بقلم: رئيس التحرير

         رن جرس هاتفي في وقت متأخر من الليل بالنسبة لي، ولم أتعود الرد على الهواتف في مثل هذا الوقت، ثم حدثتني نفسي أن أرد عليه، فإذا المتصل أحد العلماء من ولاية «راجستهان» وبالتحديد من جامعة دارالعلوم/بوكرن بالولاية. وأبدى المتصل رغبته في زيارتي، فتواعدنا على اللقاء في اليوم التالي بعد الساعة التاسعة والنصف صباحًا. وفعلا زار الأخ الفاضل/عبد السلام وزميلاه في بيتي في «إفريقي منزل». وبعد التحية والتسليم والمصافحة والمعانقة والتعارف أعربوا عن رغبتهم في زيارتي لجامعتهم دارالعلوم/بوكرن بمناسبة الاختبارات السنوية في أواخر شهر رجب المرجب عام 1443هـ، وأشاروا إلى أن شيخنا أستاذ العربية الشيخ نور عالم خليل الأميني كان يزور هذه الجامعة بين الفينة والأخرى، وبما أن كاتب هذه السطور خلفه في إدارة مجلة «الداعي» الشهرية الصادرة عن الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند، رغبوا أن أزور هذه الجامعة. وفي نهاية المطاف اتفقنا على هذه الزيارة في أول شهر مارس عام 2022م.

         ولم يمض إلا أيام قلائل حتى أرسلوا إلي تذكرة القطار ذهابًا وإيابًا من ديوبند إلى «بوكرن» أقرب محطات القطارات إلى الجامعة المذكورة أعلاه.

         واستمر التواصل خلال ذلك مع الأخ عبد السلام الموقر، حتى جاء اليوم الموعود يوم الثلاثاء 1/مارس عام 2022م، فبكرت في اتخاذ استعدادات السفر، وأوصلني الأخ محمد عفان – أحد طلاب قسم التخصص في الإفتاء بالجامعة- إلى محطة قطارات ديوبند في الساعة السابعة والنصف صباحًا بالدراجة النارية. وتأخر القطار المتجه إلى محطة «جيسلمير» المار بمحطة «بوكرن» الذي يحمل رقم (14646) عن موعده: الساعة الثامنة إلا 17 دقيقة بنحو ربع ساعة، حتى جاء يتهادى في الساعة الثامنة تمامًا، وكانوا حجزوا لي في الدرجة المكيفة الثانية رقم العربة (HA1 4). فركبت القطار قائلًا: بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم. توصلت إلى المقصورة الخاصة بي فإذا أنا ببعض الركاب المتجهين إلى المحطات القريبة من ديوبند، فما إن وقع نظرهم علي، و وضعت عفشي في المكان المحدد، وجلست على معقدي حتى انهال بعض الركاب بالسؤال علي، و الاستفسار عن الوضع الأمني في قصبة «ديوبند» إبان التصويت في الانتخابات الإقليمية التي عقدت في الأيام الأخيرة، واتجاهات الناس وميولهم فيما أدلوا من الأصوات. ثم سكتوا بما أجبت به، أخرجت بعض الكتب لأطالع فيه. وسار القطار ويتوقف على المحطات التي يمر بها دقيقتين أو أقل أو أكثر. ولم أجد في القطار زحامًا عهدته في عامة القطارات الهندية المنتشرة شبكتها في أنحاء البلاد.

         واصل القطار سيره سحابة النهار حتى توقف في محطة «جاي فور» (Jaipur)، وكان الأخ المفتي عبد السلام أشعرني بأن أحد الشباب يرغب في توفير وجبة الغداء في المحطة، و سبق أن اتصل علي الأخ طالب – أحد خريجي جامعة دارالعلوم زكريا/ديوبند، والذي يقوم بالتدريس في بعض الكتاتيب التابعة لبعض جوامع مدينة «جاي فور»، ويتولى الإمامة والخطابة فيه بجانب الدراسة عن بعد في بعض الجامعات العصرية-، فداهمني في المحطة دون أن أشعر بوصول القطار إلى «جاي فور»، فنزلت من القطار، و رحبت به و بزميله وشكرته على هذا القرى والوفادة الرائعة، ودعوت الله تعالى أن يجزيه به خيرًا منه وأطعمه عمرة وحجة، وسقاه من زمزم، ومن سلسبيل جنات النعيم.

