فصاحة الرسول ﷺ وبلاغته، الأدعية المأثورة أنموذجًا

بقلم:  الأستاذ محمد ذيشان أحمد القاسمي(*)

         كان رسول الله ﷺ أفصح من نطق بالضاد، وأعطي جوامع الكلم، فقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «فُضِّلتُ على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلَّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون»(1).

         فقوله ﷺ: «أعطيت جوامع الكلم»، يشرحه النووي -رحمه الله- فيقول: كلامه ﷺ كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني(2).

         وكيف لا يكون حسن البيان وفصيح اللسان؟  وأنه – بعد الفيض الإلهي- قُرَشيٌّ، وقريش أفصح العرب لسانًا، وأبرعها بيانًا، وأنَّه نشأ في بني سعد؛ حيث استرضع فيهم، وبنو سعد من أرقى قبائل العرب فصاحة، وبذلك جمع له ﷺ بين جزالة كلام البادية، ورونق كلام الحاضرة، فأصبح كلامه، كما قيل: «كلام كنظم الجمان روض الجنان، وكأنه من كل قلب ينظم»(3).

         وصف أبو عثمان عمرو بن بحر الملقب بـ«الجاحظ» [المتوفى:255هـ] ‏كلامه ﷺ وصفًا دقيقًا شاملًا فقال:

         «هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى قل يا محمد (وَمَآ ‌أَنَا۠ ‌مِنَ ‌ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ) استعمل المبسوطَ في موضع البسط؛ والمقصورَ في موضع القَصْر، وهجر الغريبَ الوحشيَّ، ورغب عن الهجين السُّوقيِّ؛ فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعِصْمة، وشُدَّ بالتأييد، ويُسِّر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبَّةَ عليه وغشَّاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلةِ عدد الكلام هو مع استغنائه عن إعادته وقلةِ حاجة السامع إلى مُعاودته، لم تسقط له كلمةٌ، ولا زلَّت له قدم، ولا بارَتْ له حُجة، ولم يَقُم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخُطَب الطِّوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلا بالصدق، ولا يطلب الفلَج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المؤاربة، ولا يَهْمِزُ ولا يَلْمِزُ، ولا يُبْطِئ ولا يَعجل، ولا يُسهِب ولا يَحْصر؛ ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعمَّ نفعًا ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرمَ مطلبًا، ولا أحسنَ موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصحَ عن معناه، ولا أبينَ في فَحْوَى من كلامه ﷺ كثيرًا»(4).

         وقال السيوطي [المتوفى:911هـ]: أفصحُ الخَلْق على الإطلاق سيدُنا ومولانا رسول اللّه حبيب رب العالمين جلَّ وعلا(5).

         وما كان أحقّه ﷺ بقول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي [المتوفى:231هـ]:

         منَ السحرِ الحلالِ لِمُجتَنيهِ

ولم أَرَ قبلَه سِحْرًا حَلالا(6)

         وكما قال أبو الطيب المتنبي [المتوفى:354هـ]:

         إذا ما صافح الأسماعَ يومًا

تبسمت الضمائرُ والقلوب(7)

         ومما زاد كلامه ﷺ ‏فضلًا في الفصاحة والبلاغة أنه ﷺ كان يتكلم به بداهة، ولا غرو أن للبديهة فضلًا على الرويّة، كما قال ابن الرُوميّ [المتوفى:283هـ]:

         ‏نارُ الرَّويَّة نارٌ جِدُّ مُنْضجةٍ

‏وللبديهَـــــــــــةِ نارٌ ذَاتُ تَلْويحِ

         ‏وقد يَفضِّلُهَا قَوْمٌ لِعَاجِلها

لكنَّهُ عاجلٌ يَمْضي مع الريح(8)

         لفصاحته صلى الله عليه وآله وسلم مظاهر شتى، ومن أوضح مظاهرها «الأدعية» المأثورة عنه ﷺ، وهي موضوع مقالنا هذا، ولعمر الله تتجلى فصاحته ﷺ في كل دعاء من الأدعية التي دعا الله سبحانه في المناسبات المختلفة في حياته ﷺ، فنرى فيها الكلمة المعجزة، والصياغة المحكمة، والأسلوب البليغ، فكان كلامه فيها ﷺ مما لم يسبقه إليه عربيٌّ ولا شاركه فيه أعجمي، كما ورد في خير الكلام فصاحةً و بلاغةً:

         «خير الكلام ما كان لفظه بِكرًا ومعناه فَحلًا»(9).

