بقلم:  الأستاذ/محمد ساجد القاسمي(*)

         لقد حفظت لنا مصادر السيرة النبوية صورة كاملة لشخصية النبي ﷺ، حيث سجَّلت جميع مراحل حياته بدءًا من ولادته وطفولته وفتوته وشبابه، ومرورًا ببعثته ودعوته وهجرته إلى أن توفاه الله، سنةً فسنةً، ومرحلةً فمرحلةً، كما سجَّلت هيئته وخُلُقه وسلوكه ومشيته وتعبده وتعامله مع أهله، وتعامله مع الناس، حتى ما تركت صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها فيما يتعلق بشخصيته، وقد بلغ بأصحابه  رضي الله عنهم  دقة ملاحظتهم أن عدُّوا الشعرات البيض التي كانت في رأسه ولحيته.

         عاش النبي ﷺ في مكة بين أحبائه وأعدائه، كما عاش في المدينة المنورة بين أنصاره ومعارضيه، واحتكّ بهم وخالطهم وتعامل معهم. لم يجد أعداؤه ومعارضوه في خلقه وسيرته مغمزًا أو مطعنًا أو ضعفًا، ولو وجدوا شيئًا لأخذوا عليه ولأنكروا عليه ولشهَّروا به في الآفاق.

         ولكن بعد مضي قرون من الزمان قامت حركة الاستشراق لدراسة تاريخ الشرق وأديانه، وبالتالي قام أصحابها المستشرقون بدراسة الإسلام وكل ما يتعلق به، فأثاروا كثيرا من الشبهات حول شخصية النبي ﷺ وخلقه وسيرته، منها شبهات حول تعدد زوجات النبي ﷺ، وقالوا: «إن تعدد زوجات النبي ﷺ دليل على فرط الميول الجنسية… وإنه كان مستسلمًا للذّات الحس».

         وإذا أمعنّا النظر فيما قالوا وجدنا أن الدافع إلى هذا القول هو العداوة للإسلام ونبيه، وليس هذا حصيلة الدراسة ولا نتيجة البحث؛ لأنهم لم يدرسوا قضية تعدد زوجات النبي ﷺ دراسة محايدة ولا منصفة؛ بل أطلقوا فيها القول مدفوعين بدافع عداوة الإسلام والتشهير به. ولو درسوا القضية بجميع ملابساتها وكافة جوانبها لما تقوَّلوا عليه ما تقَوَّلوا، ولما افتروا عليه ما افتروا.

         إنَّ الميل إلى الجنس مما جبل عليه الإنسان والحيوان، ولولا ذلك لما توالدوا ولما تناسلوا. لا عيب فيه، إنما العيب إذا طغى هذا الميل وتجاوز الحد، وشغل الإنسان عن مسؤوليته في الحياة، هل شغل النبي ﷺ هذا الميل عن وظيفته في الحياة أو عن معالي الأمور وجلائل الأعمال؟ لا! بل حقق في حياته ما لم يحققه كثير من العظماء والناجحين، وأحدث ثورة عظيمة في العالم ليس لها نظير في تاريخ العقائد والديانات.

         ولو كان مستسلمًا للذات الحس لظهرت لذلك حوادث ووقائع منذ شبابه، ولعيَّره بعد بعثته أعداؤه الذين يُحْصُون أنفاسه ويرصدون له حركاته وسكناته، ولقالوا: إنه لها وعربد في شبابه، ويوصينا الآن بالطهر والعفة. إنهم عارضوا دعوته بكل ما أوتوا من قوة، ولكنهم ما وجدوا في شخصيته نقاط ضعف يضعون أصابعهم عليها، منها الإفراط في الجنسية.

         ولو كان مستسلمًا للذات الحس لما بدأ حياته الزوجية وهو الشاب الوسيم الجميل في الخامس والعشرين من عمـــــــره بالـــزواج من خديجة وهي الثيبة الكهلة البالغة في الأربعين من عمرها، بل تزوج الفتاة الجميلة الفاتنة، كغيره من فتيان مكة وشبابها.

         بل الحق أنه جمع بين الزوجات التسع انطلاقًا من الحاجات الاجتماعية والمصالح الدعوية والسياسية، وإليكم تفاصيلها فيما يلي:

         تروي كتب السيرة أن النبي ﷺ تزوج خمس عشرة امرأة، دخل بثلاث عشرة منهن، واجتمع عنده منهن إحدى عشرة، وقبض عن تسع. منهن خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وسودة، وأم حبيبة، ومن غير قريش: ميمونة الهلالية، وجويرية الخزاعية، وزينب بنت جحش الأسدية، وصفية الخيبرية. وهؤلاء اللائي قُبض عنهن، وأما خديجة فكانت قد توفيت قبلهن.

