله صائر كلمة حق عند سلطان جائر.
فقال له تيمورلنك: ما حملك على نزع ثيابك، فقال له الشيخ: بذلا لنفسي في سبيل الله، صابرا لعقابك، فقال له: قد وسعك حلمنا فلا نعدم سلمنا. فقال له: أيها السلطان الجليل. حيث مننت بالحلم فليكن الأمان مصحوبا بالتفضيل من صولة بعض العسكر.
علماء الأزهر:
وفي عهد المماليك أظهر علماء الأزهر الأعاجيب، فقد كانوا يؤلبون العامة على سلاطين المماليك، ويفتون بعدم طاعتهم، إذا كان السلطان ما يزال مملوكا لم يعتق، وعبثا كانوا يحاولون إرهابهم بالقوة أو بالإغراء بالمال. وقد وردت أمثال ذلك في تواريخ عهد المماليك المفصلة. من أهمها وأبرزها مواقف الإمام ابن تيمية.
عز الدين بن عبد السلام:
ومن مآثر شيوخ الأزهر في القديم الاعتداد بأنفسهم وبدينهم كما حدث للشيخ عز الدين بن عبد السلام مع بعض أمراء الدولة الذين كانوا أرقاء للسلاطين، يتولون الحكم باسمهم. فقد تولى الشيخ القضاء وحكم على بعض هؤلاء الأمراء ببيعهم.. لأنه لم يثبت عنده أنهم أحرار، وما داموا أرقاء فيجب أن يباعوا، ويضاف المال الذي يباعون به إلى بيت مال المسلمين.. ولما سمع هؤلاء الأمراء بذلك عظم الخطب عندهم.. وكان من بينهم نائب السلطنة فاستشاط غضبا، واجتمع بهؤلاء الأمراء، واستقر رأيهم على أن يرفعوا الأمر إلى السلطان. ثم أرسل نائب السلطنة إلى الشيخ عز الدين يسترضيه ويلاطفه، فلم ينثنِ الشيخ عن رأيه. وهنا ثار النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ليبيعنا ونحن ملوك الأرض، والله لأضربنه بسيفي هذا. وقام النائب بنفسه في جماعة من رجاله، وقصد إلى بيت الشيخ، والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، ففتح له بعض أولاد الشيخ، ثم عادوا يخبرون والدهم بالأمر، فما اكترث الشيخ، بل خرج لمقابلة النائب الذي بهت حين رأى الشيخ يخرج إليه هادئا ثابتا لا يحمل سلاحا، واعترت النائب رعشة مفاجئة، فيبست يده وسقط منها السيف.
الشيخ السنباطي:
وشبيه بهذا الموقف ما بلغنا عن الشيخ شهاب الدين أحمد عبد الحق السنباطي، فإنه تصدى لداود باشا وكان إذ ذاك واليا على مصر، وصرخ في وجهه قائلا: إنك رقيق لا يجوز أن تتولى الأحكام، وإن أحكامك باطلة ما لم تحصل على عتقك من السلطان، فهم الوالي بضرب الشيخ بالسيف، فانحاز الجند المحيطون به إلى جانب الشيخ، وخذلوا السلطان، فرفع داود باشا أمر هذه الواقعة إلى السلطان، فأنعم عليه بالعتق، وأرسل للشيخ يبلغه التحية والشكر. ثم حاول أن يقدم إليه هدية، فرفض الشيخ أن يقبل منه مالا أو هدايا، ومن يومها أصبح الوالي لا يرفض للشيخ رأيا ولا يرد له شفاعة.
