بقلم:  الأستاذ محمد نوشاد النوري القاسمي(*)

         الرحلة حاجة وثقافة ومتعة وهواية وشجون وجنون، والجنون فنون، وهي قديمة كقدم الخليقة، فإنها تعني نقلة من مكان إلى مكان، وما كان حيوان في الدنيا ليثبت في مكانه، ويقبع في مأواه، فضلا عن الإنسان، الذي من طبيعته التحرك والانطلاق، وجَوبُ البلاد والانفتاحُ على الآفاق.

         فظلت الرحلة سمة إنسانية ظاهرة، ولا بد للإنسان أن يرتحل؛ يرتحل ليطلب الرزق، يرتحل ليطلب العلم، يرتحل لينشر الدعوة والفكر، يرتحل ليمتع نفسه بمشاهدة الكون ومناظر كونية رائعة، يرتحل ليطلع على أخلاق الملوك ونظام الحكومات، يرتحل ليتعرف على عادات الناس في الأفراح والأتراح، يرتحل ليقيم تجارة رابحة، ويرتحل لأغراض وأهداف تربو على الحصر، وتسمو على البيان.

         قد كانت الأمة العربية من أرقى الأمم ثقافة، وأوسعها فكرًا، وأكثرها دقة وأمانة، حيث حملت لواء العلم والثقافـــــة، وحملت هموم الدعوة الإسلامية في الماضي، ونشرتها في العالم الإنساني كله، فعُرف كثير منهم برحلاتهم الدعوية الطويلة، وكان منهم تجار كبار، عُرفوا برحلاتهم التجارية، وكان منهم سياح كثيرون، عُرفوا برحلاتهم السياحية، التي جابوا فيها الطرقات، وركبوا البحار وتجشموا الأخطار، ودوَّخوا الأقطار، كما سيأتي بيانه.

         وقد شملت الرحلات العربية معظم القارات الأرضية، بما فيها آسيا وأوروبا وإفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا وما إليها، ولكل دولةٍ مناخ خاص، وجوٌّ مخصوص، وأعراف وتقاليد ورسوم، كما أن البلاد تختلف في خصوبة الأرض ونمو المزروعات وجريان الأنهار وتدفق الشلالات، وثقافة السكان، ومدنية الدولة، ونظام الحكومة.

         وكان من الرحالين من التزموا تدوين المذكرات، فوصفوا كل ماشاهدوا، فأبدعوا في الوصف، وفاقوا في البيان، وصَّوروا ما جرى لهم من أحداث وما صادفهم من أمور، فتُعد كتبهم من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية لكون المعلومات والحقائق مستقاة من المشاهدة الحية، والتصوير المباشر، وبأسلوب عربي بليغ؛ حتى تكوَّن فن مستقل في الأدب العربي، سُمِّي بأدب الرحلة.

ما هو أدب الرحلة؟

         إن تحديد مفهوم أدب الرحلة ليس بأمر هين؛ فلم يكن هذا الفن الأدبي كغيره من الفنون في تحديد المصطلح وشهرته؛ فإن الكتب التي تطلق عليها اليوم كلمة «أدب الرحلة» كانت تندرج قديمًا تحت قائمة كتب التاريخ والجغرافيا أو كتب السيرة الذاتية وما إليها من قائمات الكتب، فكلمة «أدب الرحلة» مصطلح جديد، نشأ في العصر الحديث بعد ما شهد الأدب العربي من تطور مدهش في الدراسات اللغوية والمصطلحات الجديدة والتقسيمات العديدة للفنون الأدبية.

