بقلم:  الأستاذ/البهي الخولي

1- لماذا هاجروا؟

         يستقبل المسلمون هذه الأيام غرة عام هجري جديد ويحتفلون في مطلع كل عام بذكرى تلك الهجرة، فيذكرون ما يذكرون من آثارها، ويفيضون في تفصيل حوادثها، كأنك ترى أصحابها، وتنتقل معهم من مكة، حيث الجو المخنوق الموبوء، إلى مدينة الأنصار، حيث ترى من سماحة الاستقبال، وفرحة اللقاء، وكرم الإيثار ما لم يسجل التاريخ مثله لجيل من الأجيال، أو لأمة من الأمم.

         وتسأل نفسك: لماذا هاجر هؤلاء المهاجرون هجرتهم تلك العجيبة الرائعة؟.. هل كانت الشقة يسيرة فأغراهم قرب المسافة برحلة لا يمسهم فيها نصب، ولا يمسهم فيها لغوب؟

         لم تكن تلك الرحلة يومئذ بالأمر الهين في عصر كانت الأسفار فيه تقاس بالأيام والليالي.. وكان المسافر من مكة إلى المدنية يستغرق في سفره عشرة أيام وعشر ليال، وهي مدة إذا مثلت لخيال البدوي من أهل تلك الحقبة، وثب له معها بعد الشقة ووعورة الطريق، ووحشة الغربة السحيقة النائية.

         وتسأل سؤالا، أو أسئلة أخرى.

         هل كانوا من ذلك الطراز الذي يهون لديهم مفارقة الأوطان، وما فيها من أهل وأصدقاء وذكريات عزيزة حبيبة؟

         ويجيبك واقع هؤلاء أنهم هاجروا من بلدتهم العزيزة الحبيبة، وهي أحب أرض الله إليهم، وقلوبهم تلتفت إليها، ولما استقروا بدار هجرتهم الكريمة لم تستقر مشاعرهم، فكان الحنين لا يفتأ ينازعهم إليها. إلى ربوعها، وبطاحها، وهضابها وشجرها ونبتها، وكان بلال رضي الله عنه كثيرًا ما يرفع عقيرته متنهدًا أسيفًا بقوله.

         ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

بوج(1)، وحولي إذخر(2) وجليل(3)

         وهل أردن يوما مياه مجنة(4)

وهل يبدون لي شامة(5) وطفيل(6)

         فليست الشقة – إذًا – يسيرة، وليس القوم ممن يهون لديهم مفارقة الأهل والوطن.. فماذا نزع بهم إلى تلك الهجرة النائية الشاقة على النفس والبدن؟

         هل كانت لهم هناك مغانم منظورة أو كنوز مذخورة، أو أموال موعودة، أو أرض طيبة مأنوسة بما شاءوا من الدور والأهل والأصدقاء؟ … ويجيبك التاريخ على سبيل اليقين: إنه لم يكن لهم بدار هجرتهم أي عرض منظور أو مذخور، ولا أي غرض مما يثير الناس، ويبعث هممهم إليه في كل أفق.

         وإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهل كانوا يقيمون بمكة على هوان وضيم، أو على عيش جاف خشن، فحملهم ذلك على أن يفتجعوا على عادة البدو – منازل ذات رفاهة وسعة؟… وهذا السؤال أبعد الاحتمالات عن أن يكون سببًا لتلك الرحلة الفذة الممعنة في الغرابة والاغتراب، فقد كان المهاجرون أغلبهم من ذؤابة قريش شرفًا ومنعة، ورفعة بيت، ورخاء حال، وكل قارئ للسيرة و تاريخ العرب يعرف شرف البيت الذي ينتمي إليه محمد ﷺ، والبيوت التي ينتمي إليها أمثال أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم… ولم يكونوا على عيش خشن جاف، فكان بواديهم بيت مبارك تهوي إليه أفئدة من الناس، وتجبى إليه ثمرات كل شيء.. وكانت لهم رحلتا الشتاء والصيف، فآمنهم الله بذلك كله من خوف، وأطعمهم من جوع.. ولم يكن المهاجرون أقل أهل هذا الوادي مالا؛ بل كانوا من أوسطهم حالا، وأيسرهم غنى وسعة، وتذكر كتب السيرة أن أبا بكر رضي الله عنه – أخذ معه يوم هاجر خمسة آلاف، هي بقية عشرات ألوف كان يملكها فأنفقها كلها على الدعوة، ولا سيما في شراء العبيد الذين كان سادتهم يعذّبونهم على إيمانهم.