         وعلى طول الطريق من «ديوبند» إلى ولاية «هريانا» (Haryana) تجد على جنبي السكة الحديدية حدائق باسقة، قد أينعت ثمارها وحان قطافها، ومزارع مخضرّة، وثغور نبات مفترّة، من الشعير والرز وقصب السكر وغيرها من الحبوب، وقنوات وأنهار جارية ملتوية المسالك و المجاري كالحية الرقطاء، ومنتزهات ذات ورود و زهور زاهية الألوان وخافتتها، تشرح الصدر و تثلج الفؤاد، وتقر العين. فيا له من منظر خلاب وجذاب يستهوي القلوب. كم يتمنى المار بهذه المناطق الخصبة الخضراء أن يمضي أيامًا وأسابيع وشهورًا فيها، ويتمتع بجمالها وبهجتها وما أضفى الله تعالى على هذه القرى والأرياف من الرونق والبهاء والصفاء، ويهتز فرحًا وسرورًا اهتزاز الصارم:

         وصار المواتُ رُبَى من زروع وزهر

وأمطرت السّحْب سمنًا وشَهدًا

         فما إن دخلت ولاية «راجستهان» إلا ورأيت المنظر يتبدل بغيره، وتنقلب الأرض رأسًا على عقب، أرض جرداء غير ذات ذي زرع، وصحراء قاحلة لاتنبت إلا قليلا من الخضراوات، نقية من الجبال والتلال ذات الكلإ النضير، وإنما هي أشجار السمر متناثرة في كل مكان، لايكاد يمشي فيه السيارات إلا في الطرق الممهدة، والقطارات في سككها الحديدية، صحراء لايختلف ظاهرها عن باطنها، صحراء لايعيش فيها إلا الآساد، ومن له همم الآساد، وصبر الجمال، و الصحراء دار العلماء والأقوياء، ولايعيش فيها الجاهل، ومن ليس له علم بالنجوم والمسالك، ومن لايقوى على مواجهة الأهوال، ومكابدة المشقات؛ هي أشبه شيء بالصحراء التي امتهد فيها الإسلام:

         إنما الإسلام في الصحراء امتهد

ليجيء كل مسلم أســـــــــــــــــــد

         وخلال الطريق لم أذق النوم إلا غرارًا، كنت  أغفو غفوة ثم أستيقظ، وتأخر الليل، وأسدى سدوله على العالم. وكان موعد وصول القطار إلى محطة «بوكرن» الساعة الثالثة من الهزيع الأخير من الليل. فانقضى الليل، وأنا أغالب النوم وهو يغالبني، فكنت أغمض العينين إذا غلبني سلطان النوم، وأمسح النوم عن عيني حين يستولي علي مخافة أن تتجاوز المحطة التي أريد النزول فيها في مثل هذا الوقت الذي لايكاد يملك المرء عينيه إلا قليلا.

