بقلم:  الدكتور/ أحمد البدوي

القرآن الكريم طب النفوس

         الاشتغال بالقرآن وخدمته، والتعريف به ونشره، وتحبيبه إلى النفوس، وتشويق الأفئدة إليه، والتبصير به، ولفت الأنظار إليه، والإبانة عن حقائقه وفضله وفضائله وعظمته ومنزلته النبيلة، وأهمية تعلمه وتعليمه، وكيفية تلاوته والأحكام التي تدور حوله، وإقامة الحجة به على الآخرين من أفضل ما يُشتغل به، وتنفق فيه الأوقات، وتبذل فيه الأموال، ويضحى فيه بالمهج وبكل ما هو أغلى وأنفس.

         إن الكتاب الذي لا ريب فيه، ولا نقص يعتريه هو (القرآن العظيم) روح الأمة الإسلامية: به حياتها وعزها ورفعتها، قال الله تعالى مخاطبًا رسوله محمد ﷺ: ﴿‌وَكَذَٰلِكَ ‌أَوۡحَيۡنَآ ‌إِلَيۡكَ ‌رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ (الشورى:52). «فالقرآن الكريم» روح يبعث الحياة ويحركها، وينميها في القلوب، وفي الواقع العملي المشهود. والأمة بغير القرآن أمة: لا حياة لها ولا وزن ولا مقدار لها. والقرآن العظيم: هو كتاب الهداية، ولغة الحياة، وقصة الكون الصادقة من بدايته إلى نهايته؛ بل تجديد لميلاد الإنسان على اختلاف الحقب وتوالي الأجيال ومرور الدهور والعصور، نزل لمخاطبة النفس البشرية، والأخذ بيدها، فهو معها: آمرًا وناهيًا ومرشدًا، وواعظًا مبشرًا ومنذرًا، مصبرًا ومسليًا، معلمًا وموجهًا، سميرًا وجليسًا، صديقًا وأنيسًا؛ فهو الحياة في سموها، والكمال في أسمى معانيه، فقد بلغ الغاية التي لا تدانيها غاية في الرفعة والعلو والخلود والسمو. فما أبدع تراكيبه! وما أروع أساليبه! وأسمى معانيه.

القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة

         والقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة الباقية، التي نصبها الله عز وجل: شاهدًا حيًّا ناطقًا بصدق الرسول  ﷺ ، ولقد تحدى الله عز وجل به العالم كله: إنسًا وجنًّا، فما ثبتوا لهذا التحدي، أظهروا: عجزًا صارخًا، وعيًّا بليدًا.

         وقد سجل الله تعالى عليهم نكوصهم عن مجاراة القرآن ومسايرته في آفاقه العالية، حيث قال جل شأنه: ﴿قُل ‌لَّئِنِ ‌ٱجۡتَمَعَتِ ‌ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا﴾ (الإسراء:88).

تعريف العظمة

         جاءت العظمة (في اللغة) بمعانٍ كثيرة، نأخذ منهاما يدل على المقصود. قال ابن فارس: «العين والظاء والميم: أصل واحد صحيح يدل على كبر وقوة. عظمه تعظيمًا، وأعظمه: فخمه وكبره، والتعظيم: التبجيل والكبر والقوة والزهو، والوسط والشرف، والكثرة والتبجيل والفخامة.

ما جاء في القرآن الكريم من ألفاظ العظمة

         وردت لفظة العظمة وما يتفرع عنها في الآيات القرآنية في مواطن متعددة منها:

         1- قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدۡ ‌ءَاتَيۡنَٰكَ ‌سَبۡعٗا ‌مِّنَ ‌ٱلۡمَثَانِي وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ﴾ (الحجر:87). وقد نوه الله عز وجل في هذه الآية بعظمة القرآن الكريم، ووصفه بأنه نعمة عظمى تتضاءل دونها جميع النعم.

         2- وقال جل شأنه: ﴿قُلۡ ‌هُوَ ‌نَبَؤٌاْ ‌عَظِيمٌ﴾ (ص:67). لا ريب أن القرآن الكريم: خبر عظيم، وحديث عظيم؛ كلام رب العالمين، ولأنه خط سير البشرية إلى الطريق المستقيم.

         3- قال الله تعالى: ﴿‌وَإِنَّهُۥ ‌لَقَسَمٞ ‌لَّوۡ ‌تَعۡلَمُونَ ‌عَظِيمٌ ٧٦ إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ ٧٧ فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُونٖ٧٨﴾ (الواقعة: 86-87). أي أن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم؛ لو تعلمون عظمته؛ لعظم المقسم به عليه. وأن هذا القرآن الكريم الذي نزل على محمد ﷺ لكتاب محفوظ عظيم موقر.

