الفكر الإسلامي
بقلم: أ. د. رشيد كُهُوس (*)
إن السنن الإلهية هي المنظومة السننية الكلية الحاكمة لصيرورة العمران البشري، الناظمة لحركة الحياة والأحياء والاستخلاف الإنساني والوجود الكوني وسير المجتمعات عامة، ولسلوك الإنسان وحركته في المجتمع، وصيرورته في عالم الشهادة الدنيوي، وفاعليته في التاريخ خاصة.. التي تهدف إلى إصلاح الإنسان – نفسًا ومجتمعًا وأمةً وحضارةً- في المعاش وإسعاده في المعاد، وتحقيق شهودِه العمراني على الأمم.
فسنن الله تعالى إذن هي منهاج الله تعالى في تسيير الكون وعمارته وحفظ نظام الحياة الإنسانية.. وهي القواعد والأصول اللازمة التي رسمها الله تعالى لهداية الناس وإصلاح دنياهم ودينهم وآخرتهم… على مقتضى حكمته وعدله ومشيئته المطلقة.
إن العناية بالسنن الإلهية مجال ما يزال من الثغور الفكرية المفتوحة في الفكر الإسلامي، والتي تحتاج إلى المرابطة عليها بالتفكير والتأصيل والتأسيس والوعي والاستيعاب والتنزيل..
ذلك بأن تأسيس الوعي بكون القرآن المجيد يمثل خلاصةً كلية كاملة شاملةً لمنظومة سننية دينية وحضارية وكونية، من أهم ما يجب أن تهتم به الدراسات الشرعية والاجتماعية والنفسية والإنسانية المعاصرة؛ لأن الارتقاء بنظرنا في آي القرآن الكريم إلى هذا المستوى من الوعي السنني، سيمكِّن الأمةَ عامة من الاستفادة القصوى من هداياته العظيمة وبصائره اللطيفة في تحقيق نهضتها العمرانية وشهودها الحضاري.
لقد منح القرآن الكريم العقل الإنساني مفاتيح الحياة والكون والإنسان، هذا البناء الكبير والفضاء الواسع المملوء بالأسرار والرموز لا يمكن للإنسان فهمَه وإدراكَ كنهه والوعيَ بالنواميس التي تسيره وتنظم شؤونه إلا بفقه السنن الذي هو مفتاح الحياة.
فما هي الآثار الاجتماعية للسنن الإلهية؟
الأثر الأول: الوقاية من السقوط الاجتماعي.
إن الاستفادة من السنن الإلهية لها آثارٌ اجتماعية عديدة، فهي تقدم للناس معرفةً نظرية وعملية، حتى لا يقعوا فيما وقعت فيه المجتمعات قبلهم من المحاذير والمثُلات، أو تنقذهم إذا هم وقعوا فيها.. أو على أقلِّ تقدير تكسبهم صلابةَ موقف من يدرك السنن ويفقهها.. فمثَلُ الذي يعلم السنن الإلهية كمثل الذي يمشي في مفازة على خريطة وبوصلة، ومثل من يجهل هذه السنن كمن يضرب في تيه الأرض مكبا على وجهه دون معرفة أو دليل.
وفضلا عن ذلك فإن السنن الإلهية تكشف عن أسباب الخلل، وتزيل الستار عن أسباب الدمار وتثير في الإنسان فطرة الخير والفضيلة والصلاح، وتدعوه إلى الاستقامة ومراجعة مواقفه ووقفاته والعمل على ضبط حركاته وسلوكه وتصرفاته. ومن جهة تكشف هذه السنن الإلهية عن تجربة تاريخية كاملة تجد فيها الشعوب والجماعات والمجتمعات ما ينير طريقَها وتفتح بصيرتها للوقوف على نتائج اختيارها سلبا أو إيجابا، تقدما أو انهيارا، امتدادا أو انحسارا.
ولن يتأتى للأمة المسلمة استئناف نهضتها العمرانية، ومعاودة استثمار طاقاتها الروحية والمادية، ما لم تفتش عن نفسها من جديد في كتاب الله، وسنة نبيه ﷺ، وتحسنَ التعامل مع سنن الوحي، وتقوِّم واقعها بها، فتنظر إلى الواقع من خلال هذه السنن والوعي بها، وتكتشف من خلالها الحلول وكيفيات التنزيل، ووضعَ البرامج والخطط للنهوض من وهدة التخلف، وتجاوز التراجع الحضاري، وتستوعب التجربة التاريخية من قصص الغابرين، وتدرك حركتها وسننها الاجتماعية فتصبح قادرة على مغالبة قدر بقدر، والفرارِ من قدر إلى قدر، والسير في حياة على منهاج الله ووفق إرادته.. وذلك من خلال الوعي بالأسباب والمسببات، والنتائج والمقدمات، والاستفادة من خلاصة التجارب، التي كان محلّها التاريخ والفعل البشري.. فتكون بداياتها، هـي نهايات الآخرين..
