بقلم: العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله  (1305-1369هـ/1887-1949م)

تعريب: أبو عائض القاسمي المباركفوري(*)

         وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٞ ٩

         أي لايكتفي بالعفو عن التقصيرات التي تصدر بمقتضى البشرية؛ بل يجزيهم أجرًا عظيمًا.

         وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ١٠

         الآية تشير إلى عقوبة الفريق- المقابل الذي سبق ذكره في الآية السابقة- الذي كفر بالحقائق القرآنية الصريحة والواضحة أو كذَّب بالمعالم التي أرشد الله تعالى إليها لتهديهم إلى الحق والصدق.

         يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ هَمَّ قَوۡمٌ أَن يَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ فَكَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١١

         بعد أن ذكَّرَ بالنعم العامة يذكِّرُ بالنعم الخاصة.أي أن كفار قريش ومن والاهم بذلوا ما في وسعهم لإيذاء رسول الله ﷺ والقضاء على الإسلام، ولكن حَالَ فضل من الله تعالى دون نجاح مساعيهم ومكايدهم. ويستوجب ذلك أن يحفظ المسلمون أعداءهم من كل ظلم واعتداء وإن تغلبوا عليهم، ولايفوتهم العدل والإنصاف جريًا وراء عواطف الثأر والانتقام والانتصاف منهم. كما أكدت الآيات السابقة ذلك. وقد يتوهم البعض أن درس المسامحة البالغة هذا مع هؤلاء الأعداء الألدّاء قد يضر مبادئ السياسة وأصولها، فإن هذا الموقف اللين قد يشجع الأشرار وذوي الطوية الخبيثة على المسلمين، فدفع هذا التوهم بقوله: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [المائدة:11].

         أي أن أعظم سياسة المؤمن هو التقوى والتوكل على الله تعالى، ومعنى تقوى الله تعالى أن يصفي معاملته الظاهرة والباطنة معه، ويفي بما وعده كل الوفاء، ثم لاعليه أن يخاف أحدًا. وتحدثت الآية التالية – ليكون عبرة لنا- عن قوم تجرؤوا على الله تعالى، ونقضوا عهدهم، فكيف ذلوا وهانوا واستكانوا.

         وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمۡۖ لَئِنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ١٢

         أي لايختص أخذ هذا العهد بالأمة المحمدية؛ فقد أخِذ مثله من الأمم السابقة.

         فائدة: اختار موسى عليه السلام عشرة نقباء من عشرة أسباط بني إسرائيل، وحكى المفسرون أسماءهم عن التوراة، كان من واجبهم أن يأخذوا قومهم بإيفاء الوعد، ويقوموا عليهم. ومن العجائب أنه تم تعيين عشرة نقباء حين بايع الأنصار النبي ﷺ ليلة العقبة قبل الهجرة، وناب هؤلاء العشرة عن أقوامهم في بيعة النبي ﷺ، روي عن جابر بن سمرة في حديث طويل أن الخلفاء الاثني عشر الذين بشر بهم هذه الأمة هم على عدد نقباء بين إسرائيل. وحكى المفسرون عن التوراة أن الله تعالى قال في حق إسماعيل عليه السلام: أخرج من ذريتك اثني عشر نقيبًا. ولعلهم الذين ورد ذكرهم في حديث سمرة رضي الله عنه.

         فائدة: وهذا الخطاب إما موجّهٌ إلى  الاثني عشر نقيبا هؤلاء، أي قوموا بواجبكم، فلكم نصرتي وعوني أو يكون الخطاب موجَّهًا إلى بني إسرائيل كلهم، أي أنا معكم، أي لاتعدوني بعيدًا منكم في حال من الأحوال، وأنا أرى وأسمع ما تقومون به سرًّا أو علانية، وفي أي مكان وفي أي وقت، فلا تأتوا شيئًا إلا وأنتم في يقظة.

         فائدة: أي تصدقون من يأتي بعد موسى عليه السلام من الرسل، وتوقرونهم، وتنصرونهم على أعداء الحق بأنفسكم وأموالكم.

         فائدة: ومعنى إقراض الله تعالى هو الإنفاق في نصرة دينه وأنبيائه. كما أن المقرض يأمل أن ماله سيعود إليه، ويرى المستقرض ردَّه إليه واجبًا على نفسه. فما ينفقه المرء مما أعطاه الله تعالى في هذه الدنيا، لن يضيع ولن ينقص، وأوجب الله تعالى على نفسه تفضلا ورحمة منه- لا كرهًا وجبرًا عليه- أن يرده عليكم متمثلا في نفع عظيم.

