الإسلام دين الله الخالد الباقي ما بقي الليل والنهار، و رسالته السامية موجهة إلى البشر جميعًا. وبعثة نبي الإسلام-محمد  ﷺ – بعثة عامة إلى الناس كلهم أجمعين، لاتخص فئةً دون فئةٍ أو بلدًا دون بلدٍ؛ فقد بُعثَ – ﷺ – إلى الأسود والأبيض والأحمر والأصفر، إلى كل من على وجه هذه البسيطة. ومن هنا نجد الرسالة الإسلامية تنادي بكل صراحةٍ وبكل يقين وجزمٍ بكل ما يقرب بني البشر بعضهم من بعض، ويعين على تجسير الهوة بينهم، ويندب إلى كل ما يعدُّ قيمًا مشتركة بينهم بغضِّ النظر عن دياناتهم وأعراقهم وألوانهم وأوطانهم. ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية حافلةٌ بمثل هذه التوجيهات السامية، فيقول الله تعالى: ﴿قُلۡ ‌تَعَالَوۡاْ ‌أَتۡلُ ‌مَا ‌حَرَّمَ ‌رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ١٥١ وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ١٥٢ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153]. وعن عبادة بن الصامت  رضي الله عنه  قال: قال رسول الله-ﷺ-: «أيكم يبايعني على ثلاث..» ثم تلا رسول الله  ﷺ : «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..» حتى فرغ من الآيات، قال: «فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبتَه (أي كانت العقوبة كفارة له)، ومن أخر إلى الآخرة، فأمره إلى الله، إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه»(1). ويقول ابن عباس-  رضي الله عنهما – عن هذه الآية الكريمة: «هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء في جميع الكتب، وهنّ محرّمات على بني آدم كلّهم، وهنّ أمّ الكتاب، مَن عمل بهن دخل الجنّة، ومن تركهن دخل النار»(2). فهذه التوصية قديمة، لم تزل توصاها كل أمّة على لسان نبيهم، لم يختلفن باختلاف الأمم والأعصار. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: «إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة». و«قد انقسمت الأحكام التي تضمنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثلاث المفتتحة بقوله: (قُلۡ ‌تَعَالَوۡاْ ‌أَتۡلُ ‌مَا ‌حَرَّمَ ‌رَبُّكُمۡ ‌عَلَيۡكُمۡۖ) إلى ثلاثة أقسام: الأول: أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامة بين الناس، وهو ما افتتح بقوله: (‌أَلَّا ‌تُشۡرِكُواْ ‌بِهِۦ ‌شَيۡـٔٗاۖ). الثاني: ما به حفظ نظام تعامل الناس بعضهم مع بعض وهو المفتتح بقوله: (‌وَلَا ‌تَقۡرَبُواْ ‌مَالَ ‌ٱلۡيَتِيمِ) [الأنعام:152]. الثالث: أصل كلي جامع لجميع الهدى، وهو اتباع طريق الإسلام، والتحرز من الخروج عنه إلى سبل الضلال، وهو المفتتح بقوله: (وَأَنَّ ‌هَٰذَا ‌صِرَٰطِي ‌مُسۡتَقِيمٗا ‌فَٱتَّبِعُوهُۖ) [الأنعام:153]. و قد ذيل كل قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله: (ذَٰلِكُمۡ ‌وَصَّىٰكُم ‌بِهِ) ثلاث مرات»(3).

         فهذه الآيات الجامعات الشاملة تتضمن عشر وصايا: التحذير من 1.الشرك، 2. عقوق الوالدين، 3. قتل الأولاد، 4. مقارفة الفواحش، 5. قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. والآية التالية تتضمن أربع وصايا أخرى وهي: 1.القيام على مال اليتيم، 2. الوفاء في الكيل والميزان، 3.العدل في القول، 4. الوفاء بالعهد. والوصية العاشرة التي تجمع بين الوصايا التسع هو قوله: ﴿وَأَنَّ ‌هَٰذَا ‌صِرَٰطِي ‌مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:153].

         وسياق الآيات وإن دل على أن الخطاب لمشركي مكة إلا أن معناها عام يشمل كل مؤمن وكافر، وعربي وعجمي، فأمر الله تعالى نبيه أن يدعو جميع الخلق إلى سماع ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر. وهذه الوصايا المتمثلة في الأوامر والنواهي تشكل في الواقع قيمًا مشتركة بين الأديان. فالشرك بالله تعالى اتفقت الأديان السماوية على تحريمه وضرورة تجنبه. فأي دين سماوي يبيح الشرك بالله الخالق البارئ الذي له ما في السماوات وما في الأرض؟. يقول الله تعالى منبهًا على هذه القيمة الأساسية المتفق عليها: ﴿‌قُلۡ ‌يَـٰٓأَهۡلَ ‌ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران:64].

