بقلم:  الأستاذ محمد أحمد الغمراوي

سماء وسماء

         والسماء في العلم هي سماء الشمس والقمر والشهب والكواكب والنجوم والسدم. أما في اللغة التي نزل بها القرآن فالسماء متعددة المعاني: هي سماء العلم هذه، وهي أيضا السماء الزرقاء التي تبدو النجوم كأنها فيها وهي فوقها. ثم هي تطلق أيضا على السحاب، وعلى ما ينزل من السحاب من أمطار.

         فالناظر في موضوع السماء في القرآن الكريم وفي العلم، عليه أن يميز في الآيات القرآنية بين ما هو خاص بالنجوم وما إليها، وما هو خاص بسماء جو الأرض من سحاب وما إليه من زرقة الطبقات العليا من هوائه التي هي عادة أول ما يفهم الناس من لفظ السماء ومن وصفها.

         فالسماء في قوله تعالى ﴿فَفَتَحۡنَآ ‌أَبۡوَٰبَ ‌ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٖ مُّنۡهَمِرٖ﴾. ليست هي سماء الكواكب والنجوم، ولكن هي سماء السحاب الذي ينزل الله منه الماء المصرح به في قوله تعالى من سورة الواقعة: ﴿أَفَرَءَيۡتُمُ ‌ٱلۡمَآءَ ‌ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ ٦٨ ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ٦٩﴾ وإذن فأبواب السماء المذكورة في الآية الكريمة من سورة القمر هي أبواب سماء السحاب على المجاز.

         كذلك قوله تعالى في سورة الملك: ﴿فَٱرۡجِعِ ‌ٱلۡبَصَرَ ‌هَلۡ ‌تَرَىٰ مِن فُطُورٖ ٣ ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ٤﴾ يدل، أول ما يدل، على ما يلقى البصر إذا نظر إلى السماء الزرقاء وما يبدو وراءها من قمر وكواكب ونجوم بالليل وشمس بالنهار، إذا لم يكن في الليل أو النهار بين الناظر وبينها حاجب من سحاب أو غبار. كذلك تصدق الآية الكريمة على منظر السماء، إذا تجاوزنا السماء الزرقاء بتجاوز الغلاف الهوائي، كما تجاوزه ملاحو الفضاء في القميرات والسفن الفضائية، فإن السماء عندئذ تبدو كما بدت لهم سوداء حالكة ولو كانت الشمس طالعة، وتتراءى الشمس والنجوم فيها أجساما مضيئة من غير أن يكون لأضوائها أثر في تخفيف ذلك الظلام، لأن الضوء في ذاته لا يرى، وليس في ذلك الجو المظلم ما يشتت ضوء الشمس ويعكسه إلى العين أينما توجه بصرها، كما يحدث في جو الأرض أثناء النهار.

         فلولا الهواء وما يحمل في جو الأرض لبدت السماء للناس حالكة السواد حين تكون الشمس طالعة، ولكانت الظلال على سطحها سوداء مثل ظلال القمر وسماته، إذ هو قد فقد هواءه منذ زمن بعيد. فشتان بين نهار الأرض، ونهار القمر. وشتان ثم شتان بين سماء الأرض، تضيء جوها الشمس فلا يلقى العين منه إلا نور – كما نبه الله إليه في سورة الشمس بقوله سبحانه: ﴿وَٱلنَّهَارِ ‌إِذَا ‌جَلَّىٰهَا﴾ – وبين السماء إذا تجاوزنا جو الأرض وغلافها الهوائي بالنهار، فلا تقع العين منها إلا على ليل مظلم تبدو الشمس فيه قرصا فيه زرقة. وإلى ليل السماء هذا وآية الله فيه اشار القرآن الكريم بل صرح به في قوله تعالى ﴿وَأَغۡطَشَ ‌لَيۡلَهَا﴾ في سورة النازعات، إذ هاء التأنيث راجعة إلى السماء السابق ذكرها في قوله تعالى ﴿ءَأَنتُمۡ ‌أَشَدُّ ‌خَلۡقًا أَمِ ٱلسَّمَآءُۚ بَنَىٰهَا ٢٧ رَفَعَ سَمۡكَهَا فَسَوَّىٰهَا ٢٨ وَأَغۡطَشَ لَيۡلَهَا وَأَخۡرَجَ ضُحَىٰهَا٢٩﴾.