الأثر الثاني:
السنن الإلهية توجه المجتمعات إلى الأمن والاستقرار:
إن نصوص الوحي حينما توجه البشرية إلى فهم السنن الإلهية والتكيف معها والعمل بمقتضاها وتسخيرها، إنما تمثل العناية الإلهية بالإنسان، ورحمة الله عز وجل التي تأخذ بيد الإنسان فردًا ومجتمعًا وأمة إلى بر الأمان، ليواجه الظروف والعوامل البيئية الاجتماعية فيتفاعل معهما تفاعلا مفيدًا مثمرًا يحقق من خلاله حريتَه وكرامته وسيادته على الأرض، ويؤدي وظيفته الاجتماعية في عمارة المجتمع بالخير والحق والعدل والصلاح.
ذلك بأن سنن الله تعالى لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تحابي أحدًا، ولا تنخرم أبدًا، وأن الذي يدركها، هـو القادر على التغيير، والتجديد، والإصلاح، ومغالبة الأقدار ببعضها، وأن الذي لا يدركها يصبح مسخَّرا، بدل أن يكون مسخِّرا لها، الأمر الذي يؤكد لنا أن دراسة المجتمعات، وفهم واقعها، وتاريخِها، وثقافتها، ومعادلاتِها الاجتماعية، هـو الذي يوضح لنا كيفيات وآليات التعامل معها، ومواصفات خطابها، والفقهَ الذي يمَكننا من التدرج في الأخذ بيدها إلى تقويم سلوكها بشرع الله تعالى ومنهاجه القويم.
الأثر الثالث:
السنن الإلهية منطلقا للنهوض الاجتماعي:
إن الوعي بالسنن الإلهية وتسخيرها والسير على هداها هو المدخل الرئيس والمنطلق الصحيح لنهضة المجتمعات. إذ بدون معرفةٍ بسنن الاجتماع البشري، وسنن الكون، لا يمكن لحركات النهوض والتغيير أن تستأنف عملا إصلاحيًّا سديدًا، بل ستَقذف جهودها إلى صحراء العدم.
فلا ريب إذن أن يؤدي عدم التعامل مع سنن الله بشكل صحيح، وإغفالها وعدم إدراك كنهها، وتنكب طريقها، والتقصير المعرفي بها إلى استنزاف الكثير من طاقات المسلمين ومساعيهم، وتعثر خطواتهم في طريق البناء والإصلاح والرقي والصيرورة الاستخلافية والشهود الحضاري.
ومن ثم فإن نظام الاجتماع البشري وما يحدث فيه هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليها أعمالَه، ويبني عليها سيرتَه، وما يأخذ به نفسَه، فإن غفل عن ذلك غافلٌ فلا ينتظرن إلا التعاسة والشقاء..
إننا بهذه السنن الإلهية التي تحكم المسيرة البشرية نكون قادرين على التعامل الصحيح، وتحديد الأبعاد والمداخل الصحيحة لذلك التعامل، والمجالات المؤثرة في البناء والتغيير الاجتماعي، والتجديد الحضاري، والتحويل الثقافي، من خلال الاهتداء إلى السنن الإلهية التي تشكل أقدارَ السقوط والنهوض للأمم والحضارات… فالوعي بالسنن الإلهية مؤذن بازدهار العمران واستمرار المجتمعات البشرية وتحقيق أمنها وتماسكها واستقرارها.
الأثر الرابع:
التقصير في السنن مؤذن بانهيار المجتمعات:
لئن كانت وظيفة الإنسان في الحياة أن يلتزم بشرع الله تعالى ويقوم بإعمار الأرض وفق منهاج القرآن، فإن القرآن الكريم يحدثنا أن هلاك المجتمعات الماضية لم يكن أبدا بسبب القصور العمراني، وإنما بسبب التقصير في جانب العبودية لله تعالى، والانحراف عن منهاجه السنني.
عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله– ﷺ-: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟! قال: «بَلْ أَنتُمْ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ المَهَابَةَ مِنكُمْ، وَلَيَقذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ». فقال قائل: يا رسول الله! وما الوَهَن؟ قال: «حُبُّ الدُّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ«(سنن أبي داود بسند صحيح).
