بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه اللّه-  (المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

تراجم خريجي دارالعلوم/ديوبند:

63- الشيخ ثناء الله الأمرتسري:

         ولد الشيخ الأمرتسري في 1282هـ، ورغم أنه ترعرع في أمرتسر(بنجاب)، غير أنه كشميري الأصل، أسلم آباؤه قديمًا. تلقى العلم مدة يسيرة على الشيخ أحمد الله الأمرتسري، وقرأ كتب الحديث على الشيخ عبد المنان الوزيرآبادي، ثم وصل إلى ديوبند عام 1308هـ، وتلقى بها الحكمة والأصول والفقه. كما قرأ بعض الكتب على الشيخ أحمد حسن الكانفوري. ولم تتزعزع علاقته بكبار علماء ديوبند. واشتغل بعد التخرج في العلوم بالتصنيف والتأليف في «أمرتسر». وكان على مذهب أهل الحديث، وأنشأ مطبعة سماها «مطبعة أهل الحديث». كما أصدر جريدة أسبوعية سماها «أهل الحديث» عام 1321هـ، و استمرت الجريدة أربعًا وأربعين سنة في الصدور.

         له مؤلفات قيمة في الرد على الميرزا غلام أحمد القادياني، من أهم مؤلفاته:

         (1) تفسير القرآن بكلام الرحمن: وهو تفسير القرآن بالقرآن.

         (2) التفسير الثنائي باللغة الأردية.

         (3) تقابل ثلاثة: باللغة الأردية، قارن فيه بين القرآن والفيدا والإنجيل.

         كان قوي الحفظ سريع الجواب، وفاق خصمه في المناظرات دائمًا، وكان له قدم راسخة في الانتصار على الخصم. ويلقب بـ«أسد بنجاب». وكان له ولع عظيم بالتأليف والتصنيف. ويُعنى بصحته ونظافة ثيابه كثيرًا، شديد التقيد بالمواعيد، وعلى ذروة الأخلاق الكريمة، وغزير المعلومات والمعارف.

         له مساهمة مستمرة في حركة تحرير الهند. وجاء ذكره في قائمة الجنود الربانية في رتبة اللواء. وله مشاركة فاعلة في تأسيس جمعية علماء الهند. وظل عضدًا للجمعية في الحركة التي شنتها جمعية علماء الهند لتحرير البلاد، وظل على ولع شديد بكبار علماء ديوبند رغم اختلافه في المذهب.

         تحدى الشيخ الأمرتسري الميرزا غلام أحمد القاديانيَّ عام 1326هـ بأن الكاذب منهم أعجل موتًا.

         فقبل الميرزا هذا التحدي، فابتلي الميرزا بالهيضة ومات عام 1908م، وعاش الشيخ الأمرتسري في أعقابه أربعين سنة.

         وتحول من «أمرتسر» إلى «كوجرانواله» في باكستان في أعقاب تقسيم الهند، وتوفي في4/جمادى الأولى عام 1367هـ في «سركودها» عن عمر يبلغ 80 عامًا.

64- الشيخ سيف الرحمن الكابلي رحمه الله:

         انحدر آباؤه من «قندهار» واستوطنوا ضواحي مدينة «بيشاور»، وتلقى بها مبادئ العلم. وأكمل علوم الرياضية على الشيخ لطف الله العلي كرهي، وأتمَّ الحديث على الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، و اشتغل بالتدريس والتعليم مدة طويلة في مدينة «تونك». ثم ولي رئاسة التدريس في المدرسة العالية/ فتحفوري في دهلي. وانضم إلى شيخ الهند، وكان عضوًا ناشطًا في حركته. وكان من العلماء ذوي الهمم العالية، والذكاء المفرط والاجتهاد. له تلامذة كثيرون في الهند. وأمره شيخ الهند بالهجرة إلى المناطق الحرة في «ياغستان»، فهيأ أهلها بخطابته ومواعظه للمشاركة في تحرير الهند. وكان خطيبًا مصقعًا، أثار بخطابته ومواعظه حماسًا غير عاديّ في قلوب أهل «ياغستان». وكان على رتبة اللواء في قائمة أسماء الجنود الربانية. و رفع الحاج ترك زئي(1) راية الجهاد ضد الإنجليز في أوائل الحرب العالمية الأولى عام 1914م، شارك فيه الشيخ سيف الرحمن، ولعب دورًا رياديًّا. وفشلت هذه الحرب فهاجر إلى أفغانستان. ولك أن تقدر نفوره من الحكومة البريطانية من أن هتلر هاجم فرنسا، ونشبت حرب داخلية في أوربا، فما إن بلغه الخبر حتى خرَّ ساجدًا قائلا: اللهم ، لك الشكر على أن نشبت الحرب الداخلية بين الذئاب أنفسها، مما يبعث الأمل في نجاة المظلومين، ولايهمني موتي».