         وجملة ما يقال في فصاحته ﷺ في  باب «الدعاء»: إنه كان يراعي المطابقة المعنوية والمشاكلة اللفظية، فجاءت أدعيته ﷺ، كما قال الشاعر:

         ترى حُللَ البيانِ مُنَشِّرات

تحبَّر وسطَها صور المعاني(10)

         لو وقفنا وقفة متأمل في فصاحة الرسول ﷺ في الأدعية المأثورة عنه ﷺ لوجدناها الفضاء الواسع الذي لا تأتي على أطرافه النسور؛  فلنتبرّك بذكر شيء منها ما ينبئ عن بقيتها.

         فأوّل دعاء نستعرضه من الأدعية المأثورة عنه ﷺ هو دعاء الخروج من المنزل الذي أخرجه أبو داود في سننه، «عن أم سلمة – رضي الله عنها- قالت: ما خرج النبيُّ ﷺ من بيتي قَطُّ إلا رفع طَرْفَه إلى السماءِ فقال: اللهم أعوذُ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ أو

أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عَلَيَّ»(11).

         ولا يخفى على من له إلمام بالبلاغة أن كل فقرة من فقر هذا الدعاء تتضمن «الإيجاز» الذي هو مركز عناية البلغاء، و«السجع» الذي هو محل اهتمام الأدباء.

         شرح الإمام الطيبي [المتوفى:743هـ] هذا الحديث شرحا بديعًا، فيقول: إن الإنسان إذا خرج من منزله لا بد أن يعاشر الناس ويزاول الأمر فيخاف أن يعدل عن الصراط المستقيم، فإما أن يكون في أمر الدين فلا يخلو من أن يَضل أو يُضَل، وإما أن يكون في أمر الدنيا فإما بسبب جريان المعاملة معهم بأن يَظلم أو يُظلَم، وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة فإما أن يَجهَل أو يُجهَل.

         وعلّق أخيرًا بقوله: «فاستعيذ من هذه الأحوال كلها بلفظ سلس موجز، وروعي المطابقة المعنوية والمشاكلة اللفظية، كقول الشاعر:

         أَلا لا يَجْهَلَـن أحـدٌ علينـا

فنَجْهَـلَ فوق جَهْل الجَاهِلِيْنـا(12)

         فأي بيان  بربك يشبه هذا البيان! وأي فصاحة – غير فصاحة كتاب الله – تعدل مثل فصاحته ﷺ!

         وهكذا نرى في كلامه سهولة مأخذ، وبعدًا عن التصنع، وإبداعًا في إعطاء المعنى صورة تجعله أوضح ما تكون في «دعائه ﷺ عند السفر».

         فعن ابن عمر أنَّ رسولَ الله ﷺ كانَ إذَا اسْتَوَى علَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إلى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قالَ: سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا، وَما كُنَّا له مُقْرِنِينَ، وإنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هذا البِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ ما تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ في الأهْل، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المَنْظَر، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ في المَالِ وَالأهْلِ، وإذَا رَجَعَ قالَهُنَّ، وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ(13).

         فليتأمل القارئ فيما احتوت عليه هذه الكلم الوجيزة من المعاني الجمّة مع غاية البلاغة و منتهى الفصاحة.

         ينابيع الفصاحة و البلاغة تترقرق في دعائه ﷺ للاستخارة حين كان يعلّم الصحابة -رضي الله عنهم-، أخرج البخاري في صحيحه عن جابر -رضي الله عنه- قال: كان النبي ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن إذا هم بالأمر فليركع ركعتين ثم يقول:

         «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله، فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به ويسمي حاجته»(14).