         فدعوة الإسلام إلى رفض الشرك دعوة إلى ما هو مستقر، وما هو معترف به عند الأديان السماوية في أصل توجيهاتها، ثم انحرفت اليهودية وادعت أن عزيرًا ابن الله، وانحرفت النصرانية إلى التثليث.

         والقيمة الثانية التي تضمنتها هذه الآية هي التحذير من عقوق الوالدين. وليس على وجه الأرض دين سماوي أو غير سماوي يبيح عقوق الوالدين. فالأديان والثقافات كلها تدعو إلى الإحسان إلى الوالدين، ومعرفة ما لهما من حقوق، وما في القيام بأمرهما عند حاجتهما إليه من الخير والبركة. والإسلام بدوره ركز كثيرًا على البر بالوالدين، و رعايتهما، والإنفاق عليهما عند حاجتهما إليه، و ثَمَّ آيات عدة غير هذه الآية، تدعو إلى البر بالوالدين والإحسان، منها قوله تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ‌ٱللَّهَ ‌وَلَا ‌تُشۡرِكُواْ ‌بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا﴾ [النساء:36]. «قدم سبحانه تعالى التوحيد على غيره ثم تحدث عن حقوق القرابات، وأولها ذكرًا حقوق الوالدين، وقرن الله تعالى بعبادته و حقوقه حقوقَ الوالدين، وفيه إشارة إلى أن النعم كلها، وإن كانت في الأصل ترجع إلى الله تعالى؛ لكن أعظم المنن على البشر – بعد منة الله تعالى- هما الوالدان فيما يظهر من الأسباب، فإنهما سبب وجوده بالنظر إلى الأسباب العامة. وهما اللذان يكفيانه منذ مولده إلى شبابه ما يواجه من المتاعب والعقبات، و يضمنان وجوده ثم بقاءه ورقيه. ومن ثم قرن القرآن الكريم حقوق الوالدين بعبادة الله تعالى، وطاعته في آيات أخرى، منها قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيۡنَا ‌ٱلۡإِنسَٰنَ ‌بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ١٤﴾ [لقمان:14]»(4).

         وأوصت آية أخرى بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وذكرت ما تحملاه من المتاعب والمشقات في تربية أولادهما والسهر عليهم، فيقول الله تعالى في محكم تنزيله: ﴿‌وَوَصَّيۡنَا ‌ٱلۡإِنسَٰنَ ‌بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥكُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ﴾ [الأحقاف:15]. و هذه القيمة مشتركة بين الأنبياء، فما من نبي إلا دعا إليها، يقول ابن عطية في تفسير هذه الآية: وقوله تعالى: (وَوَصَّيۡنَا ‌ٱلۡإِنسَٰنَ ‌بِوَٰلِدَيۡهِ) يريد النوع، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي، فهي وصية من الله في عباده»(5).

         ويقول المراغي في تفسير هذه الآية: (‌وَوَصَّيۡنَا ‌ٱلۡإِنسَٰنَ ‌بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ) أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنوّ عليهما، والبر بهما في حياتهما وبعد مماتهما، وجعلنا البر بهما من أفضل الأعمال، و عقوقهما من الكبائر. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ثم ذكر سبب التوصية وخص الكلام بالأم؛ لأنها أضعف وأولى بالرعاية، وفضلها أعظم كما ورد فى صحيح الأحاديث، ومن ثم كان لها ثلثا البر، فقال: (حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥكُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ) أي إنها قاست فى حمله مشقة وتعبًا من وحم وغثيان وثقل إلى نحو أولئك مما ينال الحوامل، وقاست في وضعه مشقة من تعب الطلق وألم الوضع، وكل هذا يستدعي البر بها واستحقاقها للكرامة وجميل الصحبة»(6).

         وحضَّت الشريعة الإسلامية على الإحسان إلى الوالدين، ومصاحبتهما في الدنيا معروفًا، وإن كانا على دين الكفر، يقول الله تعالى: ﴿وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [ لقمان:15]. فالإنسان موصى من الله تعالى بطاعته سبحانه حتى في أحرج الأوقات والأحوال، وهي حالة مجاهدة الوالدين، وإصرارهما، ومغالبتهما، وإقناعهما بأن يشرك الولد بالله تعالى ما ليس له به علم، فالله تعالى هو الصاحب الأول المقدم على غيره على الإطلاق؛ ولكن هذا الاختلاف في العقيدة والدين ليس من شأنه أن يحول دون البر بالوالدين، وإسداء الخير إليهما، ولايبطل به حقهما في الصحبة الطيبة، و المعاملة الحسنة الكريمة.

