بقلم: الدكتور عبد الصبور شاهين(*)

         الحديث في إعجاز القرآن، وخلود آياته البينات، حديث لا نهاية له، من حيث هو كلام الله، الذي استودعه أسرار هدايته للبشر خاصة، وللعالمين كافة، ولذلك كان كل مفسر للقرآن آخذا من معانيه بطرف، متناولا بعض ما تحتمله آياته من إرادة الله المنزلة إلى خلقه على خير خلقه، وهو السر في هذا التباين الكامل بين محاولات تفسيره على مرّ العصور؛ بل بين بعض هذه المحاولات وبعضها الآخر في عصر واحد. وكلما مضى الزمن بالناس تكشفت لبصائر العارفين منهم بخاصة – جوانب من إعجاز هذا الوحي، خفيت عن أعين السابقين وقلوبهم وهكذا شأن المخلوقات أمام كلام الخالق، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها … وهذا هو معنى الخلود.

         غير أن لهذا القرآن، الذي نزل على محمد ﷺ، خلال ثلاثة وعشرين عاما، تأريخا حافلا بالمبهمات التي وقف الناس منها في الماضي موقفا يحكمه الإيمان بمضمون قوله سبحانه: ﴿إِنَّا ‌نَحۡنُ ‌نَزَّلۡنَا ‌ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾. وهو وعد صادق، ثم إنجازه كما نزله، فقد وصل إلينا النص القرآني كاملا، خاليًا من التحريف، أو التغيير، سالما من التناقض الذي أصاب ما سبقه من الكتب المقدسة، «التوراة والإنجيل»، بحيث اختلط في هذه الكتب ما كان من كلام الله بما هو من حكايات البشر، ووضع الكهان، وتخيلات أصحاب الأهواء، على صورة تجعل نسبتها إلى رسالات الأنبياء إزراء بمقام الألوهية والنبوة معًا.

         أما القرآن فقد تحقق له وعد منزله سبحانه، ولذا كان إيمان الناس قديما بهذا الوعد المنجز عاصما لهم من الزلل في مواجهة مبهمات تاريخه، فشغلوا أنفسهم بما تضمنته آياته من أوامر ونواهٍ، هي قواعد للسلوك الفردي والجماعي، ومن أحكام وشرائع سنها الحق سبحانه لتكون قوانين للحكومة العادلة ما تلمس الناس العدل، ومن نظم وعقائد ارتضاها الله لعباده دينا إن ابتغوا من غيره ضلوا وذلوا، وإن تمسكوا بحبله أتاح لهم من أسباب القوة ما يعز به جانبهم، ويعلو به سلطانهم في الأرض، وهكذا كان الناس قديمًا، وهكذا كان همهم الذي عليه يعكفون، وإن كان قليل منهم حاولوا الحديث في مبهمات تاريخ القرآن بأسلوب موجز شديد الإيجاز يعتمد على الرمز، ويكتفي بالتلميح، إذ كانت قضايا هذا التاريخ مسلمة الأساس في أذهانهم، وحسبهم أن يذكروا بعض أخبار السنة، أو بعض الوقائع التي تمت على عهد الصحابة ليزدادوا إيمانا بسلامة نص القرآن على إيمانهم.

انحراف عن دين الله

         وجاء العصر الحديث، بغزوه الفكري، وبالشكوك التي زرعها حول المسلمات العقائدية، لا سيما ما كان من حقائق الدين، وكان هدف جميع الفلسفات التي نادى بها مفكرو هذا العصر تقويض دعائم الاعتقاد بوجود إله واحد، بغض النظر عن البديل المقترح، فمنها من يقترح ألوهية المادة، ومنها من يمضي إلى ألوهية الإنسان، ومنها من يجعل الغريزة محور تفسير الوجود، والجنس سر الأسرار في تكون المجتمعات ونموها وارتقائها… أمهاتهم شتى، ولكن الهدف واحد. ولا ريب أن الدين الوحيد الذي صفت فيه عقيدة الوحدانية من شوائب الشرك، إنما هو الإسلام على حين استمد تصورات غيره من الأديان، وبعبارة أصح: أهل هذه الأديان، لوحدانية الإله بالعجز عن تجريد هذه الوحدانية، فالإله في عرف اليهود إله قومي، لهم وحدهم، دون غيرهم من الأميين، وهو في عرف النصارى واحد في ثلاثة، ولذلك لم تكن هذه التصورات، بما خالطها من بقايا الشرك والأنانية تمثل عقبة عقائدية أمام الفلسفات الحديثة، لأن الفكر الإنساني المتطور ماضٍ، ولا شك إلى حد رفض هذه التصورات يوما ما، فمشكلة هذه الأديان موقوتة بسيطرة بعض العوامل التاريخية، زائلة بمجرد بلوغ الإنسانية مستوى من الإدراك الجماعي لمعنى المصير.