2- بين المادة والروح..

         هذه أسئلة أوردناها وأجبنا عليها من واقع التاريخ، ولا يستطيع أشد الناس جدلا أو مكابرة أن يزعم أن الهجرة تمت تحت إغراء أو ضغط أي ظرف من الظروف التي جعلناها موضوعًا لأسئلتنا.

         وبيننا الآن فلسفة تفسر أحداث التاريخ على ضوء العوامل المادية أو الاقتصادية وحدها، فكل أحداث التاريخ وتطورات البشر ونظم الحضارة التي تنقل فيها الناس إلى اليوم، إنما صنعتها – في رأيهم – عوامل اقتصادية حسية، بإملاء الاقتصاد، ونداء حاجاته، وتوجيه ضروراته.. وهي فلسفة مستفيضة ينتهون منها إلى مقررات معينة، منها: الإيمان بالمادة الحسية وحدها، وفعل العوامل الاقتصادية في تطوير الإنسان ومنحه ما يكون له من مقومات الضمير من الآداب والمثل ونحوها… مع إنكار ما عدا ذلك من العوامل الروحية وآثارها، وادعاء أنها خرافة.

         ونحن نسلم بأثر المادة وفعل العوامل الاقتصادية في حياة الإنسان، وليس من كرامة العقل أن نجادل في واقع يلابسنا ونلابسه، ونلمس آثاره في أنفسنا ومجتمعنا.. ولكنا مع ذلك نسأل باسم كرامة العقل أيضًا: هل العوامل الاقتصادية وحدها هي التي تصنع للإنسان تاريخه، وترسم له طريق تطوره، وتملي على أفراده وجماعاته ما يجب أن يكون؟

         إن حادث الهجرة يتولى الإجابة عن ذلك، فقد سقناه وحاولنا أن نجد له تفسيرًا على ضوء أوضاع المادة وعوامل الاقتصاد، فلم نجد فيما عرفنا من كتب السيرة ومراجع التاريخ سببًا واحدًا يرده إلى منطق هذا المذهب ومقرراته.

         ومن المسلم به أن الهجرة من حوادث التاريخ التي لا حيلة في إنكارها، أو التشكيك في حدوثها، فليس لها من تعليل – إذا – سوى عوامل أخرى غير حسية، هي العوامل التي اقترنت بظروف الهجرة وملابساتها بدءًا وختامًا، وكانت هي الباعث وهي الغاية… ولسنا نجد شيئًا اقترن بتلك الظروف ولابسها سوى المبادئ التي جاء بها محمد ﷺ، وآمن بها هؤلاء فغيرت ما بأنفسهم وعقولهم وقلوبهم، ونقلتهم من حال إلى حال.

         كان التفكير الحسي يطغى على وجود أهل البيئة كلها، فأفسد عقولهم وأذواقهم، وعطّل ما لهم من مواهب وملكات روحية… كان هذا التفكير هو الذي يتولى لهم تصوير الحقائق الروحية، والكائنات الغيبية، فالملائكة إناث.. والآلهة حجارة.. ولله شريك أو شركاء … وتعدد المعبودات هو الأمر الذي لا تسيغ العقول سواه﴿أَجَعَلَ ‌ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ؟…إِنَّ ‌هَٰذَا ‌لَشَيۡءٌ عُجَابٞ..﴾ … وإذ تعطل في الناس وعيهم الروحي، فقد أسرع ذلك التفكير الحسي الجاهل، فملأ في النفوس فراغها الروحي، حتى سادت الخرافات والأوهام، واتخذت فيهم مكان التقاليد والعقائد.