         آب هذا اللّيل فاكتنعا

                                    وأمـــــــــــــــرّ النّــــــــــــــــوم فـــامتنعا

       و

         ما أذوق النوم إلا غرارًا

                                    مثل حسو الطير ماء الثماد

         كنت أفكر- والقطار يسير بخطى حثيثة بسرعة مئة كيلو أو أقل وأكثر في الليلة الحالكة الظلام، وفي هذه الصحراء الموحشة المترامية الأطراف الواسعة الأرجاء- أننا نحن المسلمين قد ضاقت أو كادت تضيق علينا هذه البلاد الشاسعة، وقد وردها آباؤنا يشقون الطريق لينبوع الإسلام، و يحملون النور الذي نزل به جبرئيل على النبي ﷺ وهو في قمة جبل حراء السامقة، النور الذي انبثق من مكة التي يقوم المسلمون صفوفًا وراء صفوف، يتصورون كعبتها على البعد من وراء البحار والتلال والجبال السوداء، وتهفو إليها قلوبهم أكثر مما يهفو إلى المحبوب قلب العاشق الهيمان؛ جاؤوها يحملون الرسالة السماوية، ودعوة الحق والخير والجمال في القر والحر والليل والنهار، يريدون الخير لأهلها ولأهل الأرض جميعًا عربهم وعجمهم، و أسودهم وأبيضهم، يريدون أن يزيحوا عنها الحكومات الطاغية الظالمة التي جثمت على صدرها بالكبر والاضطهاد، وأذاقت أهلها من الأذى والضر ألوانًا وأنواعًا، لم يسبق لها مثيل، وقد خلفوا وراء ظهورهم أهليهم وأموالهم وذكريات أمسهم وآمال غدهم، يقولون لأهل هذه البلاد: تعالوا شاركونا في الخير الذي حملناه إليكم، لانريد منكم جزاء ولاشكورًا، فإن فعلتم فحظّكم أصبتم، لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وينادون بـ :لا إله إلا الله، لا رب سواه، وتعست أصنام اللحم و الدم، وأصنام الشجر والحجر، والشمس والقمر، والنجوم، وخابت وخسرت، فوقعت الواقعة، و تحققت معجزة المعجزات، وانقلبت الأرض رأسًا على عقب، وعادت هذه الديار عصفورًا من ذهب، ومثابة أهم للعلوم الدينية الإسلامية في مشارق الأرض و مغاربها، ومن أكبر مراكز الإشعاع الروحي والديني حقبة من الدهر، فمنها خرج مرتضى الزبيدي محمد ابن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسينى الزبيدى، أبو الفيض، الملقب بمرتضى(1145-1205هـ = 1732-1790م) علامة اللغة والحديث والرجال والأنساب، من كبار المصنفين. فأصله من واسط (في العراق) ومولده بالهند (في بلجرام) ومنشؤه في زبيد (باليمن) رحل إلى الحجاز، وأقام بمصر. وهذه الأرض أنجبت القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري (المتوفى: ق12هـ) الذي ألف كتاب دستور العلماء (جامع العلوم في اصطلاحات الفنون)، والشيخ محمد أعلى التهانوي صاحب كتاب كشاف اصطلاحات الفنون، وكثيرين جاؤوا من قبل ومن بعد.

         غفوت غفوة، وأنا مضطجع على سريري في القطار ثم استيقظت فزعًا فإذا القطار على مشارف مدينة «بوكرن» حيث تقرر نزولي في محطتها. فجمعت العفش والأغراض كلها، وتأهبت للنزول من القطار والساعة تدق الثالثة إلا دقائق. وقف القطار على المحطة، وبدأ المسافرون ينزلون وحقائبهم وأغراضهـم، فنزلت فاستقبلني مجموعة(1) من خير عباد الله في ثياب بيض لايرى عليها أثر السفر، فإذا هم الشيخ عبد السلام وجماعته سابقوا القطار في الوصول إلى المحطة فسبقوه، فكان تبادل التحية والتسليم والمصافحة والمعانقة والترحيب والحفاوة التي داعيتها المحبة و الإجلال، والتي تأخذ القلوب وتملك الشعور. وجامعة بوكرن – وجهتي – غير بعيدة من المحطة. والمحطة متواضعة يبدو أن يد التطوير والتنمية والإصلاح لم يمسها إلا في السنوات الأخيرة، فأخذت تنشق الهواء بعد أن ظلت مخنوقة لاتعرف النور مدة من الزمان غير قصيرة. فحملوا أغراضي إلى السيارة الواقفة على مقربة من بوابة المحطة، وركبوها وركبتها، وتبوأت مكاني في المقعد الأمامي. ولم يمض إلا دقائق حتى كنا أمام مبنى شامخ من الطراز الإسلامي الجامع بين الأصالة والحداثة، يستهوي الناظر إليه، فقالوا: هذه جامعة دارالعلوم/ بوكره، وهذه بوابتها. فاقتربنا إليها، وقد فتحت استقبالا للقادمين من الضيوف. وبلغني أن نظام البوابات مشدد جدا، فلايسمح لأي طالب الخروج من حرم الجامعة إلا ومعه بطاقة ترخيص صادرة من الإدارة بضمان أحد الأساتذة في الدار. كما يسجلون الخروج والدخول إلى الحرم الجامعي، ويحسبون الدقائق والساعات التي قضاها الطالب خارج رحاب الجامعة، مما أثار عجبي وحيرتي، واستنطقني بالثناء على هذه الجهود الطيبة الرامية إلى توفير الجو الدراسي في هذه الديار البعيدة عن مراكز الثقافة و التعليم كل البعد.

