بقلم: الشيخ الجليل المحقق حبيب الرحمان العثماني الديوبندي  (المتوفى: 1348هـ/ 1929م)              رئيس الجامعة الإسلامية: دارالعلوم، ديوبند، الأسبق

تعريب: الأستاذ محمد رضوان القاسمي(*)

         لقد ظفر المسلمون بمغانم كثيرة – لم يظفروا بها في أيّ معركة من قبل- في فتح المدائن، فلما جُمعت الغنائم قسم سعد  رضي الله عنه  الفيءَ بين الناس بعدما خَمَّسه، وكانوا ستين ألفًا، فأصاب الفارسَ اثنا عشر ألفًا، وكلّهم كان فارسًا ليس فيهم راجل، ونفَّل من الأخماس في أهل البلاء، وقسم المنازل بين الناس، وأحضر العيالات فأنزلهم الدّور. وكلُّ ذلك ما عدا ما أرسله إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من الغنائم التي ما يُدرى ما قيمتُها، ففيها: كنوز كسرى من الذّهب والفضّة، وتاجُه وثيابُه وأساورُه، وقِطْفُه: بساطُه الهائل المرصّع باللآلي والجواهرالذي طولُه ستّون في ستين ذراعًا مقدارَ جُرَيْبٍ، كانت الأكاسرة تُعِدّه للشّتاء، إذا ذهبت الرَّياحين شربوا عليه. فقطَعه عمر رضي الله عنه ، وقسّمه بين الناس، فأصاب عليًّا  رضي الله عنه  قطعةٌ منه، فباعها بعشرين ألفًا. وكان أهل المدائن قد هربوا في كل وجه خائفين مذعورين، فجُمعت أموالهم الثّمينة من أمكنة متفرّقة: من القصر والإيوان والدّور والسِّكَك والطّرق والصّحراء وما إلى ذلك، وبعضها قد وقع في أيدي المسلمين إذْ يلاحقون العدوَّ هاربًا.

         وكان سعد  رضي الله عنه  قد جعل على الأقباض عمرو بن عمرو بن مُقَرِّن، فجمع ما في القصر والإيوان والدُّور، وأحصى ما يأتيه به الطَّلَبُ، وكان أهل المدائن قد نهبوها عند الهزيمة، وهربوا في كلّ وجه، فما أفلت أحد منهم بشيء إلا أدركهم الطَّلَبُ، فأخذوا ما معهم، وأبلغوه صاحبَ الأقباض: عمرَو بن عمر، فلم يضيِّعوه ولم يتصرّفوا فيه شيئًا.

         وأدرك الطَّلَب مع «زهرة» جماعةً من الفرس على جسر «النّهروان» فازدحموا عليه، فوقع بغلٌ في الماء، فعجلوا وكلبوا عليه، فقال زهرة: إنّي أقسم بالله إن لهذا البغل لشأنًا! ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسّيوف بهذا الموقف الضّنك إلا لشيء بعد ما أرادوا تركه، وإذا الذي عليه حِلْيةُ كسرى: ثيابُه وخَرَزاتُه ووِشاحه ودِرعُه التي كان فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة، وترجّل زهرة يومئذ؛ حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه بالبغل فاحتملوه، فأخرجوه فجاؤوا بما عليه، حتى ردّه إلى الأقباض، ما يدرون ما عليه.

         ولـمّا هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحُقٍّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذتَ منه شيئًا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أنّ للرجل شأنًا، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلًا حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن عبد قيس.

         فقال سعد: والله إنّ الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر، لقلتُ: وأيم الله على فضل أهل بدر، لقد تتبّعت من أقوام منهم هَنات وهنات فيما أحرزوا، ما أحسبها ولا أسمعها من هؤلاء القوم. ويقول جابر بن عبد الله: والله الذي لا إله إلا هو، ما اطّلعنا على أحد من أهل القادسيّة أنه يريد الدّنيا مع الآخرة، ولقد اتّهمنا ثلاثة نفر، فما رأينا كالذي هجمنا عليه من أمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن المكشوح(1).

         هؤلاء الثّلاثة هم الذين كانوا قد انضمّوا إلى جماعة المرتدّين مدفوعين بالحماسة الطارئة، ثم عادوا إلى الإسلام من جديد، فلا غَرْوَ فيما صدر عن جابر بن عبد الله من سوء الظّن بهم؛ نعم، إنّ الإيمان قد رسخ في قلوبهم فيما بعد، فتوافر فيهم من صفات الأمانة والزّهد ما كان في غيرهم من المؤمنين الراسخين في إيمانهم. والجيشُ الفاتح للمدائن هو الذي كان قد أظهر شجاعتَه وجوهرَه الإيمانيّ في معركة القادسيّة، وقتل فيها رستمَ وأصحابهَ بقيادة سعد رضي الله عنه ؛ ومن ثم قد عبَّر جابر رضي الله عنه  عن هذا الجيش بـ«أهل القادسيّة» بقوله: «ما اطّلعنا على أحد من أهل القادسيّة…».