خديجة الكبرى رضي الله عنها

         أما خديجة بنت خويلد فقد كانت امرأة حازمة، شريفة نبيلة، من أوسط قريش نسبًا، وأعظمهم شرفًا، وأكثرهم مالا، كانت معروفة بين قومها بالطاهرة العفيفة، وكان قد توفي زوجها: عتيق بن عائذ المخزومي، وكان رجال قومها يحرصون على الزواج منها. وكانت تستأجر الرجال من مالها وتضاربهم بشيء تجعله لهم. فلما بلغها عن رسول الله ﷺ من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجرًا إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، فوافق، وخرج مع غلام لها يدعى ميسرة، ومن خلال معاشرة ميسرة للرسول ﷺ رأى من الآيات والإرهاصات ما حكاه للسيدة خديجة فرغبت في الزواج منه.

         كان الذي ذهب مع النبي ﷺ لخطبة خديجة عمه حمزة رضي الله عنه ، والذي زوجه إياها هو أبوها خويلد على الأرجح. رزق النبي ﷺ منها جميع أبنائه ما عدا إبراهيم، فهو من مارية القبطية، فهم: القاسم، وعبد الله الذي كان يقال له الطيب والطاهر، ويقال: هما أخوان له، ومات الأبناء الذكور صغارًا، كما رزق منه بناته الأربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.

         وماتت خديجة عن خمس وستين سنة، وكان عمرها عند ما تزوجها النبي ﷺ أربعين سنة، وكان عمر النبي ﷺ خمسا وعشرين سنة.

         أول ما يدرك الإنسان من هذا الزواج هو أنه ما اهتم النبي ﷺ بأسباب المتعة الجنسية ومكملاتها، فلو كان مهتمًا بذلك كبقية أقرانه من الشبان لتزوج بمن هي أقل منه سنًا أو بمن ليست أكبر منه سنًا على أقل تقدير، أو بمن ليست ثيبًا. لقد ظل هذا الزواج قائمًا حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عامًا، وقد ناهز هو الخمسين من عمره، وفي تلك الفترة – من فترة الشباب إلى الخمسين- تكون رغبة الرجال في النساء والميل إلى التعدد لدوافع الشهوة. ولكن النبي ﷺ لم يفكر في ذلك ولو شاء لوجد الكثير من النساء الراغبات أو الإماء دون أن يخرج عما كان عليه المجتمع العربي.

سودة بنت زمعة رضي الله عنها

         كانت سودة بنت زمعة من المؤمنات المهاجرات في سبيل الله، فقد آمنت وهجرت أهلها ونجا بها زوجها سكران بن عمرو إلى الحبشة فرارًا من إعنات المشركين له ولها، وعند ما عادت من هجرتها، مات زوجها سكران، وتركها من غير عائل، فخشي النبي ﷺ أن يبطش قومها وكانوا أعداء ألداء للإسلام، فتزوجها النبي ﷺ حماية لها، وتأليفًا لأعدائه من آلها، وكان ذلك في رمضان سنة عشر من النبوة بعد وفاة خديجة. وهي أولى النساء اللاتي بنى بهن بعد وفاة خديجة. ولو نظر إلى لذات حس، أو مال إلى متعة لكان غير هذا الزواج أولى به.

عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها

         ما تزوج النبي ﷺ بكرًا غير عائشة، ولم يكن زواجه بها مقصودًا في بداية الأمر، حتى رَغَّبته فيه خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون التي عرضت عليه الزواج بعد خديجة.

         قالت عائشة  رضي الله عنها : لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي: أي رسول الله!.. ألا تتزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا؟ قال: فمن البكر؟ قالت: بنت أحب الناس إليك عائشة بنت أبي بكر. قال: فمن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك. قال: اذكريهما عليَّ،  قالت: فأتيت أم رومان -زوجة أبي بكر- فقلت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: ماذا؟ قالت: رسول الله يذكر عائشة، قالت: انتظري فإن أبا بكر آت، فجاء أبو بكر، فذكرت له ذلك، فقال: أو تصلح له وهي ابنة أخيه؟ فقال رسول الله ﷺ: أنا أخوه وهو أخي، وابنته تصلح لي، فقام أبوبكر، فقالت لي أم رومان: إن المطعم بن عدي كان قد ذكرها على ابنه، وو الله ما أخلف وعدًا قط، قالت: فأتى أبوبكر المطعم، وقال ما تقول في أمر هذه الجارية؟ قال: فأقبل على امرأته، فقال: ما تقولين؟ فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلَّنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تدخله في دينك. فأقبل عليه أبوبكر فقال: ما تقول أنت؟ قال: إنها لتقول ما تسمع، فقام أبوبكر، وليس في نفسه من الموعد شيء. فقال لها: قولي  لرسول الله ﷺ فليأت، فجاء فملَّكها.