         نزلت في مضيفة الجامعة، وهي عبارة عن عدة غرف مزودة بالسرر المريحة والأثاث اللازم، وأهم ما يلفت انتباه الزائر عناية القائمين على الجامعة عامة، وعلى المضيفة بصفة خاصة بالنظافة والطهارة والترتيب والتنسيق. وقدموا لنا بعض المشروبات السريعة لأودعهم ويودعوني لآخذ ويأخذوا قسطًا من الراحة والاستجمام، وافترقنا على اللقاء قبيل صلاة الصبح.

         صلينا الفجر جماعةً في مضيفة الجامعة، ثم أخذنا مكاننا فيها على كراسي مريحة، ودخل كثير من الأساتذة والطلاب، يتعرفون ويسلمون علي، وأنا يأخذني الحيرة والاستعجاب من دماثة خلقهم، وصفاء قلوبهم، ولين أريكتهم. وتطرق الحديث إلى موضوعات شتى. ثم تناولنا الفطور في الساعة التاسعة تمامًا، وكلفني الأخ عبد السلام أن أخرج معه إلى صالة الامتحانات لأطلع على نظامها وسيرها. فتوجهت إليها برفقته، واستقلبني بها بعض كبار أساتذتها المتواجدين بها بحفاوة بالغة، وجلست أقرأ بعض أوراق الأسئلة فوجدتها أشبه بأوراق الامتحان في دارالعلوم/ديوبند محتوى وتنسيقًا.

         وبعد صلاة العصر من اليوم نفسه خرجنا من المدرسة للنزهة، وأنى تجد في هذه الأراضي القاحلة نزهات وبساتين، وإنما هي أشجار السمر متناثرة هنا وهنا. وتطرقنا خلال الجولة إلى مصلى العيد الذي شيده أحد الملوك المغول. ونصبت في محراب هذا المصلى لوحة تشير إلى أن المسجد الجامع تم بناؤه عام 1116هـ، وأما القلعة القديمة والبرج الشمالي- ولم أتمكن من زيارة الجامع أو القلعة القديمة- فقد تم إنشاؤهما عام 1095هـ بأمرمن الملك أورانك زيب عالمكير(ت:1118هـ)، الذي يحق أن يوصف بـ بقية الخلفاء الراشدين؛ فقد ترك آثارًا في كل ناحية من نواحي البلاد التي حكمها، وعلى كل المستويات: آثارًا في أرضها، وآثارًا في عقولها، و آثارًا في حكمها، وآثارًا في إدارتها، وآثارًا في قضائها، وآثارًا في ضرائبها، وآثارًا في العلم و المعرفة، وملأها مساجد ومدارس ومشافي ومارستاناتٍ، وترك للأمة الإسلامية من أعظم مصادر الفقه الإسلامي الذي حفر اسمه في جبين التاريخ، وسيخلد ذكره ما بقي الليل والنهار، وهو الفتاوى العالمكيرية التي وضعت بأمره ونظره وإشرافه بمساعدة من مجموعة من فحول أهل العلم في عصره، ونسبت إليه.