         ومن هنا نجد حتى الآن مشكلة وصعوبة في بيان تعريف دقيق لأدب الرحلة، يوضح معالمه ويؤطر حدوده، فإن من الناس من ينكر أدبية الرحلة وصلتها بالأدب العربي، وهذا بلا شك تعسف وإجحاف، فإن كتب الرحلة تشتمل على عدد من الجوانب التي لا يمكن تصنيفها إلا ضمن الفن الأدبي، وهي كما يلي:

       الأمر الأول: إن كتب الرحلة احتوت على كثير من الأشعار والأساليب النثرية الفائقة، فقد جاء معظم الرحلات العربية بنصوص رفيعة المستوى، جذابة الأسلوب، جامعة بين الجمال والخيال، قادرة على الإقناع والتأثير، كما أن عامة الكتب تتميز بالعذوبة والتدفق، وتجري مع الطبع دونما تكلف وصناعة.

       الأمر الثاني: إن الوصف الدقيق الصحيح هو روح الأدب وجوهره، وقد فاقت كتب الرحلات في هذا الجانب، حيث صوَّرت تصويرًا دقيقًا كلًا من العمارات والمباني والقلاع والحصون والأنهار والأشجار والبساتين والشلالات والأحجار ومناظر الطبيعة وعادات الناس والسهر والسمر، ومن ذا الذي يجرؤ على إنكار القيمة الأدبية للوصف؟

       الأمر الثالث: إن كتب الرحلات اشتملت على نماذج رائعة من الفكاهة والمرح والسخرية مع الإمتاع والمؤانسة، كما اشتملت على كثير من القصص الحقيقية والخيالية والمتعة النفسية والذهنية، على أنها قدمت صورًا بارزة للمعارك والحوادث والحوارات والأزمات والمصاعب والأوجاع، مما أسفر عن الموهبة القصصية لدى عامة الرحالين العرب، فكتب الرحلة من شأنها أن تعد هي الجذور الأولى للفن القصصي في الأدب العربي، وإنكار قيمتها الأدبية يضر بالأدب العربي، ويلحق به ثلمة كبيرة، ومن هنا نرى مصداقية كلام الدكتور شوقي ضيف: «ولا نبالغ إذا قلنا: إن الرحلات من أهم فنون الأدب العربي، لسبب بسيط، وهو أنها خير رد على التهمة التي طالما اتهم بها هذا الأدب، ونقصد تهمة قصوره في فن القصة، ومن غير شك من يتهمونه هذه التهمة لم يقرؤوا ما تقدمه كتب الرحلات من قصص عن زنوج إفريقية وعرائس البحر وحجاج الهند وأكلة لحوم البشر وصناع الصين وسكان نهر الفولجا وعبدة النار والإنسان البدائي والراقي مما يصور الحقيقة حينا ويرتفع بنا إلى عالم خيالي حينًا أخر»(1).

         إن أنسب ما وجدته من تعريف لأدب الرحلة ما يلي:

         «هو نوع من الأدب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث، وما صادفه من أمور في أثناء رحلةٍ قام بها إلى أحد البلدان، أويملي أو يحدث مشاهداته ومشاعره تجاه ما سمع وما رأى، ويسطر ذلك شخص آخر»(2).

موضوع أدب الرحلة:

         إن موضوع أدب الرحلة ما يراه ويشاهده المغترب في البلاد الأجنبية، من عادات وتقاليد، وأوضاع سياسية ودينية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وأحداث يعايشها الغريب، ومواقف يتأثر بها، وهموم ومآسٍ، يعانيها أو يرى الشعوب تعانيها، كما أن جغرافيا البلاد ومشاعر وأحاسيس تدور في قلب المغترب تأتي ضمن موضوع أدب الرحلة.

         وإن ما ذكره إنجيل بطرس في تعريف أدب الرحلة يلقي ضوءًا على موضوع أدب الرحلة، فهو يقول: «أدب الرحلات إذن هو ما يمكن أن يوصف بأدب الرحلة الواقعية، وهي الرحلة التي يقوم بها رحلة من بلد إلى بلد من بلدان العالم، ويدون وصفا له، يسجل فيه مشاهداته وانطباعاته بدرجة من الدقة والصدق وجمال الأسلوب والقدرة على التغيير»(3).