         فللجن أثر في حياة الإنسان يجب أن يحسب حسابه.. وللطير إذا أيمنت أو أشملت علاقة بما سيكون من أحداث تسر أو تسوء.. وللأزلام إذا استقسموا بها حكمها الذي تعنو العقول لفصله، وتتقرر مصائر الأرواح والأموال بأمره ونهيه.. وللكُهّان والعرافين حكومتهم التي تشد إليها الرحال، فينتهي بها الأشكال، وينزل المتخاصمون على حكمها.. ولا شيء وراء ذلك الكون الحسي، وليس للإنسان من حياة أخرى يحياها في عالم غيبي على نمط تسمو فيه أذواق الروح على أذواق البدن وأحكام المادة. ﴿إِنۡ ‌هِيَ ‌إِلَّا ‌حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا نَحۡنُ بِمَبۡعُوثِينَ﴾، ﴿وَقَالَ ‌ٱلَّذِينَ ‌كَفَرُواْ هَلۡ نَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ يُنَبِّئُكُمۡ إِذَا مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمۡ لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍ..﴾… وإذ كان الموت هو الخاتمة التي تنهي حياة كل منهم إلى غير رجعة – على زعمهم – فقد أقبلوا على شهوات الحس يبادرونها بما ملكت أيديهم، وكانت المادة هي وسيلتهم إلى ذلك، أو هدفهم الوحيد إلىه.

         جاء الإسلام وتلك حالهم من مادية الفكر، والعقيدة، والذوق، والأهداف فعالج ذلك كله، وأزال عن العقل والقلب ما يغشيهما منه، وبدل الناس وجودًا بوجود.

         حرر العقل وجعله عماد الاستدلال فيما يؤيد العقيدة، وجعل له الهيمنة على الحياة كلها، وتنقيتها من شوائب الوهم والخرافة… وأيقظ كرامة الإنسان إذ لفته إلى ما له من ملكات باطنة هي معقد إنسانيته، وأنه لم يوهب تلك المواهب عبثًا أو جزافًا، إنما وهبها على قدر ليؤدي بها لنفسه وللحياة رسالة في عمل الخير، وتحقيق الحق، وإقامة سلطان الله في الأرض، وبأنه مسؤول عن رعاية تلك الملكات وإقامة منطقها فيما يأخذ أو يدع ﴿إِنَّ ‌ٱلسَّمۡعَ ‌وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا﴾.

         ولقد نبّهه أنه – بتلك الملكات الباطنية – حقيقة روحية إنسانية باقية، وليس مجرد هيكل فإنه مصنوع من المادة، وأن الموت بالنسبة لتلك الحقيقة إنما هو انتقال بها من طور إلى طور… وأن من رسالة الإنسان أن يعد نفسه لطورها المقبل، فمن رعى لها حظها من التفكير في آيات الله، وغمر آفاقها بوجدان ذلك التفكر، وزكى ذلك وأيده بالعمل الصالح، فقد أعدها لسعادة علوية رافهة… ومن جعل حظها شهوة الحس، وعماية الهوى، وحرص الأنانية، فقد طمس على مواهبه، وأعد نفسه إعدادًا مسموخًا يذوق به الخزي في طوره المنتظر..

         بهذه المعارف السليمة، والتوجيهات النفسية الدقيقة تحرر العقل، وتنبهت الملكات الروحية الباطنة، وأبصرت في الكون نفائس ودقائق غير المادة، وبدأ الإدراك الروحي يقدر زاده من الخير والتقوى، ويفاضل بينه وبين ما هنالك من أزواد حسية، ويحدد بهذه المقارنة القيم الجديدة بأن يجعلها معقد همته ومناط كرامته.