         وكان رئيس الجامعة الشيخ المقرئ محمد أمين حفظه الله خرج لمشوار له في وقت مبكر من الصباح، فلم أستطع لقاءه والتسليم عليه في حينه، وعاد الشيخ مساءً، وما إن انصرفت من صلاة العشاء في مسجد الجامعة إلى مثواي في المضيفة حتى أخبروني بأن الشيخ قادم، فقلت لهم: ويلكم كلفتم الشيخ الصعود إلى المضيفة، وهو هو في سنه وعلمه وعمله، و هلا أكون أنا الذي يتوجه إلى غرفته لأزوره وأسلم عليه؟ فقالوا: لا، قد عرضنا على الشيخ هذا الأمر، فلم يرض بذلك، وهو في الطريق إلى المضيفة. فلم يمض إلا هنيهات إلا وأنا بشيخ طاعن في السن في نحو العقد السابع من عمره، يلوح على صفحات وجهه سِيما المجد، والحياء، ويتجلى في محياه علامات البشر، وسمات الخير، ولوائح الكرم، وتوسمت فيه مخايل النجابة والصفاء والوفاء والتقوى والصلاح، والسذاجة والبساطة، وأريحية الشباب، وبهاء السادة ومحبة القادة و نجابة الكهول، وكأنه:

         ملك يلوح على محاسن وجهه

أثر الوفا ومعاقد التّيجان

         فهش إلي وبش، وغمرني بالعطف والحنان، والبر والإحسان، وطوقني بتواضعه، ولين جانبه، و ملك علي وجداني، وأخذ نفسي من أقطارها.

         يا أمينَ الله عِشْ أبَدًا

                                    دُمْ عَلَى الأيامِ والزمنِ

         وكلفني مشايخها أن ألقي درسًا باللغة العربية على طلاب الصفوف العربية. واستمر هذا الدرس أكثر من ساعة واحدة، وذلك بعد صلاة المغرب في قاعة دارالضيوف التابعة للجامعة، حضر هذه الدروس بجانب الطلاب كثير من أساتذة اللغة العربية.

         وفي اليوم التالي ظهرًا عقدت الجامعة حفلة ترحيب بكاتب هذه السطور برئاسة رئيسها الشيخ المقرئ محمد أمين حفظه الله، وحضرها كثير من أساتذة الدار بجانب عدد من رؤساء المدارس والجامعات في ولاية «غجرات»، نزلوا ضيوفًا على دارالعلوم/بوكرن. وتحـــــــــــدث أولا الشيخ المقرئ ثناء الله إلى الحفل، ثم كلفوني أن أتحدث باللغة العربيــــة أولا ثم باللغـــــــــــــــــــــة الأرديـــــــــــــة. وتطرق حديثي إلى أهمية اللغة العربية وطرق تدريسها قديمًا وحديثًا، وتركزت الخطبة على المهارات العربية التي يعتبر تعلميها العمود الفقري في تأهيل الطالب لاستخدام اللغة العربيــــة تحدثًا وقراءةً وكتابةً. وفي حديثي باللغة الأردية أشرت إلى تاريخ المدارس الإسلامية وأهميتها. وكان له وقع طيب في نفوس السامعين.

جامعة دارالعلوم/بوكرن:

         ترجع نشأة الجامعة إلى العقد الرابع من القرن الرابع عشر الهجري؛ حيث دشن الشيخ محمد عالم رحمه الله- أحد الأولياء الأتقياء الصالحين- عام 1339هـ بعد ما تخرج في العلوم والفنون في بيئة يسودها البدع والخرافات في قرية جامعة تسمى «قرية كومت» من مديرية «جيسلمير» بولاية راجستهان، كُتابا سماه «المدرسة الإسلامية»، في محاولة للقضاء على الجهل والأمية التي أدت إلى سيادة البدع والخرافات في المنطقة، وتحولت هذه المدرسة الصغيرة القائمة في أحد جوامع القرية فيما بعد إلى دوحة باسقة عرفت بـ المدرسة الإسلامية دارالعلوم/ بوكرن. وكان في طليعة من شد أزر الشيخ محمد عالم كل من الحاج متهو ميان، والفقيه أمير الدين. ونزلت هذه المدرسة الفتية غيثًا على هذه البلاد القاحلة الجرداء، وسرعان ما آتت أكلها بإذن ربها، وامتدت نفحاتها وبركاتها المتمثلة في حركة التعليم والإصلاح الديني. وتم تحويل الكتاب إلى مدرسة توفر السكن والحاجات اللازمة للطلاب المقيمين فيها بمساعٍ بذلها الشيخ دوست محمد-نجل الناشط الاجتماعي الحاج متهو خان- الذي ولي إدارة المدرسة بعد ما تخرج من دارالعلوم/ ديوبند عام 1355هـ/1936م، ثم نقلت هذه المدرسة من القرية إلى أحد أحياء «بوكرن»، ثم منها إلى قصر ساون خان، واستمرت بها ست أو سبع سنوات. واشتروا قطعة أرض خاصة بالمدرسة عام 1957م، و وضعوا حجر أساسها عام 1958م. وتوفي الشيخ دوست محمد في 15/مايو 2003م و رشح الشيخ المقرئ محمد أمين لرئاسة الجامعة، والحاج الحافظ دين محمد لنيابته.

         ومن أقسام الجامعة التعليمية والإدارية والتربوية في هذه الأيام: إدارة الجامعة، وقسم شؤون التعليم، وقسم تدريب المعلمين، وقسم تنسيق الكتاتيب، وقسم التخصص في الإفتاء، و قسم القضاء، وقسم شؤون المكتبة، وقسم النشر والإعلام، وأكاديمية شيخ الإسلام، واللجان الطلابية، وقسم التطوير والصيانة، وقسم تحسين  الخط، وقسم التغذية، وقسم السكن الطلابي، وقسم الحاسوب الآلي، وقسم الدعوة والتبليغ، ومستشفى السلام، وقسم الإصلاح الاجتماعي. وبلغ عدد الطلاب في السنوات الأخيرة حوال (1117).

         ومن أبرز العلماء والمشايخ الذين زاروا هذه الجامعة: الشيخ عبد الغني أمير جماعة الدعوة والتبليغ فرع ولاية «غجرات»، والشيخ محمد عيسى البالنبوري، والشيخ هارون رشيد/ غجرات، وكثير من مشايخ دارالعلوم/ديوبند.

         ولشد ما جذب انتباهي وفعل في نفسي فعلا لايمحي آثاره مدة طويلة عنايةُ الجامعة الكبيرة بالنظافة، والتنسيق، وترتيب الخرائط المختلفة التي تشير إلى السير التعليمي والإداري في المدرسة من عدد المدرسين والموظفين إلى عدد الطلاب، وسجلات تتضمن مواعيد التحاق الطالب بالجامعة والمدة التي قضاها، والدراسات التي تلقاها فيها وما إلى ذلك.

         وطلبوا مني أن أعرب عن انطباعاتي عن الجامعة ونظامها، وجهودها ومساعيها، فسجلت في سجل الانطباعات بعد الحمد لله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يلي:

         «في 28/رجب عام 1443هـ= 2/مارس 2022م يوم الأربعاء قمت بزيارة الجامعة دارالعلوم/ بوكرن بولاية «راجستهان»، حيث وصلت إليها في الهزيع الأخير من الليل، واستقبلني على محطـــــــــــة القطارات بعض الإخوة الأفاضل من أساتذة الدار وغيرهم، وذلك بمناسبة الاختبارات السنويـــة التي تشهدها الجامعة في هذه الإيام، وبدعوة منها.