الشيخ آلباجوري والشربيني:
ولعل من أعظم الدلائل على تعظيم شيوخ الأزهر أن المغفور له عباس باشا الأول كان يزور حلقة درس الشيخ إبراهيم الباجوري – شيخ الأزهر إذ ذاك – فلا يقوم الشيخ له. ثم يختار عباس باشا مقعدا من الجريد يجلس عليه بجوار حلقة الدرس، وكان الشيخ الشربيني شيخا للأزهر في أوائل هذا القرن، وكان ورعا تقيا عالما فحلا، لقب في زمانه بإمام الشافعية، لم يقبل المشيخة إلا بعد رجاء شديد من أولي الأمر. ومما أثر عنه أنه دعي يوما لتناول طعام الإفطار في قصر المغفور له الخديو عباس، فتأبى كثيرا عن إجابة هذه الدعوة، ثم قبلها آخر الأمر، مشترطا أن يكون تناوله الطعام على وضع خاص، ولما دنا الموعد، ركب الشيخ بغلته، وذهب إلى قصر عابدين، ثم جلس مع فريق من المدعوين، وحين بدؤوا يتناولون الطعام، نشر الشيخ منديلا كان معه على المائدة وبه طعامه الذي استحضره معه من منزله، ووضع بجانبه قلة ماء، فأكل وشرب، ثم خرج مودعا أطيب توديع من رجال القصر، ومن ولي الأمر.
الشيخ حسن الطويل:
ومنهم أيضًا ذلك الرجل العظيم الشيخ حسن الطويل.. كان رحمه الله يدرس بعض دروس الفلسفة والدين بمدرسة دارالعلوم وكانت المدرسة إذ ذاك تستعد لزيارة الخديو، فأشار ناظر المدرسة المغفور له إبراهيم مصطفى بك على الأستاذ أن يتزيا بلباس يليق بسمو ولي الأمر. فأخذ الشيخ معه جبة وقفطانا في صرة، وذهب بهما في اليوم المعين إلى المدرسة دون أن يلبسهما. ومر الخديو على غرفة الأستاذ فاستمع إليه، وسر من بيانه، وغزارة علمه، ولكنه لاحظ خجلا باديا على ناظر المدرسة، كما لاحظ وجود الصرة بجانب الشيخ. فلما سأل عن ذلك، قال الشيخ قولته التي أثرت عنه: إن كنتم تعظمون حسن الطويل، فها هو ذا، وإن كنتم تعظمون ثيابه فها هي ذي، ونشر الشيخ ثيابا حديدة.
الشيخ أبو الفضل وثورة 1919م:
ولعل القصة التالية تبين مبلغ شجاعة شيوخ الأزهر وحرصهم على إعزاز الدين الإسلامي. كان الأزهر في عام 1919 مهد الثورة المصرية، وفي تلك الأيام أراد القائد ولسون قائد القوات الإنجليزية الاتصال بشيخ الأزهر في ذلك العهد وهو الشيخ أبوالفضل. فقصد إليه الشيخ ومعه مدير الأزهر الشيخ عبد ا لرحمن قراعة والشيخ شاكر من كبار العلماء، وتكلم قائد السلطة فوجه إلى الشيخ أبي الفضل كلاما ينطوي على تهديد قائلا: «إن الأزهر أصبح مبعث قلق لنا، لأن الثائرين يلوذون به، وذلك لا يمكننا من القبض على ناصية الأمر، ولذا فنحن نرى غلقه»، فاهتاج الشيخ غاضبا ثم قال له. «إن الأزهر ليس لمصر وحدها، بل لجميع المسلمين عامة». ثم لوح للقائد بيده بعنف، وقال للقائد «أغلقوه أنتم إن استطعتم ولن تستطيعوا». وجمع الشيخ ثيابه بيديه، وخرج غاضبا والقائد ورجاله ينظرون إليه مندهشين مبهورين، دون أن يستطيعوا كلاما.
هؤلاء هم شيوخنا القدماء الذين صدق فيهم قول الشاعر:
إن الأكابر يحكمون على الورى وعلى الأكابر تحكم العلما
مجلة الداعي، ذوالحجة 1444هـ = يونيو – يوليو 2023م، العدد: 12، السنة: 47