         وبدأ العمل لصلاح النفس يدخل عنصرًا جديدًا، بل عنصرًا أصيلا في إقامة حياته على سمتها الحق إلى جانب اهتمامه لصلاح بدنه ودنياه.. وبدأ للإنسان تعامل مع أفق غير أفق المادة … بدأت له أشواق إلى ما يلوح للبصيرة من أهداف قدسية في أفق المعنويات.. وبدأت تلك الأشواق تهب له عزائم منهضة نحو تلك الأهداف، وبدأ الاهتمام بأعراض الدنيا يفقد حدته، أو تنكسر ثورته في نفوسهم.. وبعبارة أخرى دخلت العوامل الروحية في حياة هؤلاء المؤمنين، لتفعل ما تفعله العوامل الاقتصادية في نفوس الآخرين. ترسم وجهتهم، وتقرر مناهجهم، وتبعث عزائمهم وتثير وجدانهم… وتصنع لهم تاريخهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، وسائر روابطهم الاجتماعية..

3- لا مجال للتفسيرات الاقتصادية:

         ذلك هو التطور الخطير أو التغير الرائع الذي أحدثه محمد ﷺ بمبادئه في نفوس هؤلاء.. ولسنا بذلك نجحد أنهم يتأثرون كسائر البشر بالعوامل الاقتصادية، ولكنا نقرر ما يجحده أنصار المادية الجدلية، إذ وصفوا العوامل الروحية بأنها وهم لا وجود لها، ورتبوا على ذلك ما رتبوا من نتائج ومقررات، فإن أيسر ما يفهم من تصرفات هؤلاء المؤمنين، ومن واقع تاريخ الحقبة النبوية عامة، أن العوامل الروحية كانت أهم عنصر له أثره البارز في توجيههم إلى جانب العوامل الاقتصادية، بل كانت هي العنصر الوحيد ذا الهيمنة على ما عداه لاستيلائها على مشاعرهم وأفكارهم وانطباع تصرفاتهم بطابعها.

         وإذا ذهبت تفسر حوادث الهجرة على ضوء مقررات المذهب الاقتصادي أعياك أن توجه حادثًا واحدًا هذا التوجيه في نسق مؤتلف مقبول(7)، وأحسست أن كل شيء يأخذ بزمام ذهنك إلى اتجاه روحي صرف، وأن تلك الأحداث إنما تأتلف متناسقة تمام التناسق مع مبادئها التي أوحت بها ومهدت سبيلها إلى دنيا الناس وواقع التاريخ..

         لقد عرض خصوم محمد ﷺ أن يعطوه المال الوفير، وأن يقيموه ملكا عليهم، وأن يزوجوه من أجمل فتياتهم من أراد، على أن يدع أو يكف عن مبادئه التي يذيعها، وهو عرض ينبثق من أذهان قوم آمنوا بالحس وحده، ولا يعجزنا أن نرى في صبغتها المادية الصارخة تفسيرها الاقتصادي الذي تتناسق به مع مالهم في ذلك من توجيه.

         ولكن ماذا كان رد محمد ﷺ على ذلك العرض؟

         لو أنه كان منبعثا إلى دعوته بمؤثرات حسية، أوأهداف مادية لوجد فيما يعرضون عليه ما يختصر له الزمن ويوفر عليه الجهد، ويرضي رغبته فيما يريد، ولكنه أجابهم تلك الإجابة الرائعة الحاسمة «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».. ولا يعجز له أن تتبين في تلك الإجابة الخالدة أنها تنبثق من ذهن غير أذهانهم، وتقدير غير تقديراتهم، وأنها تتجه إلى اتجاه غير اتجاههم.. وأن نرى فيها الاعتزاز بملكوت القيم الروحية إلى الحد الذي يزري بملك الشمس والقمر… وإنك لو وكلت إلى أشد المتعصبين للمادية الجدلية أن يفسر لك الإجابة على ضوء ما له من أصول التفسير الاقتصادي لكان من أعجز العاجزين عن ذلك.