         يقول الأستاذ رضي الرحمن القاسمي: «كل ما يراه المغترب الرحال، ويعايشه، ويقرأه عن ملامح بلد أجنبي بعادات، وتقاليد سكانه، وخلفيته السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وأحداث يعايشها الأديب ومواقف تأثر بها، وهموم عاناها في ذلك البلد الأجنبي، طالت أم قصرت مدة إقامته فيها، ومشاعر تختلج في نفس المغترب تجاه الأمور السابقة، و كذلك جغرافيا ذلك البلد»(4).

 أسباب النشأة والتطور:

         إن هناك أسبابًا عملت وراء نشأة أدب الرحلة، وهي في كثرتها فوق الحصر، فإنه ليس بوسع لمرء الإحاطة بأسباب الرحلة والاغتراب؛ إلا أن كثيرًا من الرحالين والمغتربين لم يدونوا وقائع رحلاتهم، ولم يضبطوا تجاربهم في السفر، وكان منهم من كتب وضبط، ومنهم من فصل وأسهب، ومنهم من أوجز واختصر، وإذا نظرنا إلى أسباب الضبط والتدوين –وهي بعينها أسباب نشأة أدب الرحلة- وجدناها كما يلي:

         1- طلب الحاكم تدوين الرحلة: كما ألّف ابن بطوطة كتابه التاريخي «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» ليروي تفاصيل رحلته حول العالم، فقد جاء تدوين هذا الكتاب بأمرٍ من السلطان أبي عدنان المريني، الذي أمر الفقيه الأندلسي ابن جزي الأندلسي بتدوين رحلة ابن بطوطة حسب ما يمليه عليه ابن بطوطة.

         2- طلب الأصدقاء من الرحالة تدوين الرحلة: كما ألف رفاعة رافع الطهطاوي رائد النهضة العلمية في مصر كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، فقد كتبه بترشيح وإيعاز من الشيخ حسن العَطَّار ومدير الرحلة الفرنسي، وهذا الكتاب يشمل انطباعات رفاعة الطهطاوي فيما شاهد ولمس وأحب وكره في باريس.

         3- الرغبة الذاتية في الإمتاع لدى الرحالة: قد يكون الرحالة يملك رغبة شديدة في إفادة وإمتاع القراء وتثقيفهم بالجديد، وتعريفهم بتاريخ البلدان وحضارتها وشعوبها، وأبرز معالمها وعجائبها وعاداتها وتقاليدها، كما فعله عدد يربو على الحصر.

         4- البيان والدلالة: قد يكتب الرحالة كتابًا حول رحلته تثقيفًا وتعليمًا، خاصة الرحالين الحجاج، الذين أرادوا بكتابة رحلاتهم تخفيف أعباء المشقة على من لا يعرفون المشاق وأحكام الحج وصعوبات الطرق، فيدلونهم  على ما ينفعهم في رحلة الحج(5).

*  *  *

الهوامش:

(1)    شوقي ضيف، الرحلات، ص6.

(2)    محمد رضي الرحمان القاسمي، الرحلة وأدبها في اللغة العربية: دراسة تاريخية، مجلة الداعي، أبريل – يونيو، 2013م، العدد6-7، السنة37.

(3)    إنجيل بطرس، الرحلات في الأدب الإنجليزي، مجلة الهلال، العدد 7، السنة 83، يوليو، 1975، ص52.

(4)    محمد رضي الرحمان القاسمي، الرحلة وأدبها في اللغة العربية: دراسة تاريخية، مجلة الداعي، أبريل – يونيو، 2013م، العدد6-7، السنة37. (5)  شوقي ضيف الرحلات، (القاهرة: دار المعارف، ط4، 1996م)ص10.


(*)         باحث الدكتوراه، قسم اللغة العربية بجامعة دلهي، ومساعد تحرير مجلة وحدة الأمة العربية المحكمة، ديوبند.

مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47

Related Posts