         تعتبر هذه الجامعة من أهم؛ بل أهم  المؤسسات التعليمية الإسلامية في ولاية «راجستهان» الهندية، ولقد صدق من وصفها بـ الأزهر في ولاية «راجستهان»، نظرًا إلى خدماتها الضخمة، و نفحاتها الممتدة، وبركاتها الواسعة، ومشاريعها التربوية والتعليمية، وجهودها الجبارة في محو الأمية ونشر الدعوة الإسلامية. وليت شعري أ أعجب مما يعاني هذه المنطقة من جدب وقحوط، و شح في الماء وبخل من السماء، أم أعجب من هذه الدوحة العلمية الوارفة الظلال، البعيدة التأثير في هذه المنطقة وأهلها وغيرهم، وهي في هذا الوادي غير ذي الزرع، ويرى عجبًا أعجب من العجب كل من يشاهد، ويسمع، ويقرأ هذه الجهود المشكورة، التي بذلها مؤسسها، ويبذلها خلفاؤه القائمون على هذه الدار في الحفاظ عليها وسقيها وتعاهدها حتى استغلظت، واستوت على سوقها، وآتت وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. بارك الله فيهم وتقبل مساعيهم، وجعلها في ميزان حسناتهم.

         وقد جلست إلى مديرها الشيخ الفاضل الصالح المقرئ /محمد أمين حفظه الله ورعاه فعجبت من دماثة خلقه، وتواضعه، وحرصه على كل ما يرفع من مستوى المدرسة التعليمي و التربوي؛ وجلست إلى أساتذتها، فوجدتهم حريصين على تزويد الطلاب بكل ما ينفعهم ويؤهلهم لخدمة الدين والعباد والعباد؛ وقعدت إلى طلابها، وألقيت عليهم محاضرات في اللغة العربية و الدين، فوجدتهم أحرص على النهل من هذا المنهل العذب الصافي، ونظرت في أوراق الإجابة في الاختبارات السنوية فكان عند حسن ظني بها.

         ولا أنسى الخدمة التي قدمتها دارالضيافة بالجامعة والقائم عليها خلال تواجدي فيها، من الوجبات الغذائية، والشاي الأحمر والأبيض والأصفـــر، فأشكـــــــرهم جميعًا من أعمـاق قلبـــــي، داعيًا أن يجزيهم الله تعالى خير الجزاء في الدنيا والآخرة.

         وبارك الله فيهم جميعًا، وكتب لهذه الجامعة الازدهار، ورفع من شأنها، وجعل خدمتهم ذخرًا لهم في الآخرة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري

أستاذ الجامعة الإسلامية:دارالعلوم/ديوبند

ورئيس تحرير مجلة «الداعي» الصادرة عنها

تحريرًا في 29/رجب 1443هـ

3/مارس 2022م          قضيت يومين وليلتين في رحاب هذه الجامعة المباركة، وجوها العلمي، وبين يدي هذه الوجوه النيرة من رئيسها وأساتذتها وطلابها الوافدين من أدنى الأرض وأقصاها، في مدارسات علمية، ولقاءات ودية، وزيارات أخوية، وحوارات لغوية، وهموم دينية. وعدت إلى بيتي في ديوبند في الساعة السابعة والنصف من الليلة المتخللة بين يومي الجمعة والسبت، وأحمد الله تعالى على هذه الرحلة التي أكسبتني كثيرًا من التجارب، وأفادتني كثيرًا من المعلومات عن هذه البلاد المترامية الأطراف وأحوال أهلها من إخواننا في الدين والعقيدة، وما يعانونه من المتاعب والعقبات الكَأْداء في نشر التعليم والتوجيه الإسلامي، والعلم الديني والدعوة والإرشاد، وأسأل الله تعالى أن يكتب لهم التوفيق والنجاح، ويتقبل منهم ما يقدمونه لدينهم ولبلادهم من جهد ووقت ومال.


(1)      وكان ممن لقيتهم في محطة القطار ثم في الجامعة كل من المولانا أرشد مدير شؤون التعليم، والمفتي سعيد، والمفتي نوشاد، والمولانا عبد الرؤوف،والمولانا جمال،والمولانا رحمت الله المتقاعد من الجيش الهندي من رتبة النقيب، والمولانا المقرئ محمد أمين -رئيس الجامعة- والحافظ دين محمد – نائب رئيس الجامعة – والمولانا عبد الحي رئيس هيئة التدريس.

مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47

Related Posts