         كانت عائشة  رضي الله عنها  صغيرة السن عند ما عقد عليها النبي ﷺ في شوال من السنة العاشرة للبعثة النبوية، ولم يدخل بها إلا في شوال من السنة الثانية للهجرة.

         قالت عائشة  رضي الله عنها : تزوجني رسول الله ﷺ متوفى خديجة قبل الهجرة، وأنا بنت ست، وأُدْخِلت عليه وأنا ابنة تسع سنين.

         لقد أثار كثير من المستشرقين، والمنافقين من صفوفنا شبهات حول زواج النبي ﷺ من عائشة في هذه السن المبكرة، واتخذوه مطعنًا عليه ﷺ، واستدلوا به على ما يفترونه عليه من الاستسلام للذات الحس، والاستمتاع بمتعة الجنس.

         والدافع إلى إثارة هذه الشبهات هو العداوة للإسلام ونبيه، والجهل بطبيعة المجتمع العربي، فلو أنصفوا و عرفوا ما كان يسود المجتمع العربي من تقاليد الزواج والبناء، لما أثاروا أمثال هذا الشبهات.

لقد كان من تقاليد المجتمع العربي تزويجُ البنات في سن مبكرة، يقوم به أولياؤهن عن رضا وطواعية، ثم توديعهن إلى الأزواج بعد ما بلغن وصلحن أزواجًا لهم. وهنا في الهند بعض القبائل تبكر في زواج الأبناء والبنات، أما توديعهن إلى أزواجهن فيتأخر سنوات حتى بلغن وصلحن للحياة الزوجية.

         ثم إن الجو في بلاد العرب حار، ونمو الجسم سريع، والبلوغ مبكر، والأمر ليس كذلك في البلاد المعتدلة أو الباردة. وتقول الدراسات الحديثة: إن المرأة تحيض فيما بين 9- 16 سنة من عمرها، وهذا لا يخص بلدًا دون بلد.

         فإن كان الأمر كذلك فأي استغراب في هذا الزواج الذي اتخذوه دونما سبب ذريعة للطعن على شخصية النبي ﷺ؟

حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها

         لما مات زوجها خنيس بن حذافة السهمي البدري صاحب الهجرتين، بعد ما أصابته جراحة يوم أحد، حزنت عليها حزنًا شديدًا، وحزن لحزنها أبوها عمر بن الخطاب، فعرض زواجها على أبي بكر، وعثمان مواساة لها وإنقاذًا لها من أحزانها، فاعتذر عثمان بحجة عدم حاجته في النساء، وسكت أبو بكر. فبث عمر أسفه للنبي ﷺ فلم يكن للنبي ﷺ أن يضن على وليه وصديقة بالمصاهرة التي شرف بها أبابكر من قبله، وقال: يتزوج حفصة من هو خير من أبي بكر وعثمان.

         وروي أنه عند ما طلق النبي ﷺ أتاه جبريل فقال له: راجع حفصة، فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة.

         ما ذكرنا يدل على أن زواج النبي ﷺ من حصفة كان مواساة لها ولأبيها لمكانته عنده، وهذا هو حكمة هذا الزواج ومصلحته.

أم سلمة -هند بنت أبي أمية-

المخزومية رضي الله عنها

         كانت السيدة أم سلمة من المؤمنات العاملات وراء صفوف المجاهدين في غزوة أحد، وكانت هاجرت إلى الحبشة مع زوجها أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وكان له بلاء حسن يوم أحد حتى جرح جرحًا كبيرًا، كان سببًا في وفاته. مات رضي الله عنه وخلف وراءه أربعة من الأولاد.

         وقد حرص النبي ﷺ على مواساتها عمليًا بأن يكرمها بضمها إلى نسائه، والقيام بأمرها، ولم يكن لها أهل بالمدينة غير أبنائها. روي أنه لما انقضت عدتها من أبي سلمة خطبها أبو بكر فردته، ثم عمر فردته، فبعث إليها رسول الله ﷺ، فقالت: مرحبًا برسول الله ﷺ إني امرأة غِيْرى، وإني مُصْبِية، وليس أحد من أوليائي حاضرًا، فبعث إليها رسول الله ﷺ: أما قولك إني مُصْبِية، فإن الله يكفيك صبيانك، وأما قولك إني غِيْرى، فسأدعو الله أن يُذهب غيرتك، وأما الأولياء فليس أحد منهم شاهد ولا غائب إلا فسيرضاني، فقالت: يا عمر، قم.. فزوج رسول الله ﷺ.