         والمفسرون أجمعون لم يخطر ببالهم أن السماء من وراء جو الأرض سوداء حالكة والشمس طالعة، ففسروا لليل بليل الأرض الذي عهدوه، رغم إضافة الليل في الآية الكريمة إلى ضمير راجع إلى السماء لا إلى الأرض التي لم تذكر إلا في الآية بعدها في قوله تعالى ﴿وَٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ دَحَىٰهَآ﴾ وهذا مثال للحقيقة الكونية تذكر في القرآن، قبل أن يهتدي إليها الإنسان من عام، فيصرف الإنسان النص عن معناه الحرفي الذي يجهله، إلى أقرب معنى يعرفه.

         ولو أنه لزم النص وكان منطقيًّا معه حسب القاعدة النحوية التي قعدها، لسبق علم الفلك الحديث إلى حقيقة عن السماء لم يكشفها العلم إلا بعد قرون من نزول القرآن.

         لكن لعل من الإسراف أن نتوقع من قدامى المفسرين، أو من محدثيهم الذين لم يدرسوا جانبًا كافيًا من العلم الكوني أن يتصوروا سماء حالكة السواد والشمس فيها طالعة لاحجاب دونها، وقد كانوا يظنون نور النهار ممتدا إلى أقصى الكون، وأقصاه عندهم كان السماء الزرقاء التي كانت تضيئها الشمس بالنهار، وتنيرها الكواكب والقمر بالليل. حتى كبير المفسرين المحدثين الشيخ محمد عبده رحمه الله لم يخطر بباله أن المعنى الحرفي للآية الكريمة قد يكون صحيحا فيبحثه، ولو بحث لاهتدى إلى التفسير الصحيح الحديث كما اهتدى إليه – مختصر طبعا – في تفسير قوله تعالى ﴿بَنَىٰهَا﴾ من الآيات السابقة، وقوله تعالى ﴿‌وَٱلسَّمَآءِ ‌وَمَا ‌بَنَىٰهَا﴾ من سورة الشمس في تفسيره جزء (عم) كما سنراه بعد إذا حان موعده، لكنه عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَغۡطَشَ ‌لَيۡلَهَا﴾ لجأ إلى التأويل فقال: «ونسبة الليل إلى السماء لأنه يكون بمغيب كواكبها» ونظنه أراد مغيب شمسها، فالكواكب إنما تظهر بالليل؛ لكن هكذا جاء النص في تفسير جزء عم؛ طبع مجلة المنار وطبع كتاب الشعب.

         وقد زاد الفخر الرازي علة أخرى لنسبة ليل الأرض إلى السماء، هي حركة الفلك، وذلك إذ يقول فيما فسر به الآية الكريمة: (إنما أضاف – ولعلها أضيف – الليل والنهار إلى السماء لأن الليل والنهار إنما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها. ثم غروبها وطلوعها إنما يحصلان بسبب حركة الفلك) وهو تعليل لو صح كان وجيها، لكنه مبني على النظرية الفلكية التي فسر بها فلاسفة اليونان ظواهر الشروق والغروب في السماء، والتي تقول بأن القمر والزهرة وعطارد والشمس والمريخ والمشتري وزحل مغروزة في أفلاك كروية شفافة تدور بها من المشرق إلى المغرب حول الأرض الواقفة في مركزها المشترك، ومن ورائها فلك النجوم الثوابت. وهي نظرية ظلت سائدة إلى أن أبطلها علم الفلك الحديث. حين أثبت أن القمر وحده هو الذي يدور حول الأرض بحركة ذاتية، لا بدوران فلك يحمله. وأن الأرض سيار يدور والسيارات الأخرى حول الشمس بحركة ذاتية أيضا، في مسارات في الفضاء هي أفلاكها، كل منها على شكل قطع ناقص، الشمس في إحدى بؤرتيه أو مركزيه، إلا أن فلك الأرض يكاد يكون دائرة لتقارب بؤرتيه، وأن للأرض حركة أخرى حول نفسها، إذ تدور حول محور لها أمام الشمس من المغرب إلى المشرق دورة واحدة في اليوم، ينشأ عنها الليل والنهار، فتبدو الشمس والسيارات الباقية كأنها تدور حول الأرض من المشرق إلى المغرب.