         ولم يكن بد من أن تركز المبادئ والأفكار الحديثة جهدها لهدم العقيدة التي تمثل في نظر أصحابها جوهر رسالات السماء، عقيدة الإسلام. فكان هجومها أحيانا يتخذ طابع التحدي والتزييف المتعمد، وأحيانا أخرى يصطبغ بالتفلسف والتظاهر بالإنصاف، ومن تحت هذا التحدي أو التظاهر هدف واحد يجمع المحاولتين، هو تدمير العقيدة الإسلامية، لأنها العقبة الكؤود في طريق سيطرة الأهواء الحديثة على مصائر البشر.

الصراع بين الإسلام والماركسية

         وإذا كانت الماركسية في حقيقتها تدميرًا لفكرة الألوهية، وربطًا للإنسان ومصيره بمصير المادة المحسة، وتفسيرًا لحركة التاريخ بعوامل ليس منها إرادة الله وخلقه على أية حال فإن عداءها الصريح لم يتوجه في الحقيقة إلا إلى الإسلام باعتباره معقل الفكر الديني، ورمزًا يجسد العلاقة بين الله الواحد والمخلوق الموحد. وهي تعد في ذلك أصرح حملة وجهها الفكر الحديث إلى معقل الوحدانية، وإن بدت عاجزة عن تحقيق أهدافها بعد أن شاخت وبارت في نظر كثير من المفكرين، بيد أن هنالك محاولة أقل غلوًّا ولكنها أشد مكرًا من هذه، هي محاولة الفلاسفة الوضعيين أن يهونوا من شأن – الإسلام وحركته التاريخية، وربما كان ذلك مكشوفا في المقالات التي كتبها فيلسوف الوضعية (أوجست كونت) عن الإسلام وجمعها من بعده تلميذه «كريستيان شرفيس» في كتاب بهذا الاسم وقد سلك فيه المؤلف وهو فيلسوف الوضعية الحديثة مسلكا يلتف بالنغمة الموضوعية، فقد أشبع الرجل الإسلام مدحًا وتمجيدًا: ولكنه لم يزد على أن عده مرحلة كانت ضرورية، كحلقة في سلسلة تطور البشرية، نحو الدين الجديد والنهائي «الوضعية»… هكذا بكل صراحة.

         وفي مواجهة هذا الأسلوب الملفوف يفقد القارئ العادي وعيه، ويكاد يستسلم لما يعد في نظر الإسلام خروجًا على عقيدة الألوهية ذاتها، إذ كان اعتبار الإسلام (مرحلة) مستتبعا أنه وليد بعض الظروف، وأنه سقط كما يسقط الحق – المتقادم بمضي المدة كيما تحل محله ديانة جديدة هي في نظر صاحبها آخر حلقة في سلسلة العقائد التي يؤمن بها الإنسان والتي هي وليدة كفاحه، على طريق التطور.

موقف المستشرقين من الإسلام

         ولقد تشبعت أفكار الأوروبيين وأتباعهم بهذه الفلسفات، وأنشؤوا يطبقون نتائجها المنهجية على تراثنا الذي هو عماد حياتنا، وكانت وسيلتهم إلى أهدافهم أن يتناولوا القرآن الذي صدرت عنه هذه الحياة الشاملة الكاملة بالدرس والتحليل – متظاهرين أحيانا باتباع المنهج العلمي في البحث، وكان أشدهم بأسًا على الإسلام وكتابه أولئك الذين تناولوا تاريخ الإسلام أو تاريخ القرآن زاعمين دائما أن هدفهم هو الوصول إلى الحق، وإزالة الغموض عن جوانب هذا التاريخ وكل ما يهدفون إليه في الواقع هو خلخلة التماسك العقدي بين المسلمين، وزلزلة أركان هذا الدين بزرع الشكوك حول كتابه ودستوره، وبذلك تتحقق لهم أهداف لم يبلغوها بقوة السلاح ومحاولات الغزو العديدة.

         وهكذا ظهر في الغرب وفي الشرق «مستشرقون» متخصصون في دراسة تاريخ القرآن وذهب من عندنا دارسون – يتعلمون منهم هذا التاريخ على الطريقة الجديدة، وجاء من قبل هؤلاء وأولئك خليط من الآراء، وتلفيقات من النتائج يدهش لها من يقرأ مقدمتها، ويعجب كيف ساغ لبعض العقلاء أو المتعاقلين أن يستخرجوا من الإبريق بغلا، وأن يصنعوا من الحبة قبة.

         وهكذا أيضا بدت مبهمات تاريخ القرآن في شكل أخطر مما كانت تبدو فيما مضى، وأصبح من الغفلة بمكان أن نغمض عنها أعيننا، وقد أمست ذريعة إلى النيل من القرآن ذاته، كنص مقدس موثق تمام التوثيق فإن الذي يصل إلى حد التشكيك في وثاقة نص القرآن يدخل من هذه الطريق إلى أنفس الأغرار من طلاب الثقافة، وبذلك تعم البلوى.