         ولي مناصب عالية في حكومة أفغانستان على عهد الأمير أمان الله خان. وعاد إلى بيشاور بعد أن ولدت باكستان، وتوفي في بلده في 7/جمادى الأولى عام 1369هـ.

65- الحكيم محمد إسحاق الكتهوري:

         من عائلة السادات في قصبة «كتهور» من مديرية «ميروت»، ولد عام 1281هـ/1864م، وتلقى مبادئ العلم في «ميروت» على عمه الشيخ كفايت علي، ثم قرأ في المدرسة العالية/ فتحفوري، ثم تتلمذ على الشيخ أحمد حسن الأمروهوي في قصبة «أمروهه»، وفي نهاية المطاف التحق بدارالعلوم/ ديوبند، وتخرج منها عام 1308هـ. وكان من أوائل التلاميذ لشيخ الهند إبان رئاسته للتدريس. وتلقى الطب على الحكيم عبد المجيد خان الدهلوي، وعلى الحكيم عبد العزيز خان اللكنوي.

         وأدار عيادة في «كتهور» أولا مدة يسيرة، ثم انتقل إلى مدينة «ميروت»، كما واصل تعليم الطب بجانب إدارة العيادة. وقرأ عليه كثيرون الطب، وله كتاب ضخم في موضوع النبض باللغة الفارسية، ولم يطبع.

         وأنشأ في بلده «كتهور» مصلى العيد والمسجد الجامع. كما أنشأ مسجدًا رائعًا في مدينة «ميروت». وساهم مساهمة فاعلة في حركة تزويج الأيامى من النساء في ضواحي مدينة «ميروت»، وشارك في الأعمال الدينية والسياسية أيضًا.

         وتقرر جلب الحبوب لصالح دارالعلوم/ ديوبند عام 1327هـ، فكان الحكيم محمد أول من استجاب له، وعني عناية بالغة بتوفير الحبوب لصالح دارالعلوم/ديوبند من «كتهور» وضواحيها، فتوفرت كمية كبيرة منها بعناية منه. جاء في التقارير الدورية:

         «وأول من لبى هذه الدعوة، واستجاب لها هم أهل «كتهور» وضواحيها، وذلك بتشجيع وتحفيز من الحكيم محمد إسحاق. واستمر شحن الحبوب من مديرية «ميروت» أعواما طوالا بعناية من الحكيم الكتهوري»(2).

         وجاء في التقارير الدورية عن الحكيم محمد إسحاق: «يحمل الصفات الحميدة، له منزلة خاصة في التفكير في شؤون درالعلوم/ديوبند والتدبير والنصح لها بإخلاص»(3).

         كان من الأولياء ذوي النسبة والتقيد بالمواعيد. ونال الخلافة من الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي. و كان مرفوع الكلفة مع الشيخ حسين أحمد المدني رحمه الله. وكانا يلتقيان فيجذب الشيخ المدني صرته من جيبه، فيطول الصراع بينهما، حتى يفوز الشيخ المدني بمرامه، ويستخرج ما في الصرة من النقود، ويأمر من يشتري به الحلوى. وكان الحكيم الكتهوري على غاية من دماثة الخلق، وطلاقة الوجه، والتواضع، وهضم الذات، وعلى صلة قوية بجمعية علماء الهند.

         ظل عضوًا في المجلس الاستشاري بدارالعلوم/ ديوبند اعتبارًا من عام 1344هـ إلى 1373هـ. توفي عام 1374هـ/1954م، ودفن في بلده.