         والقرآن الكريم قد دل على كل هذا، وعلى غيره من الحقائق الفلكية، تارة تصريحا، وتارة تنبيها عن طريق الإشارة، بأسلوبه الدقيق المعجز الذي يزداد الناظر فيه فوزًا بأسراره، كلما ازداد أخذا بالنطق الصارم في تفهم آياته، والاستنباط منها، طبق ما تقرر من قواعد اللغة الكريمة التي أعدها الله لتحمل معانيه.

مع هذه الآية

         والآيات المتعلقة بالسماء وظواهرها كثيرة في القرآن الكريم. لكن من أصرحها في إبطال النظرية الفلكية اليونانية، وأملئها بالحقائق العلمية عن طريق الإشارة اللغوية الدقيقة، قوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَهُوَ ‌ٱلَّذِي ‌خَلَقَ ‌ٱلَّيۡلَ ‌وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ﴾ الآية:33. فالفعل (يسبح) يستلزم الحركة الذاتية، إذ لا سباحة ولا سبح بدونها. فهذه كلمة قرآنية دلت بجزء منها على بطلان ما قال به فلاسفة اليونان من فلك مادي لكل من الشمس والقمر يتحرك الغير بحركته لتدليه منه، أو لانغرازه فيه.

         والفعل بعد ذلك يدل على صفات في الحركة. فمنها الإسراع – من وصف العرب الجواد بالسابح إذا كان عظيم السرعة في سهولة، من قول الزمخشري في تفسير (والسابحات سبحا) في سورة النازعات (التي تسبح في مضيها أي تسرع) – ومنها الإبعاد في السير كما في القاموس من معاني (السبح)، والمسافة التي يقطعها القمر في مداره حول الأرض أعظم بكثير بداهة من محيط الأرض.. أما الشمس فقد أثبت العلم لها حركة في فضاء الكون سرعتها نحو اثني عشر ميلا في الثانية في اتجاه النجم الذي يسميه الإفرنج (فيجاFega ) ويسميه العرب النسر الواقع(1).

         فمسار الشمس في حركتها العظيمة هذه هي فلكها، وإسراعها في سيرها قد أشار إليه الفعل (يسبح) في آية سورة الأنبياء، وصرح به الفعل يجري في آية سورة يس إذ يقول الحق سبحانه ﴿وَٱلشَّمۡسُ ‌تَجۡرِي ‌لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ٣٨﴾ وليس يعلم إلا الله بعد ما بينها اليوم وبين ذلك المستقر، ولا متى تصل إليه بعد الذي قطعته في جريها نحوه منذ نزل الوحي بالآية الكريمة في سورة يس.