         ومما لا شك فيه أن العقل الحديث يتطلب ممن يكتب له أشياء لم يكن يقتضيها العقل القديم، أشياء في المادة المدروسة وأشياء في المنهج المتبع، أما المادة موضوع الدراسة فينبغي أن تكون شاملة لكل الجزئيات مستوعبة لجميع التفاصيل الهامة والتافهة فرب تفصيل يستهين به المرء يقوده إلى نتيجة صادقة إذا هو أحسن النظر إليه، وغلغل الفكر فيه، وأما المنهج فقد شغل العقل الحديث ببعض المظاهر المنهجية وغفل عن بعض الأصول ولذلك بدأ سعيه نحو الحق مضطربا أشد الاضطراب وحسبنا أن نقرأ هذا التحديد لمنهج باحثي المستشرقين على لسان واحد من كبارهم هو «آرثر جفري» حيث قال: «وأما أهل التنقيب – يعني أبناء جلدته من المستشرقين – فطريقتهم في البحث أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات بأجمعها، ليستنتجوا بالفحص والاكتشاف ما كان مطابقا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الإسناد»(1).

         وأغلب الظن أن أهل التنقيب هؤلاء لم يخدعوا عن الوسيلة الصحيحة وإنما تعمدوا أن يسلكوا هذا المنهج الغريب الذي يغفل أهم ركن قامت عليه ثقافة المسلمين، وهو نقد الأسانيد بجوار نقد المتون، أي استعمال النقد الخارجي للنص إلى جانب النقد الداخلي، وأمثال هذه القواعد المنهجية لا يمكن أن تؤدي بجامعيها إلى إصابة كبد الحقيقة، فإن من الروايات التاريخية ما يبدو في ثوب الحق، وهو خبيث المصدر، فكيف يمكن من طريق الاقتصار على نقد المتن أن تكتشف الحقيقة على حين تختلط بالأوهام والتصورات والظنون؟ وكيف يتم الوصول إلى الحقيقة التاريخية المطابقة للزمان والمكان دون الاستعانة بالوسيلة الأولى وهو تاريخ الرجال الذين حملوا هذه الآراء أو بلغوا هذه التصورات؟… هذا مع اختلاف زماننا عن زمانهم، وظروفنا عن ظروفهم، ووسائلنا عن وسائلهم.

         إن هذا التصور المنهجي لا يصدق إلا في حدود ما عبر عنه بنسبية الزمان، وذلك حين نفترض أن أحد هؤلاء المنقبين يسكن كوكبًا بعيدًا عن الأرض بمسافة تبعد ألفا وثلاث مئة سنة بحساب سرعة الضوء وأنه جالس إلى منظار «تلسكوبي» يضع الأرض بين عينيه عبر هذا الزمان المترامي وأنه يرى «الآن» ما جرى على الأرض منذ ثلاثة عشر قرنا، باعتبار أن ذلك هو ما يحدث فعلا بالنسبة إلى ظرفه الزمني.

         فهل يمكن لمنهج الاستشراق أن يعبر صادقا مخلصا هذه المسافة من خلال نظره في الظنون والتصورات والآراء، ليستخرج منها ما كان مطابقًا للزمان والمكان وظروف الأحوال؟ وأغلب الظن أنهم إنما أعرضوا عن الأخذ بموازين نقد الأسانيد استنادا إلى شكهم في صدق أحكام مراجعها مع أن مقتضى منهجهم أن ينصتوا إلى كل ما قيل في جرح الراوي وتعديله، ولهم أن يوازنوا بين مختلف الأحكام ومصادرها ثم يختاروا من الروايات والأخبار ما خرج من مصفاة النقد الخارجي، ليزنوه بميزان النقد الداخلي للمتن، فلا مناص من الجمع بين المنهجين.

         ومن عجب أن نجد بعض المعدودين في أفاضل العلماء يقتصر على هذا النقد الداخلي في بحوث تمس صميم العقيدة – وتاريخ الصحابة، دون أن يدرك أنه يقع في مزلقة خطيرة، منهجية ودينية، ثم هو لا يقتصر على ذلك حتى يعد الدعوة إلى مراجعة أسانيد النصوص ضربا من (الإرهاب الفكري)، الذي يقيد انطلاقة المفكر الحر كأنما كان مفكرو الإسلام عبيدا بفحصهم للأسانيد.

         ليس هذا استطرادا؛ بل هو حديث في صميم المشكلة التي سوف نتناولها.. مشكلة تاريخ القرآن لسوف نحاول فيما يلي من الدراسات التي يسمح بها مجال هذه المجلة الفتية أن نعرضه له من حيث هو قضية كبرى من قضايا العقيدة الإسلامية والثقافة الإسلامية، والحضارة الإسلامية، إلى جانب علاقته الوثيقة بتاريخ هذه العربية الخالدة.

         ولست أدعي مقدما أني واصل إلى رأي قاطع أو تفسير نهائي لكل ما سنعرض له من المشكلات ولكني متذرع إلى قولي بالنية الصالحة، والرغبة الخيرة في أن تتلقى الأجيال الصاعدة تأريخ القرآن، بطريقة نقدية، فيها الكثير من الحق والتمحيص لما يقال.

————- (1)  «انظر مقدمته لكتاب المصاحف ص4».


(*)      المدرس بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة.

مجلة الداعي، ربيع الآخر 1444هـ = نوفمبر 2022م، العدد: 4، السنة: 47

Related Posts