         لعله كان يقول: إن محمدًا كان يبغي مالا أوفر يأتيه من اتساع دعوته، فرفض ما عرضوا عليه انتظارًا لما سيأتي به نجاح الدعوة من الحظوظ المرموقة .. فهل ذلك من الحق؟

         هل من الحق أن نسند إليه – عليه الصلاة والسلام – ذلك الفرض الجدلي، وهو الذي أتته الأموال فيما بعد، وانصبت بين يديه على حصير المسجد فكان يفرقها لساعتها حثوا بيديه في حجور الناس ثم يقوم والحجر مربوط على بطنه؟… وكلنا يعلم أنه لحق بالرفيق الأعلى ودرعه مرهونة عند يهودي على حفنات من شعير!!

         ولعله يقول: إن محمدًا رفض ما عرضوا عليه من الملك، لأنه كان يبغي أن تأتيه دعوته بملك لا منة فيه لأحد عليه.. فهل ذلك من الحق وهو الذي صار فيما بعد سيد الجزيرة غير منازع فرفض أن يقوم له أتباعه وأن يعظموه تعظيم الملوك، وكان حظه من تلك الرئاسة أن قال: إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد؟ ولندع صاحب الرسالة – عليه الصلاة والسلام – لنقرأ في سير أتباعه أن أهليهم كانوا يلينون لهم القول، ويبذلون لهم الرجاء، ويعرضون عليهم العروض لكي يدعوا ما دعاهم إليه محمد ﷺ والسلطان في أيديهم ولا سلطان معه… والعافية فيما يدعونهم ولا عافية معه.. فلماذا رفضوا، ولماذا هاجروا؟… لماذا رفض الأشراف، وأبناء الأشراف أن يبقوا على العافية في أهليهم ودورهم وأموالهم، وآثروا الخروج من ذلك كله إلى نقيضه؟

         أيقال: إنهم فرّوا من العذاب؟.. إنهم إنما كانوا يعذبون ليعودوا عن مبادئهم الجديدة إلى ما كان عليه الآباء الأولون ولو أنهم فعلوا، لَما كان عذاب، ولما كان إلا العافية والسعة.. على أنه ما كان يعذب – غالبا – إلا من لا عشيرة له كالعبيد والغرباء، فقد عذب بلال العبد، وعمار العبد، ومن على شاكلتهما من المستضعفين، عذبوا لا بغضا لهم ولا ضيقا بهم؛ بل ليعودا إلى دين السادة الأعلين، ولهم على ذلك ما شاءوا من سعة وعافية، ولكن العبيد كانوا يحيون من مبادئهم سيادة أخرى تنبذ كل ما عرف القوم من عرض وجاه.

         ولندع هؤلاء المهاجرين لما يشغلهم من أمر هجرتهم لنسأل دعاة الجدل والاقتصاد: ما بال أنصار المدينة يبذلون أموالهم، وأمتهم، ويهدفون نحورهم لرماح أعدائهم في سبيل تلك الدعوة؟.. هل وعدهم النبي على ذلك ملكا أو عرضًا كثيرا أو قليلا من عرض الدنيا؟.

         لقد التقى به فريق منهم في موسم الحج على موعد عند العقبة، ودعوه إلى أن يتحول إلى مدينتهم فماذا وعدهم، أو بماذا منَّاهم؟.. لقد شرط عليهم أن يحموا دعوته مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم، فقالوا له: «وماذا لنا يا رسول الله، إذا نحن وفينا لك بما شرطت»… فلم يقل لهم: لكم ملك العرب، أو أموال الجزيرة، أو لكم من المناصب كيت وكيت؛ بل قال لهم: «لكم الجنة». فقالوا في فرح وبشر: «ربح البيع يا رسول الله، والله لا نقيل ولا نستقيل»… وهي إجابة تصور ما كان يحيا فيه القوم من أهداف وغايات، وتحتمل كل تفسير وتأويل إلا أن تفسر ببواعث المادة ورغبات الاقتصاد.