هل الضمير للجمع

         وبقي ضمير الجمع في الفعل (يسبحون) وما يدل عليه في الآية الكريمة من سورة الأنبياء. وللوقوف على دلالة هذا الضمير طريقان حسب مرد الضمير في الآية الكريمة، واحتمال أن تكون أداة التعريف في (الشمس والقمر) للعهد أو للجنس. فإذا كان مردّ الضمير إليهما وحدهما تحتم أن تكون (ال) للجنس وإلا لجاء الضمير على التثنية وإذن فالنص الكريم يدل على أن في السماء شموسًا وأقمارًا. وما كان ذلك ليخطر ببال أحد يرى بعينيه شمسًا واحدة، وقمرًا فردًا، إلى أن جاء علم الفلك الحديث فأثبت صحة هذا الوجه في الآية الكريمة، إذ أثبت أن كل نجم في السماء، شمس وأن شمسنا إن هي إلا نجم متوسط بين النجوم.

         فالشعرى مثلا التي يقول الله فيها ﴿‌وَأَنَّهُۥ ‌هُوَ ‌رَبُّ ‌ٱلشِّعۡرَىٰ﴾ أكثر ضوءًا من الشمس ستًّا وعشرين مرة، وأعظم منها كتلة، ولولا أنها تبعد عنا بنحو خمسين بليون ميل لأحرقت الأرض وما عليها. كذلك أثبت الرصد أن في السماء أقمارًا إلى قمرنا، وإن اقتصر ثبوت ذلك اليوم على المجموعة الشمسية: فللمريخ قمران صغيران، وللمشتري تسعة أقمار منها أربعة كبار، ولزحل تسعة أقمار منها واحد صغير، وليورانوس أربعة أقمار كبار، ولنبتيون قمر صغير، ولا قمر لعطارد ولا للزهرة، ولم يعرف لبلوتو – أبعد السيارات عن الشمس – قمر. وبلوتو أبعد من الأرض عن الشمس أربعين مرة(2).

         هذا طريق. أما إذا كانت (ال) للعهد فيتحتم أن يرجع ضمير الجمع في الآية الكريمة لا إلى الشمس والقمر فقط وهما اثنان، ولكن إليهما وإلى الليل والنهار معهما، ويكون لكل من الليل والنهار إذن حركة في فلك. والليل والنهار يتعاقبان على جو الأرض. ففلكهما إذن هو جو الأرض وغلافها الهوائي. وتعاقبهما في كل مكان حيث يتبع الضوء الظلمة وتخلف الظلمة الضوء إذا انسلخ عن جو مكان ما، هو حركة فعلية يدل على كيفيتها قوله تعالى في الآية الخامسة من سورة الزمر ﴿يُكَوِّرُ ‌ٱلَّيۡلَ ‌عَلَى ‌ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيۡلِۖ﴾. وفي القاموس أن التكوير (لوث العمامة وإدارتها) وفي الكشاف عند تفسير الآية (والتكوير اللف واللي.. يقال: كار العمامة على رأسه وكورها).

         وقد جاء الزمخشري فيه بأوجه، ليس منها الحركة، مع أنها أساس اللف واللي، لكن العلم أثبت حرفية معنى التكوير حين أثبت للأرض لفًّا ودورانا حول محورها أمام الشمس، ينشأ عنها النهار والليل، طبق الخواص التي أودعها الله في الضوء، فسبحان الذي بكلمة أو بكلمات قليلة في كتابه يدل عباده على آية أو عدد من آياته في الخلق، كما دل بكلمة (يكور) على حركة الأرض حول محورها وحركة الضوء في جوها، وعلى شكلها أيضا، وكما دل بقوله سبحانه: ﴿كُلّٞ ‌فِي ‌فَلَكٖ ‌يَسۡبَحُونَ﴾ في موضعها من الآية الكريمة. فكل احتمال منها يدل على آية في الخلق أو آيات كانت تجهلها البشرية كلها حين نزل القرآن.