         وقيمة أخرى تتلو هذه القيمة الإنسانية التي دعا إليها الإسلام هي التحذير من قتل الأولاد. و كان من عادة العرب وأد البنات من فقر ومن خشيته. فحذر الله تعالى المجتمع البشري كله من هذه الجريمة الشنعاء، ونبَّه على أن الفقر أو مخافة الفقر ليس من شأنه أن يحمل أحدًا على قتل أولاده؛ فإن الله تعالى قد تكفل برزق الصغار والكبار جميعًا، وكما أن الكبار لهم حق الحياة؛ فإن الصغار لهم حق الحياة أيضًا. والمجتمع الذي يبيح قتل الأولاد، ويعتدي على روح بريئة مجتمع أناني نفعي، وفي الوقت نفسه مجتمع يسوده التشاؤم، ويغشاه الهواجس والأوهام. وقد نهى القرآن الكريم عن هذه الجريمة بصيغة أخرى في قوله تعالى: ﴿وَلَا ‌تَقۡتُلُوٓاْ ‌أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا﴾  [الإسراء:31].

         وهل تجد دينًا من الأديان السماوية أو الوضعية يبيح قتل الأولاد؟ وتؤكد المواثيق والقرارات الدولية اليوم التحذيرَ الشديد من قتل الأولاد، وقد سبقها الإسلام إلى ذلك قبل مئات السنين.

         والبشرية في المنظور الإسلامي واحدةٌ منذ بداية الخلق، والناس متساوون في الكرامة الإنسانية على اختلاف أديانهم وثقافاتهم وأعراقهم وألوانهم، وأجناسهم. يقول الله تعالى: ﴿‌يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلنَّاسُ ‌إِنَّا ‌خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾ [الحجرات:13]. يقول ابن عطية في تفسير هذه الآية: «قوله تعالى: «‌مِن ‌ذَكَرٖ ‌وَأُنثَىٰ) يحتمل أن يريد آدم وحواء. فكأنه قال: إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء. ويحتمل أن يريد بالذكر والأنثى اسم الجنس. فكأنه قال: إنا خلقنا كل واحد منكم من ماء ذكر وماء أنثى. وقصد هذه الآية التسوية بين الناس»(7).

         وأكد النبي  ﷺ  على ذلك في خطبته في حجة الوداع، فعن ابن عمر  رضي الله عنهما  أن رسول الله  ﷺ  خطب الناس يوم فتح مكة، فقال: «يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله، و فاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب»، قال الله: ﴿‌يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلنَّاسُ ‌إِنَّا ‌خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾ [الحجرات: 13].

         ويقول: ﴿وَلَقَدۡ ‌كَرَّمۡنَا ‌بَنِيٓ ‌ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا﴾ [الإسراء:70]. وهذا التكريم يعم البشر كلهم: المؤمن منهم والكافر، والمشرك، و المطيع والعاصي على حد سواء، فهم متساوون في هذه الكرامة الإنسانية بغضِّ النظر عن أجناسهم و ألوانهم وأعراقهم وأديانهم وثقافاتهم. يقول ابن عجيبة (ت:1224هـ) في تفسير هذه الآية: «يقول الحق جلّ جلاله: (وَلَقَدۡ ‌كَرَّمۡنَا ‌بَنِيٓ ‌ءَادَمَ) قاطبة، برهم وفاجرهم، أي: كرمناهم بالصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالكلام، والإشارة والخط، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، وغير ذلك مما لايكاد يُحيط به نطاق العبارة»(8).

         فهذه القيم الإنسانية تشكل أكبر حافزٍ، وأعظم داعيةٍ إلى التعايش السلمي، والاحترام المتبادل بين مخلتف الفئات البشرية، وقبول الآخر، وإلى التقدم والازدهار. فما أجدر أن تتكاتف المجتمعات الدولية كلها على التزامها، والتقيد بها، وممارستها في واقع الحياة، حتى تأخذ بحجز البشرية كلها من حفرة النار، وحضيض الفوضى والاضطراب الذي يسود العالمَ كله اليوم بصورة لم يسبق لها مثيل.

محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري            (تحريرًا في الساعة الثامنة صباحًا من يوم الأحد: 11/ذوالقعدة 1443هـ الموافق12/يونيو 2022م).


(1)      رواه النسائي في السنن[4161].

(2)      الكشف والبيان للثعلبي، تفسير الآية.

(3)      ابن عاشور في تفسير الآية.

(4) معارف القر آن للمفتي محمد شفيع2/410.

(5) ابن عطية في تفسير الآية.       

(6)      المراغي في تفسير الآية.

(7)      رواه الترمذي في السنن، برقم[3270].

(8)      البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة في تفسير الآية.

مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47

Related Posts