         تتجلى السمات البيانية في كل جملة من جمل هذا الدعاء، وفي كل مفردة من مفرداتها، لمن له أدنى معرفة بعلوم الفصاحة و البلاغة.

         ومن الأدعية التي تقطر فصاحة و بيانًا قوله ﷺ: «رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي»(15) «فغسل الحوبة» هذا،  فيه استعارة مليحة، كما ذكره ابن رشيق القيرواني [المتوفى:456هـ] في كتابه العمدة(16).

         ونلاحظ مثل الاستعارة السابقة في تعوّذه ﷺ عند السفر، بقوله «الحور بعد الكور» أي النقصان بعد الزيادة، وأصل الحور نقض العمامة بعد لفّها، وأصل الكور هو لفّ العمامة، فاستعاذ رسول الله ﷺ من انقلاب حال من السراء إلى الضراء ومن الصحة إلى المرض باستعارة بديعة(17).

         ومما يتصل بما الحديث فيه من الفصاحة النبوية في الأدعية، دعاؤه ﷺ: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ» ففي قوله ﷺ: «بَاعِدْ» مجاز كما لا يخفى.

         قال العسقلاني [المتوفى:852هـ]: المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي وهو مجاز؛ لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان(18).

         فهذا غيض من فيض، وقطرة من بحر، و قليل من كثير يستدل به عليه، ولو تقصّيتُ ما في هذا الباب من فصاحة  الأدعية وبلاغتها لأفنيتُ العمر دون ذلك؛ لأن في كلامه ﷺ من البدائع البيانية والروائع البلاغية ما لا تتسع له المدارك، ولا تستقر له العقول، إنما أردت الكشف بهذا المقال الوجيز عن الإعجاز في ناحية من نواحي البيان النبوي ﷺ.

         وأنّى لي هذا الاستقصاء الذي ما ادّعى به أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ – وهو أبلغ الكُتّاب – حين ألّف كتابا لا يُبْلَغُ جودةً وفضلًا.

*  *  *

الهوامش:

(1)    الصحيح لمسلم (2/199) مكتبة الاتحاد، ديوبند.

(2)    المنهاج مع الصحيح لمسلم (1/199) مكتبة الاتحاد، ديوبند.

(3)    محاضرات الأدباء (1/122)، دار صادر.

(4)    البيان والتبيين (2/16، 17، 18) مكتبة الخانجي، القاهرة.

(5)    المزهر في اللغة (1/209) المكتبة العصرية.

(6)    محاضرات الأدباء (1/122)، دار صادر.

(7)    محاضرات الأدباء (1/124)، دار صادر.

(8)    محاضرات الأدباء (1/126)، دار صادر.

(9)    محاضرات الأدباء (1/125)، دار صادر.

(10) محاضرات الأدباء (1/125)، دار صادر.

(11) صحيح أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج من بيته، رقم الحديث: 5094، (7/424) دار الرسالة العالمية.

(12) تحفة الأحوذي (9/385، 286) دار الفكر، بيروت.

(13) مشكاة المصابيح مع مرقاة المفاتيح (5/331 ) مكتبة زكريا ديوبند.

(14) فتح الباري، باب الدعاء عند الاستخارة (11/208، 209)، مكتبة فيصل، ديوبند.

(15) مرقاة المفاتيح (5/395) زكريا بكڈپو، ديوبند.

(16) العمدة لابن رشيق القيرواني (1/) مكتبة الخانجي، القاهرة.

(17) مرقاة المفاتيح (5/334) زكريا بكڈپو، ديوبند.

(18) مرقاة المفاتيح (5/369) زكريا بكڈپو، ديوبند. *  *  *


(*)         أستاذ العلوم الشرعية بمدرسة إمداد العلوم، حيدرآباد، الهند

مجلة الداعي، شعبان 1444هـ = مارس 2023م، العدد: 8، السنة: 47

Related Posts