الضمير هنا بين الفلاسفة والمفسرين:

         هذا من ناحية كون الضمير للجمع في قوله تعالى (يَسْبَحُونَ) وإن بقي للقول فيه بقية. أما كونه لجمع العاقل فقد ذهب المأخوذون بالفلسفة اليونانية إلى أنه دليل كون الكواكب أحياء ناطقة كما قال ابن سينا فيما ذكر الفخر الرازي في الجزء السادس من تفسيره. وهذا مثل للهوى يغلب حتى الفيلسوف، فيسارع إلى فهم ما يوافق هواه من الآي القرآنية من غير التدقيق الواجب عليه على أي حال. فلو أنه دقق لوجد أن ضمير العاقل قد ورد في القرآن الكريم على المجاز لما لا يمكن أن يكون فيه عقل، وذلك في قوله تعالى ﴿وَٱللَّهُ ‌خَلَقَ ‌كُلَّ ‌دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٤٥﴾ الآية (45) من سورة النور.

         وإذن فضمير العاقل في (يَسْبَحُوْنَ)، كضمير العاقل في (مِنْهُمْ)، هو للدلالة على سر من أسرار الخلق وسنن الفطرة في ما استعمل الضمير له، يشبه فيه أهل العقل. فأما آية النور فقد صرح الله سبحانه بسر ضمير العاقل فيها في قوله تعالى ﴿وَمَا ‌مِن ‌دَآبَّةٖ ‌فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ﴾ وهي الآية (38) من سورة الأنعام. السابقة على سورة النور في تاريخ النزول وفي ترتيب المصحف معًا. فالضمير في آية النـــور كأنه تذكـــــــير بما سبق التصريح به والتنبيه إليه في آية الأنعام. أما ضمير العاقل في (يَسْبَحُوْنَ) فالمجـــاز فيــــه أوضح وأظهر حتى من المجاز في ضمير آية النور، لأنه في آية الأنبياء راجع إلى ما لا حياة فيه قط، من ليل ونهار وشمس وصفها الله في آية أخرى بأنها سراج وهاج، وقمر يستمد نوره من الشمس.

         وقد علل الفخر الرازي ضمير العاقل في (يسبحون) بقوله ردًّا على ابن سينا: «إنما جعل واو الضمير للعقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة» وهو تعليل قاله الفراء من قبل فيما ذكر أبو حيان في تفسيره. لكن السباحة ليست خاصة بالإنسان، فدواب البحر أمهر منه فيها؛ بل وبعض حيوان البر. فكان ينبغي لمثل الفخر أن يتوقف ويفوض إلى الله ما دام لم يجد تعليلا يليق بجلال القرآن.

         والتعليل في مثل هذا ينبغي أن يتطلب في القرآن نفسه. والدليل إليه هو قوله تعالى: ﴿قَالَتَآ ‌أَتَيۡنَا ‌طَآئِعِينَ﴾ في الآية (11) من سورة فصلت: ﴿ثُمَّ ‌ٱسۡتَوَىٰٓ ‌إِلَى ‌ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ﴾.. وطاعة الله هي التي من شأن العقلاء. فنزول السماء والأرض على أمر الله طوعًا لا كرهًا، إشارة إلى تمام نفوذ سنن الله فيهما، هو العلة التي تليق بجلال الآي القرآنية في ذكرها بضمير العاقل في آية فصلت، وذكر ما لهمامن ظواهر وأجرام في آية الأنبياء، وسورتا فصلت والأنبياء مكيتان كلتاهما، لكن فصلت سابقة على الأنبياء في تاريخ النزول، نزول الوحي بهما، فكأن ضمير العاقل في آية الأنبياء جاء ليذكر بأخيه في آية فصلت الذي جاء ومعه تعليله الصريح، كالذي كان من تذكير الضمير في آية النور بالحكمة المصرح بها في آية الأنعام.

*  *  *

الهوامش:

  • انظر دليل المصطلحات العلمية الملحق بكتاب النجوم في مسالكها، للعالم الفلكي جينز ترجمة الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني من كتب لجنة التأليف والترجمة والنشر.
  • هذا وما قبله عن السير فرانك ديسون في فصل (الفلك) من كتاب العلم اليوم وغدا.

*  *  *

مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47

Related Posts