         4- قال الله تعالى: ﴿ذَٰلِكَۖ ‌وَمَن ‌يُعَظِّمۡ ‌شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ﴾ (الحج:32). والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها: المناسك كلها.

         كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ‌ٱلصَّفَا ‌وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:158). ومعنى تعظيمها: إجلالها والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد. ومنها: الهدايا، فتعظيمها؛ باستحسانها، وأن تكون مكملة من كل وجه. فتعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى أساسه: «تقوى القلوب» فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله.

         وقد ذكرت القلوب هنا لأن (المنافق) قد يُظهر التقوى للناس تصنعًا، وقد يكون قلبه خاليا منها؛ فلا يكون مجدًا في أداء الطاعات، أما (المؤمن المخلص) الذي تكون التقوى متمكنة في قلبه؛ فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص.

         5- قال رب العزة: ﴿‌وَإِذۡ ‌قَالَ ‌رَبُّكَ ‌لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ٣٠﴾. يخبر الله عز وجل: أن من يجتنب معاصيه ومحارمه، ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه؛ فهذا التعظيم يكون له خيرًا وثوابًا، مُدخرًا له في الآخرة عند ربه عزوجل. ولأن تعظيم حرمات الله تعالى من الأمور المحبوبة لله، والمقربة إليه، فمن عظمها وأجلها؛ أثابه الله عز وجل ثوابًا جزيلًا، وكانت له خيرًا في الدنيا والآخرة.

حرمات الله سبحانه وتعالى

         حرمات الله كل ما له حرمة، أو أمر باحترامه من عباده أو غيره: كالمناسك كلها، والحرم والإحرام، وكالهدي، والعبادات المأمور بها شرعا، فتعظيمها هو: إجلالها بالقلب، وأداؤها من غير تهاون أو تكاسل أو تثاقل.

         6- قال الله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ ‌أَمۡرُ ‌ٱللَّهِ ‌أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا﴾ (الطلاق:5). فقد أخبر الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن من خافه واتقاه: باجتناب معاصيه، وأداء فرائضه، يمحو الله تعالى عنه ذنوبه وسيئات أعماله التي اقترفها؛ لأن التقوى من أسباب مغفرة الذنوب. كما يعطيه الله عز وجل أجرًا عظيمًا في الآخرة، وهو الجنة. وقيل: بالمضاعفة. وقيل: إعظام الأجر، أن يخلده في الجنة.

         7- قال الله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ﴾ (التوبة:20). إن الموصوفين بهذه الصفات الأربع في غاية الجلال والرفعة؛ لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة: الروح والبدن والمال. أما (الروح): فلما زال عنها الكفر، وحصل فيها الإيمان، فقد وصلت إلى مراتب السعادة اللائقة بها. وأما (البدن، والمال): فبسبب الهجرة وقعا في النقصان. وبسبب الاشتغال بالجهاد؛ صارا معرضين: للهلاك والبطلان. ولا شك أن النفس والمال محبوبان للإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول، فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال وإلا لما رجحُوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال. ولما رضوا بإهدار النفس والمال؛ لطلب مرضاة الله تعالى.

         8- وقال الله تعالى: ﴿وَمَا ‌لَكُمۡ ‌أَلَّا ‌تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ (الحديد:10). ومعنى: (أعظم درجة) أي: أعظم منزلة عند الله تعالى. وقيل درجات الجنة تتفاضل، فالذين «أنفقوا من قبل الفتح أفضلها»، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وقاتل أعظم درجة وأجرًا وثوابًا ممن أسلم بعد الفتح.

توهم نقص

         ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول؛ فقد قال الله تعالى: ﴿وَكُلّٗا ‌وَعَدَ ‌ٱللَّهُ ‌ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾، أي الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، «كلهم» وعدهم الله عز وجل الجنة.

         9- قال الله تعالى: ﴿وَمَا ‌تُقَدِّمُواْ ‌لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ﴾ (المزمل:20). لقد أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أن «الصدقة» في الدنيا خير من الإمساك، وأعظم ثوابًا؛ ولذلك قال ابن عباس  رضي الله عنهما : تجدوه عند الله تعالى خيرًا وأعظم أجرًا من الذي أخرها عند الموت. وليعلم الجميع أن مثقال ذرة في هذه الدنيا من الخير يقابله أضعاف أضعاف في الآخرة.

مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47

Related Posts