         ولقد صدرنا هذه الكلمة بقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ‌ٱلدَّارَ ‌وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ﴾ (الآية). فهل يستطيع أحد أن يدلنا على سر ذلك الحب في قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَ ‌مَنۡ ‌هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ﴾.. أن الأنصاري لم يرتبط بأخيه المهاجر بأي رباط حسي سابق من نسب، أو معاملة، أو نحوها مما يظن به أنه سبب ذلك الحب … ومن المسلم به أن المهاجر هاجر تاركًا وراءه ماله وولده وداره، وأقبل على المدينة معدما ليس معه من عرض الدنيا ما يفرح به أنصارها، أو يفتح له قلوبهم ببسمة واحدة.

4- بين الوهم والحقيقة

         هذه أحداث معروفة، وكائنات تاريخية مقررة لا يسيغ الذهن إطلاقا أن يكون المرء فيها مستجيبًا لضغط حاجاته المادية، ولا يقر المنطق إلا أنها من فعل عوامل روحية خالصة.. وليس لذلك من معنى سوى أن العوامل الروحية حقيقة واقعة ذات أثر في توجيه المرء، وبناء المجتمع، وتطور البشر، وصنع حوادث التاريخ، وإن كانت شيئا لا يدركه الحس، ولا يصل إليه تصور الأذهان.

         فهل يمكن – إرضاء لدعاة المادية الجدلية – أن يكون هؤلاء المهاجرون قد تركوا أوطانهم، ودورهم، وأموالهم، وأهليهم، إلى بلد غريب – بلا شيء؟ وهل يمكن أن يكون هؤلاء الأنصار أحبوا هؤلاء المهاجرين وآثروهم على أنفسهم، بلا شيء..!.

         .. أي بدون سبب ما؟ .. فكيف يتأثر الإنسان بلاشيء.. وكيف يصنع اللاشيء تاريخًا وتطورًا في حياة البشر؟.. وما هذا «اللاشيء» الذي يدخل حياة المرء فيغير آراءه، ويبدل أفكاره ووجدانه، وينتزعه انتزاعا من جوانبه الحسية والاقتصادية ويدفعه إلى اتجاه آخر يغير به مجرى حياته؟

         إذًا، فلسنا بإزاء وهم غير موجود؛ بل بإزاء عوامل عتيدة، ذات آثار واضحة مقررة في التاريخ… ولولا هذه العوامل ما جاءت تلك الآثار والأحداث على مثالها الفريد الذي تميزت به بين عبر الماضي وكائناته… ولا مفر من التسليم بهذه العوامل الروحية، فهي عوامل لها أصالتها في ضمير الوجود، كما للعوامل الحسية أصالتها في ظاهر المادة.

         وحين يهتدي المرء إلى حقيقة إنسانيته، ولب وجوده، تنبثق تلك العوامل في ضميره، وتنشأ له أهداف غير أهدافه السابقة، ويتخلص من تحكم العوامل المادية في مصيره، فإذا هو يأخذ ويدع، ويقول ويفعل، وينظر إلى الحياة على مثال غير الذي كان له بالأمس، وبهذا المثال الجديد يجب أن يفسر تاريخه، وما عرض له من تطور، وما تقلب فيه من أحوال.. ولن يستقيم في الذهن تفسير الهجرة، وتأويل أحداثها إلا على ضوء هذه النظرة الصافية والمثل الجديدة.. وإذ تقرر ذلك فلا حيلة للعقل بإزائه إلا أن يرى بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم، وجهلا بأسرار الحياة، وأقدار الإنسان.. والحمد لله رب العالمين.

*  *  *

الهوامش:

(1)    وج: واد بالطائف لا يبعد كثيرا عن مكة.

(2، 3)     الإذخر والجليل. نوعان من النبات.

(4)    مجنة. موضع بأسفل مكة على أميال.

(5، 6) شامة وطفيل. جبلان بمكة …

(7)    واقع الحوادث والظروف التي أحاطت بالهجرة تهدم فكرة العامل الاقتصادي التي يقول بها الماديون رأسا على عقب. فقد ضحى الرسول ﷺ والمهاجرون معه بكل النواحي المادية والمؤثرات الاقتصادية في سبيل الفكرة الروحية (الوعي).

*  *  *

مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47

Related Posts