66- السيد محمد أنورشاه الكشميري:

         من سكان «كشمير»، ولد في 27/شوال عام 1292هـ/1875م في عائلة من عوائل السادات العلمية الموقرة. وامتازت هذه العائلة في طول كشمير بعلمها وفضلها. بدأ قراءة القرآن الكريم وهو ابن أربع سنوات على والده الشيخ السيد معظم شاه رحمه الله. وكان يتمتع بالذكاء المفرط، والذاكرة التي لامثيل لها منذ أول عمره. فأنهى خلال مدة يسيرة وهي سنة ونصفها كتاب الله تعالى وبعض كتب الفارسية الابتدائية، واشتغل في تحصيل العلوم المتداولة. ولم يكد يبلغ من عمره أربعة عشر عامًا حتى هجر بلده مدفوعًا بالعاطفة القوية المفرطة نحو العلم، وقضى نحو ثلاث سنوات في مدارس «هزاره» وتمكن من العلوم والفنون المختلفة، غير أن صيت ديوبند حمله على تلقي المزيد من العلم فيها، وجعله على أشد من الجمر. فقدم ديوبند عام 1310هـ/1892م، حين كان يتولى شيخ الهند منصب رئاسة التدريس. فلم يلبث أن تفطن التلميذ لشيخه، والشيخ لتلميذه في أول لقاء جمع بينهما. وبدأ التلميذ عليه كتب التفسير والحديث، ولم يمض إلا سنوات معدودات حتى نال منزلة عالية ممتازة بالإضافة إلى الصيت والذكر الحسن في دارالعلوم/ ديوبند، وتخرج منها عام 1314هـ، وتوجه إلى الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، وأسند عنه الحديث بجانب استفادة ونيل الخلافة منه.

         وتولى التدريس مدة يسيرة في المدرسة الأمينية/دهلي بعد التخرج من دارالعلوم/ديوبند، وعاد إلى كشمير عام 1320هـ/1903م، وأنشأ بها في منطقته مدرسة سماها «فيض عام»، وحج عام 1323هـ/1905م بيت الله تعالى، ومكث مدة يسيرة في الحجاز، واستفاد من مكتباتها، وعاد إلى ديوبند عام 1327هـ/ 1909م، فأمسكه شيخ الهند بها، وقام بتدريس كتب الحديث سنوات عدة من غير راتب يتقاضاه. وكان نزل ضيفًا على الشيخ محمد أحمد ما لم يصدر له راتب من دارالعلوم/ ديوبند. وقصد شيخ الهند الحجاز في أواخر عام 1333هـ/1915م، فاستخلف الشيخَ الكشميري في رئاسة التدريس بدارالعلوم/ديوبند، واستمر عليه اثني عشر عامًا. واستقال من منصب الرئاسة في دارالعلوم/ديوبند في أوائل عام 1346هـ /1927م لاختلافات نشأت يومذاك، وتوجه إلى مدرسة «دابيل» في جنوب الهند، واشتغل في تدريس الحديث بها حتى عام1351هـ/1932م.

         ورزقه الله تعالى من الذاكرة القوية الفاقدة المثال أنه كان يتذكر نصوص الكتب التي يقرأها مرة واحدة مع صفحاتها فضلا عن محتواها ومضامينها. وكان يشير إليها بكل بساطة خلال إملاءاته وتقاريره. وبلغ من حب المطالعة والدراسة أن خزائن العلوم والفنون لم تستطع إبراد غلته العلمية، وكان مكتبة متنقلة ومتكلمة نظرا إلى سعة دراسته، وقوة ذاكرته. وكان يجري على لسانه معظم كتب الحديث علاوة على الكتب الصحاح الستة. وكان يرد على السائل فيما يخص المسائل التي تتطلب التحقيق والدراسة التي تستنفد الأعمار والآجال يرد عليها كلمح بالبصر ردًّا جامعًا شاملًا يقضي على كل ما يخالج السائل من الشبه والاعتراضات، دون أن يحتاج إلى مراجعة كتاب من الكتب. وأضف إلى ذلك أنه كان يشير إلى أسماء الكتب وصفحاتها وسطورها. وكان يتحدث في كل علم وفن بارتجال يبدو معه أن هذه العلوم والفنون مستحضرة لديه، وأنه لم يمض وقت طويل على مطالعتها ودراستها.

         قال الشيخ السيد سليمان الندوي في عزائه على وفاة الشيخ الكشميري ما نشر في مجلة «معارف»:

         «مثله كمثل بحر هادئ ظاهره، ومعمور باطنه باللآلي والجواهر القيمة، وكان فاقد المثال في سعة النظر، وقوة الذاكرة، وكثرة المحفوظات في هذا العصر. وكان من حفاظ علم الحديث والعارفين بخباياه، وعلى قمة علوم الأدب، والبراعة في المعقولات، ومن القادرين على الشعر، وذوي الكمال في الزهد والتقوى. لقد رفع شهيد العلم والمعرفة هذا نداء: قال الله وقال الرسول حتى آخر لحظة من حياته».