         كما روي أنها قالت: لما توفي أبو سلمة، استرجعت، وقلت: اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منه. ثم رجعت إلى نفسي وقلت: من يكون خيرًا من أبي سلمة؟. فلما تزوجها رسول الله ﷺ قالت: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه رسول الله ﷺ.

         وكان زواج الرسول ﷺ بها في شوال سنة أربع.

جويرية بنت الحارث رضي الله عنها

         أما جويرية بنت الحارث فقد كانت إحدى السبايا في غزوة بني المصطلق، فأعتقها النبي ﷺ وتزوجها، وحض المسلمين على عتق أسراهم وسباياهم تفريجًا عنهم وتأليفًا لقلوبهم، فأسلموا جميعًا وحسن إسلامهم، وخيرها أبوها بين العودة والبقاء في حرم رسول الله ﷺ، فآثرت البقاء في حرم رسول الله ﷺ.

زينب بنت جحش رضي الله عنها

         هي ابنة عمة النبي ﷺ أميمة، وقد زوجها النبي ﷺ لمولاه زيد بن حارثة، الذي أعتقه وتبناه إلى أن أبطل عادة التبني، وقد نزل في قصة زواجها من زيد، ثم الرسول ﷺ، قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ ‌تَقُولُ ‌لِلَّذِيٓ ‌أَنۡعَمَ ‌ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا٣٧﴾ [الأحزاب:37].

         فكانت زينب تفخر على أزواج النبي ﷺ، تقول: زوجكن أهاليكن، و زوجني الله من فوق سبع سماوات.

         كان زواج النبي ﷺ منها في ذي القعدة من العام الخامس الهجري، وهي بنت خمس وثلاثين سنة، لحكمة هي إبطال عادة التبني كما هو واضح من الآية المذكورة.

         وخلاصة ما ورد في تفسير هذه الآية أن الذي كان يخفيه النبي ﷺ هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد الله ما كان عليه أهل الجاهلية من أحكام التبني، وليس أبلغ في إبطاله من تزوج امرأة الذي يدعى ابنًا، ووقوع ذلك أمام المسلمين ليكون ذلك أدعى لقبولهم.

أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها

         تركت أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان أباها وأسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي إلى الحبشة، فلما توفي زوجها – وقيل تنصر وفارقها- أصبحت غريبة هناك بلا عائل، فأرسل النبي ﷺ عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها له، فزوجه إياها بصفته وكيلا عن النبي ﷺ، وبعث بها النجاشي إلى المدينة مع شرحبيل بن حسنة، وكان مهرها وجهازها من عند النجاشي.

         كان هذا الزواج سنة سبع، وكان لها بضع وثلاثون سنة.

         كان الباعث على هذا الزوج هو النجدة الإنسانية لا الاستزادة من النساء، وكان للنبي ﷺ مقصد جليل آخر من وراء هذا الزواج، وهو أن يصل بينه وبين أبي سفيان بآصرة النسب، عسى أن يهديه ذلك إلى الدين، بما يعطف من قلبه ويرضي من كبريائه.

صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها

         لما فتح النبي ﷺ خيبر، سبيت النساء، منها صفية، فلما قسمت السبايا وقعت صفية في سهم دحية، فقال له رجل من المسلمين، أتعطي دحية صفية سيدة بني قريظة والنضير؟ وهي لا تصلح إلا لك، فأعطى النبي ﷺ دحية ابنة عم صفية، واصطفى صفية  لنفسه. وقال لها النبي ﷺ: اختاري، فإن اخترت الإسلام أمْسَتُكِ لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك، فقالت يا رسول الله، لقد هويت الإسلام وصدَّقْتك قبل أن تدعوني، حيث صرت إلى رحلك، وليس لي في اليهودية أرَب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني بين الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحبُّ إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي، فأمسكها رسول الله ﷺ.

         كان في زواج النبي ﷺ منها ذات الحكمة من زواجه من جويرية بنت الحارث، فهي ابنة زعيم من زعماء يهود، مات هو وزوجها وأخوها في صراعهم ضد النبي ﷺ، فكان لا بد من إكرامها لمكانها عند اليهود. وكان من سنة النبي ﷺ في معاملة جميع الناس إعزاز من ذلوا بعد عزة، ولا سيما النساء اللاتي تنكسر قلوبهن بعد فقد الأحماء والأقرباء، ولذلك خير النبي ﷺ صفية بين أن تلحق بقومها و أن يعتقها ويتزوجها، فاختارت الزواج منه ﷺ.