         فائدة: المراد بـ(قَرْضًا حَسَنًا) الإخلاص في الإنفاق، والإنفاق مما تحبونه ومن طيبات أموالكم.

         فائدة: أي إذا كثرت الحسنات تغلبت على السيئات. وإذا سعى المرء سعيه في الوفاء بعهد الله تعالى، نفى الله تعالى عنه النقائص، وبوأه فيما فيه رضاه وتقربه.

         فائدة:(فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ): أي من  خان الله تعالى واستعد للكفر والغدر رغم هذا العهد الصريح الموثق، فاعلموا أنه قد ضل طريق النجاح والنجاة. لاتدري في أي هاوية الهلاك يقع؟ وما ورد أخذ العهد عليه من بني إسرائيل هنا هي: الصلاة، والزكاة، والإيمان بالأنبياء، ونصرتهم بالنفس والمال. وأولها عبادة بدنية، والثانية عبادة مالية، والثالثة قلبية ولسانية معًا، والرابعة تكملة خلقية للثالثة في الواقع. وكأنه بذكر هذه الأمور أشار إلى أنه يجب طاعة الله تعالى والوفاء بالعهد بنفسكم ومالكم، وقلبكم وقالبكم. ولكن بني إسرائيل نقضوا هذه العهود واحدًا بعد واحدٍ، ولم يدوموا على شيء منها، فما أدى إليه نقض هذه العهود أشار إليه الآية التالية.

         فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣

         معنى مادة (ل ع ن) الطرد والإبعاد، أي بسبب نقضهم العهد وخيانتهم أبعدناهم من رحمتنا وألقيناهم بعيدًا. وجعلنا قلوبهم قاسيةً. ويفيد قوله: (فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ) [المائدة:13] بأن سبب لعنهم وقساوة قلوبهم هو نقض العهد وعدم الوفاء الذي هو فعلهم. وبما أن ترتيب المسببات على الأسباب من فعل الله تعالى، فنسب إليه سبحانه (وَجَعَلْنَا قُلُوْبَهُمْ قٰسِـيَةً) [المائدة:13].

         فائدة: أي يحرفون كلام الله تعالى، حينًا في لفظه، وآخر في معناه، وثالثًا في تلاوته. فأنواع التحريف هذه كلها قد شرحها القرآن الكريم وكتب الحديث. واضطر نصارى أوربا اليوم إلى الاعتراف ببعضها.

         فائدة: أي كان عليهم أن يستفيدوا من هذه النصائح الغالية، المتوفرة في ظهورخاتم الأنبياء وبعض المهمات الدينية الأخرى في كتبهم، ولكنهم أنساهم ذلك كله غفلتُهم وشرورهم؛ بل ضيعوا الشطر الهام من هذه النصائح أيضًا، ثم إنهم لايتفاعلون ولايتأثرون بالنصائح  والأمور المفيدة التي تتلى عليهم على لسان خاتم النبيين. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: جر عليهم نقض العهد أمرين: اللعنة وقساوة القلب، اللذين أديا إلى أمرين: تحريف كلام الله تعالى، وعدم الانتفاع بالذكر، أي مسِخت أذهانهم وعقولهم من جراء اللعنة حتى استعدوا بكل وقاحة وفساد عقلي لتحريف الكتب السماوية. ومن جانب آخر لما قست قلوبهم من شؤم نقض العهد، فقدوا صلاحية قبول الحق والتأثر بالنصيحة، فضيعوا بذلك القوتين العلمية والعملية.

         فائدة: أي غدرهم وخيانتهم مستمران ليومنا هذا، وسيستمران لاحقًا. فلاتزال تطلع على بعض غدرهم ومكرهم ودهائهم بشكل دائم.

         فائدة: أي عبد الله بن سلام وغيره ممن دخل في الإسلام.

         فائدة: أي إذا كانت هذه سنتهم القديمة، فإنك في غنى عن مناقشتهم في كل أمر جزئي، وكشف خيانتهم فيه، فدعهم واصفح عنه، وقابل شرهم بالعفو والإحسان إليهم. فلعلهم يتأثرون به. قال قتادة وغيره: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لَا يُؤْمِنُوْنَ بِاللّٰهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْاٰخِرِ) [التوبة:29]، ولاحاجة إلى القول بالنسخ، فإن الأمر بالقتال لايستلزم عدم العفو والصفح وتأليف قلب هذه الأمة في حين من الأحيان وفي مناسبة من المناسبات.

         وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١٤

         النصارى من (نصر)، ومعناه العون. وهي نسبة إلى(ناصرة) قرية في الشام، سكنها المسيح عليه السلام. ولذا سمي بـ (المسيح الناصري). والذين قالوا: إنا نصارى كأنهم ادعوا أنهم على الدين الإلهي الحق، وناصرون للرسل، ومن أتباع المسيح الناصري. ورغم هذا الادعاء اللساني والمباهاة اللقبية كانوا من الدين على ما أشار إليه القرآن لاحقًا.

         فائدة: أي أخذ منهم العهد كما أخِذ من اليهود، ولكنهم لم يكونوا على أقل من سابقيهم في نقض العهد وعدم الوفاء به، فلم ينتفع هؤلاء بدورهم بهذه النصائح الغالية، التي يقوم عليها النجاة والنجاح الأبدي؛ بل ضيعوا الشطر الخاص من التاريخ بالنصائح التي تشكل العمود الفقري للدين ولبه في الواقع.

         فائدة: أي قامت بين النصارى أنفسهم أو بين النصارى واليهود عداوات وخلافات أبدية. وترتب ما كان  يترتب على تضييع الكتاب السماوي ونسيانه من النتائج والعواقب. أي لما حُرموا نور الوحي الإلهي اشتبكوا بعضهم مع بعض في ظلمات الأوهام والأهواء. فلم يبق دين، وإنما بقي الخلاف في الدين. فنشأ منه فرق وطوائف اصطدمت بعضها مع بعض في الظلمات. وهذا الصدام الطائفي تحوّل في آخر الأمر إلى عداوة وبغضاء شديدة. ولا شك أن المسلمين اليوم يعيشون تفرقًا وتشتتًا وصدامًا طائفيًّا على أشده. ولكن لازلنا – ولله الحمد- محتفظين بالوحي الإلهي والقانون السماوي من غير وكس ولا شطط، فلاتزال وستظل طائفة كبيرة من المسلمين- رغم هذا الخلاف والشقاق- قائمة على الحق. على عكس الاختلافات والشقاق بين اليهود والنصارى، أو ما بين البروتستانت، والكاثوليك وغيرهما من الطوائف والفرق حيث لم تعد واحدة منها اليوم على طريق الحق والصواب، ولن تعود إلى ذلك حتى يرث الله تعالى الأرض وما عليها؛ فإنهم ضيعوا – بسبب ظلمهم وسوء أعمالهم – نور الوحي الإلهي الذي لايسع أحدًا بدون أن يتوصل إلى المعرفة الصحيحة بالله تعالى وقوانينه، فما داموا متمسكين بهذه التوراة المحرفة، استحال عليهم إلى يوم القيامة أن يخرجوا من ظلمات هذه الاختلافات العمياء الباطلة، والتفرق والبغض والعناد، وأن يروا سبيل الحق، وأن يسلكوا سبيل النجاة الأبدية. وأما من يستهزئ اليوم بالدين  وخاصة النصرانية، والذين احتفظوا بالمسيحية أو التوراة الحاضرة لمجرد تحقيق عدد من الأهداف السياسية، فإن هذه الآية الكريمة لاتتعرض لهم، ولو سلمنا شمول الآية لهم، فلايخفى على أهل العلم والمعرفة ما يجري بينهم من العداوات، والمؤامرات الخافية، والمحاربات الظاهرة العلنية.

         فائدة: أي لايفارقهم هذه الخلافات والبغض والعناد ما داموا على قيد الحياة. وقوله: (اِلٰى يَوْمِ الْقِيٰمَةِ) المراد به هنا ما يجري في خطاباتنا من أن فلانا لايرعوي عن فعلته إلى يوم القيامة، ولايعني ذلك أنه يعيش ويأتي هذه الفعلة إلى يوم القيامة؛ بل المراد أنه لو عاش إلى يوم القيامة لم يرعوِ عن هذه الفعلة، فكذلك ما جاء في الآية من قوله: (اِلٰى يَوْمِ الْقِيٰمَةِ) لايدل على أن اليهود والنصارى يعيشون إلى يوم القيامة، كما فسر به بعض المبطلين في زماننا.

         فائدة: أي سيعلمون عواقب فعلتهم بصورة كاملة في الآخرة، وفي الدنيا ببعض الأحداث والوقائع.

         يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥

         هذا خطاب لليهود والنصارى بأنه قد جاء الرسول الخاتم الذي لاتزال البشارة بظهوره في كتبكم بصورة أو أخرى رغم ما دخلها من التحريف والتبديل، والذي ألقى الله تعالى في  فيه كلامه، والذي أكمل الحقائق التي فارق المسيح قبل أن يكملها، ويبين هذا النبي الخاتم ما تكتمونه وما تحرفونه من التوراة والإنجيل، ويعفو عما ليس إليه كبير حاجة.

         يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦

         ولعل المراد بالنور هو النبي ﷺ نفسه، والمراد بالكتاب المبين هو القرآن الكريم، أي قل لليهود والنصارى- الذين ضيعوا نور الوحي الإلهي، ووقعوا في ظلمات الأهواء والآراء، وفي هاوية من الخلاف والشقاق، ولاسبيل لهم إلى الخروج منها – والوضع هذا – إلى يوم القيامة،- قل لهم: قد جاءكم أعظم نور من الله تعالى، فإن كنتم تريدون سير طريق النجاة الأبدية، فاتبعوا هذا النور، تجدون سبل السلامة مفتوحة، وتخرجون من الظلمات إلى النور من غير ريب وتردد. وتسلكون الصراط المستقيم من غير تكلف إذا أخذتم بيد من رضيتم باتباعه.

         لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ ٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٧

         أي: لا إله غير المسيح. قالوا: هذا عليه الفرقة اليعقوبية من النصارى، التي قالت بحلول الله تعالى في قالب المسيح- والعياذ بالله-، أو بتعبير آخر: لما قالت النصارى بألوهية المسيح، بجانب إقرارهم باللسان بالتوحيد، أي أن الله واحد، كان من لوازم هذين الادعاءين أنه لا إله غير المسيح عندهم. وأيًّا كان، لاشك في أن هذه العقيدة كفر بواح.

         فائدة: هَب أن الله القادر القهار أراد أن يهلك المسيح وأمه مريم وكل من على الأرض قديمًا وحديثًا مرة واحدةً، أفرأيتم من يمنعه عنه، ويحول دونه؟ أي هَب أن الإنس أولهم وآخرهم جمعهم الله تعالى في مكان واحد، ثم أراد أن يهلكهم مرة واحدة، عجزت قوتهم  الجماعية عن تأجيل إرادة الله تعالى ولو عشية وضحاها؛ فإن قدرة المخلوقات منحة ومحدودة، وعاجزة محضة أمام قدرة الله تعالى الذاتية اللامحدودة. ويعترف بها حتى من رد عليهم هذا الخطاب الرباني، بل المسيح ابن مريم أيضًا، الذي اتخذوه إلهًا، فقد ورد في إنجيل مرقس قول المسيح: «يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ». أي كأس الموت.

         فإذا كان المسيح عليه السلام – الذي تقولون : إنه إله-، وأمه – التي تزعمونها أم الإله- ومن في الأرض جميعًا ثبت عجزهم جميعًا أمام مشيئة الله تعالى وإرادته، فما أقبح وأوقح وأجرأ وصف عيسى أو أمه أو من في الأرض جميعًا بالألوهية. وحملنا (الهلاك) في الآية على الموت، وشرحنا كلمة (جميعًا) بعض الشرح، و معناها الذي بينا يوافق ما صرح به أئمة العربية. ويمكن عدم حمل الهلاك في الآية على الموت، كما قال الراغب: إنه قد يراد به الإهلاك، وقد يحمل على فناء الشيء وزواله مطلقًا، كما في قوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَه) [القصص:88]. ومعنى الآية حينئذ: لو أراد الله تعالى أن يُفني المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا، فمن يحول دون إرادته، يقول الشاعر الفارسي ما معناه:

         هو الملك الذي يفعل ما يشاء

يهلك ويفني العالم كله في لحظة واحدة

         يقول الشاه [عبد القادر رحمه الله]: يخبر الله تعالى عن الأنبياء بمثل هذه الأشياء كيلا يرفعهم أممهم إلى منزلة الألوهية، وإلا فإن النبي يستحق أن يُخاطَب بمثل هذا الخطاب نظرًا إلى منزلته العالية وجاهه عند الله تعالى.

         فائدة: ما شاء، وكيف شاء، فمثلاً خلق المسيح من غير أب، وخلق الحواء من غير أم، و خلق آدم من غير أب وأم.

         فائدة: لايغني عنه قوة أحد، فالأخيار والأبرار كلهم عنده سبحانه عجزة مسلوبو القوة.

*  *  *


(*)     أستاذ الحديث والأدب العربي بالجامعة.

مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47

Related Posts