         زار العالم المصري الشهير الشيخ السيد رشيد رضا ديوبند، ولقي الشاه الكشميري فاندفع قائلا:

         «ما رأيت مثل هذا الأستاذ الجليل». واعترف بفضله وعلمه في مجلته «المنار» بعد ما عاد إلى مصر.

         وعلى كل،  كان من سعادة دارالعلوم/ديوبند أن فوض إليه رئاسة التدريس بعد شيخ الهند محمود حسن الديوبندي.

         وما شغِفَ به العلامة إقبال من التوجيهات الإسلامية في آخرأيام حياته يرجع لحد كبير إلى الشاه الكشميري وفيوضه العلمية. وقد استفاد العلامة إقبال كثيرًا من العلامة الكشميري فيما يخص العلوم الإسلامية. وكان الأول يحترم الأخير كثيرًا، ويخضع لرأيه اعتقادًا وحبًّا.

         وفارق الشيخ الكشميري ديوبند، فحاول العلامة إقبال كل المحاولة أن يقنع الشيخ الكشميري بالنزول بصورة مستقلة في «لاهور»، وذلك ليقوم بصياغة الفقه الإسلامي صياغة جديدة بمساعدة منه، إلا أن الشاه الكشميري استجاب لطلب أهل «دابيل». واستفاد العلامة إقبال كثيرًا من الشاه الكشميري فيما يخص صياغة المحاضرات الإنجليزية. وساعد العلامة الكشميري كثيرًا في المقالات القيمة التي أعدها العلامة إقبال في الرد على القاديانية.

         وتغلب عليه المذاق العلمي تغلبًا جعله يفزع من الزواج والحياة العائلية مدة مديدة، وفي نهاية المطاف رضخ لإصرار العلماء الكبار الكبير وتزوج وهو ابن 43 سنة، وشرع في استلام الرواتب بعد ذلك. وأمضى سنوات في «دابيل»، ثم اضطرته الأمراض إلى العودة إلى «ديوبند»، التي اتخذها وطن إقامة له. وتوفي بها عن عمر يبلغ 60عامًا في 3/صفر المظفر 1352هـ/1933م. وضريحه بالقرب من مصلى العيد.

*  *  *

الهوامش:

(1)    كان الحاج ترنك زي من أبرز الشخصيات الهامة في تاريخ حرب تحرير الهند من الاستعمار في منطقة «سرحد». وكان من سكان قرية «ترنك زي» من مديرية «بيشاور». أصل اسمه «فضل واحد»، واشتهر بنسبته إلى بلده (الحاج ترنك زي) أكثر من اسمه. وهو من خلفاء الشيخ الشاه نجم الدين المعروف بـ«السيد صوات». وكان ملئ حبا وعاطفة نحو التحرير والاستقلال. وله مريدون بالآلاف في منطقة بيشاور وياغستان. وكان محببا إلى الشعب بجانب صيته الذائع. وهاجر الحاج ترنك زي بإشارة من شيخ الهند من وطنه بيشاور إلى ياغستان عام 1914م. واتفق له الحرب ضد الجنود البريطانية غير مرة. ومنيت القوات الإنجليزية بالخسائر الشديدة في مواجهتها له غير مرة. واشتهر أن المجاهدين معه لم يخطئ رصاصة منهم هدفه ضد الإنجليز.

          وكان شيخ الهند يستعد للرحيل إلى الحاج ترنك زي هذا في ياغستان مباشرة إبان نزوله في الحجاز إذ اعتقله الشريف حسين الذي حالف الإنجليز ضد الأتراك، وسلمه إلى السلطات البريطانية.

          وحارب الحاج ترنك زي الإنجليز ما دام على قيد الحياة، حتى وافاه الأجل. أدخله الله تعالى في رحمته، ما أعجب هذا الرجل المؤمن الذي حارب الإنجليز حتى آخر نفس من حياته.

(2)    تقارير حول توفير الحبوب لعام 1332هـ، ص 2.

(3)    تقارير دورية لعام 1374هـ، ص 1.


(*)      أستاذ الحديث واللغة العربية وآدابها بالجامعة.

مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47

Related Posts