         عاشت صفية في بيت النبوة معزَّزة مكرَّمة، فلما عَيَّرتْها زينب باليهودية هجرها النبي ﷺ ثلاثة شهور، فلما رفع عنها النبي ﷺ الهجران أهدته جارية لها فرحًا بهذا العفو وندمًا على تلك الزلة.

ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها

         لقد رَغَّب النبي ﷺ في الزواج منها ما عرفه عنها من الصلاح والتقوى، فقد قالت عائشة  رضي الله عنها : … أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم. وقال رسول الله ﷺ: الأخوات مؤمنات: ميمونة، وأم الفضل، وأسماء.

         وكان العباس حريصًا  على أن يتزوجها الرسول ﷺ فقد قال له: يا رسول الله تأيمت ميمونة بنت الحارث… هل لك في أن تتزوجها. ولا شك أن العباس كان من أعرف الناس بها، لأنها أخت زوجها أم الفضل.

         وامرأة هذا شأنها لجديرة بأن يضمها النبي إلى بيت النبوة مواساة لها في فقد زوجها واعترافًا بفضلها، وتحبيبا لقومها في الإسلام.

خلاصة القول

         لقد أدركنا مما ذكرنا حِكَم تعدد زوجات النبي ﷺ ومصالحه، وهي: الإيواء الكريم، والكفالة الاجتماعية، و تكريم أحبائه بالمصاهرة كأبي بكر وعمر، و تقريب أعدائه إلى الإسلام بالإصهار فيهم كأبي سفيان بن حرب، وإعزاز من ذلوا كتزوجه من صفية  بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث.

         و معلوم أن زوجاته ﷺ عشن معه في شظف من العيش، وطلبن منه الزيادة في النفقة… فاهتم ووجد حتى نزلت الآية تخيرهن في البقاء على ضنك من العيش أو الطلاق… فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة راضيات… ولو كان همه النساء لأغدق عليهن المال والنعيم، ولما أنكر عليه أصحابه ذلك، لأنهم يعرفون أنّ إرادة الرسول من إرادة الله.

         كما كان من وراء هذا التعدد غرض آخر وهو تبليغ الأحكام الدينية التي تتعلق بالنساء عن طريقهن،  فهذه الوظيفة لا تكاد تقوم بها زوجة واحدة، فقد تعلمت منهن نساء المسلمين كثيرًا من الأحكام الدينية والسيرة الطيبة والسلوك الحسن، فكن معلمات و فقيهات ومربيات وكافلات أيتام.

         كان التعدد مباحا في المجتمع العربي، واختاره النبي ﷺ لهذه الأغراض النبيلة التي ذكرتها آنفا، وكان هناك احتمال أن يتأسى به المسلمون في هذا الشأن، ويختاروا التعدد كذلك، ويتجاوزوا الحدود، فقصرهم الله جل وعلا على أربع نساء.

         إن الحقائق التي ذكرتها بشأن التعدد قد سجلها التاريخ بجانب التعدد، لكن المفترين والمتقوِّلين أغمضوا أعينهم عنها، وأخذوا التعدد وشهروا به، ونسبوا إليه ما هو منه بريء، ﴿وَسَيَعۡلَمُ ‌ٱلَّذِينَ ‌ظَلَمُوٓاْ ‌أَيَّ ‌مُنقَلَبٖ ‌يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء:227].

*   *   *

المصادر والمراجع

(1)    السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصيلة دراسة توثيقية تحليلية للأستاذ الدكتور مهدي رزق الله أحمد، الطبعة الرابعة 1422هـ/ 2012م شركة الرشد العالمية، المملكة العربية السعودية، الرياض.

(2)    عبقرية محمد لعباس محمود العقاد، ط: دارالمعارف ديوبند بالهند.

(3)    سلسلة قصص أمهات المؤمنين للمحدث محمد ريحاوي، النادي الأدبي دار العلوم زكريا جنوب إفريقيا، ط: 1433هـ/2012م.

(4)    السيدة عائشة رضي الله عنها  لعبد الحميد محمود طهماز، دار القلم دمشق، الطبعة الخامسة 1415هـ/1994م. *  *  *


(*)         أستاذ العلوم الشرعية بالجامعة.

مجلة الداعي، ربيع الآخر 1444هـ = نوفمبر 2022م، العدد: 4، السنة: 47

Related Posts