         أولئك كانوا ستين ألفًا – كما أسلفنا – و أصاب كلًّا منهم اثنا عشر ألفًا من الغنائم بعد ما خمَّسها سعدٌ، وذلك ما عدا الغنائم التي أرسلها إلى عمر رضي الله عنه ، ففيها كنوز كسرى من الذّهب والفضّة، وتاجُه وثيابُه وأساورُه، وقِطْفُه الغالية، وكلّ ذلك من الغنائم كان قد أدركها المسلمون من أمكنة مختلفة: من القصر والسّوق والسِّكَك و الصّحراء وما إلى ذلك؛ ولكن لم يقع فيها نوع من الخيانة، وما ضاع منها شيء. فهل يوجد نظيرٌ في شعبٍ من شعوب العالم لهذه الطّائفة المطهّرة التي لم تُرِدْ عرض الدّنيا مع ثواب الآخرة؟ وهل من دليل على إخلاصهم و إعراضهم عن الدنيا، أكبر من أنّ جابر بن عبد الله  رضي الله عنه  يقسم بالله، ويقول: «إنّهم لا يريدون الدّنيا»، وأنّ سعدًا  رضي الله عنه  يقول: «إنهم على فضل أهل بدر»؟.

         فيا أولي العدل والإنصاف تعالوا! وانظروا كيف انتشر الإسلام؟ ومن أولئك الذين نشروه؟ أجل! تلك هي الوجوه النيّرة التي لم يكن يراها أحد؛ إلا وقد اعترف بحقانيّة الإسلام؛ فضلا أن يشاهد أحوالهم وأخلاقهم وصفاتهم وعباداتهم.

         ولئن استطاع تأريخ العالم أن يُقدّم نظيرهم، فليفعلْ وليأتِ بمثيلهم! ولا يغيبنّ عن البال أن هؤلاء الستّون ألفًا لم يكن كلّهم صحابةً. فمعركة اليرموك العظيمة التي قادها سيف الله: خالد بن الوليد، وأمين هذه الأمة: أبو عبيدة بن الجراح، لم يكن عدد الصحابة فيها أكثرَ من ألف، فنظرًا إليها صحّ أن نقول: إنّ معركة القادسيّة لم يبلغ عددُ الصّحابة فيها إلا ألفين أو ثلاثة آلاف على الأكثر، وأما من سواهم – وهم سبعة أو ثمانية وخمسون ألفًا – فكلُّهم أولئك الذين لم يكونوا قد تشرفوا برؤية النبيﷺ؛ وإنّما تمتعوا بصحبة الصحابة – رضي الله عنهم – فأخلصوا؛ واحتلّوا مكانةً عاليةً في الإخلاص والكمال بحيث قد صعب التمييزُ بينهم وبين الصحابة. فأيُّ دليلٍ أقوى على كون الصحابة ذوي تأثير بالغٍ، وكونِهم أساتذةً نابغين في باب التربية، من أنّهم بلغوا من مرتبة الإخلاص والزهد في الدنيا ما بلغوا – و ذلك أظهر من الشمس –ولكن تلاميذهم هم الآخرون كانوا من الزاهدين في الدنيا ولا يمتّون إلى زخارفها بأيّ صلة. فاعتبروا يأولي الأبصار!

         نعم! نحن نقول بكل صراحة: إنّ الإسلام لدينٌ واقعيٌّ ليس فيه شيء من الطمع و الإكراه، وإنّما تعود محاسنه كلُّها إلى صدقه وحقانيته، ولقد وعد الله عزو جل وعدًا محكمًا أنّ هذا الدّين سيَظهرعلى الأديان كلِّها، و سوف يبلغ مشارقَ الأرض ومغاربها. وقد قال رسول الله ﷺ: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدرٍ ولا وبرٍ؛ إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعزّعزيز أوذلّ ذليل، إما يعزّهم الله فيجعلهم من أهلها، أويذّلهم فيدينون لها». (رواه أحمد)

         فانتشارالإسلام لم يكن يتوقّف على شعب دون شعب وقبيلة دون قبيلة؛ فلقد خاطب الله تعالى الصحابة –╚- قائلًا: ﴿وَإِن ‌تَتَوَلَّوۡاْ ‌يَسۡتَبۡدِلۡ ‌قَوۡمًا ‌غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم (سورة محمد:38) وفعلًا قد انتشر الإسلام، وما نشره إلا المسلمون الذين قد عملوا بتعاليمه الصادقة، واصطبغوا بصبغته، فكان ما قال سعد  رضي الله عنه  صادقًا بمعنى الكلمة؛ حيث قال لهم: «تبادروا جهاد العدوّ بنيّاتكم قبل أن تحصركم الدّنيا».

         فلما غَيَّرالمسلمون ما بأنفسهم، وأعرضوا عن أوامر الشريعة، لم يضرّوا إلا أنفسهم؛ وأمّا الإسلام فلم يتأثّر بذلك شيئًا، ولم يشهد تخلّفًا في مسيرة تقدّمه.          و إننا كما بعثنا الرّوح الجديدة في القلوب الميتة بذكرِ وقائع ممتعةٍ فيما يتعلّق بصدق الإسلام وحقانيّته، ونزولِ عونِ الله تعالى ونصره للمسلمين، نريد الآن أن نقدّم إلى القارئ اتّجاهًا معاكسًا لذلك، وهو أنّ المسلمين لّما نبذوا الأحكام الإسلامية وراء ظهورهم، واجهوا ما واجهوا من المصائب. نعم! إنّ الإسلام مازال على منواله من التقدم والتطور، فإن هلك قومٌ بما كسبوا، قام قوم آخر مكانهم، واعتنقوا الإسلام مخلصين ورفعوا لواء تقدّمه، ولئن انسدّت طريقٌ في الإسلام فقد انفتحت طريق أخرى خير منها.


(*)      الأستاذ بالجامعة الإسلامية العربية بجامع أمروهة/الهند.

(1)      الطبري: 4/178-175 ذكر ما جمع من فيء أهل المدائن.  الكامل:2/198- 200، ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى. البداية والنهاية: 7/67-70، فتح المدائن.

مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47

Related Posts