وللغثاء سمتان أساسيتان: خفة الوزن، وعدم الترابط. ويترتب عليهما نتيجة خطيرة ومخيفة، وهي: فقد الاتجاه الحر، والتبعية للآخرين (لتتبعن سنن من قبلكم). وفي موازين عديدة يعد الاتجاه فقدًا للوجود ذاته، وفقدًا للحرية، وفقدًا للاختيار، واستسلاما للآخر، وانقيادًا له.. وإخباره ﷺ عن فشو الأمراض المعدية الغريبة والأوبئة والجوائح العامة بسبب ظهور الفاحشة.. يكفي ليوقن الناس أن سنن الله تعالى قاهرة ماضية في حياتهم لا تتخلف، وأنهم ليسوا ناجين منها مهما خُيل لهم أنهم ناجون، ومهما ظنوا أنهم قادرون، وأنهم عالمون. إلا أن ينسجموا معها ويعملوا بمقتضاها ويتلافوا الاصطدام بها، ويتمسكوا بهداياتها.
إن سبب تراجع المسلمين وتخلفهم هو فقدانهم نور السنن وملكة التدبر والتأمل في الوحي لمعرفة أسراره الربانية وهداياته السننية، وغياب الوعي السنني وظهور الجهل، والتقليد الأعمى، فنشأت فيهم القابلية للضلالات، واتبع بعضهم أهواء أنفسهم، واتبع بعضهم الظن والجزاف، واحتذى بعضهم آثار الأمم الضالة المضلة، وتشبثوا بتلاوة ألفاظ الكتاب وممارسة الشعائر والمراسيم التعبدية في الظاهر فقط، بعد أن أضاعوا كتاب الله وأهملوا ناموسه. هذه هي عواقب الغفلة عن السنن الإلهية.
ومن ثم فإن الانحسار الحضاري والهزيمة النفسية والاستنقاع الاجتماعي الذي تتجرع آلامه الأمةُ اليوم كان بسبب العدول عن الانضباط والانسلاك بالسنن الإلهية التي شرعها الله للشهود الحضاري والنهوض بأمانة الاستخلاف في الأرض.
إن عملية النهوض بالواقع المعيش تتطلب التزامَ المنهاج السنني واكتشافَ السنن الإلهية وفهمَ آلية عملها، ومن ثم امتلاك القدرة على تسخيرها ومدافعةِ سنة بسنة..
الأثر الخامس:
السنن الإلهية بوصلة تحدد اتجاه المجتمعات:
إن ما تمتلكه الأمة المسلمة من أصول ثابتة وقواعد متينة وهدايات قرآنية دون غيرها من سائر الأمم والحضارات الأخرى، هو من المنطلقات الأساس التي لا بد من التوقف عندها كثيرا، فهي تمتلك النص الإلهي الصحيح (القرآن الكريم)، الوارد بالتواتر الذي يفيد علم اليقين، الهادي إلى سواء السبيل وللتي هي أقوم، وتمتلك أيضا البيان النبوي المعصوم (السنة الصحيحة) الذي تحقق له من شروط النقل وضوابطه، والتوثيق، والتحقيق، والحفظ، ما لم يتحقق لغيره، حتى في أرقى العصور المعلوماتية، إضافة إلى ما يمتاز به المنهاج النبوي من واقعية وعمل، فهو ليس كأمنيات الفلاسفة وخيالهم، وإنما تم تحويله من نظر إلى واقع، ومن علم إلى عمل، ومن فلسفة إلى ممارسة، ومن فكر إلى فعل، وتنزيله على واقع الناس، في مرحلة السيرة النبوية الخالدة، حيث تسديد وتصويب الوحي، وفي مرحلة الخلافة الراشدة، حيث امتداد التنزيل والفعل البشري بعد توقف الوحي، تأييدًا وتسديدًا.
ومعرفة سنن الوحي هـذه وهداياته التي يمتلكها المسلمون اليوم، من نص، وبيان، وتطبيق، وتجسيد في أرض الواقع والتي اتسمت بشمولية كاملة، تعتبر منهاج العمل، ودليلَ التعامل مع الحياة الإنسانية والمجتمعات البشرية، أي البوصلة التي تحدد الاتجاهات من جانب، كما تعتبر المعيار، وأداة التقويم، ومركز الرؤية، لمدى صوابية وسلامة الفعل، والاجتهاد البشري، من جانب آخر.
ومن ثم فمن يمتلك الوعي السنني فإنه يمتلك البوصلة التي تجعله يسير في الاتجاه الصحيح، ولا تتيه في مسالك الحياة وسبلها، ومن يملك البوصلة فقد امتلك الحل والمفتاح لكل مشكلات الحياة.
الأثر السادس: استشراف مستقبل المجتمعات:
إذا كانت السنن الإلهية هي الناموس العام الذي يؤمّن الاستقرار والانسجام والتماسك بين جزئيات الظاهرة الواحدة إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع (الاصطراد)، فإن هذا يعني أن المؤمن مأمور بعبور الماضي ليفهم جذور حاضره وواقعه، ومأمور بتجاوز الحاضر ليمد النظر نحو المستقبل، حتى يتخذ الخطوة المناسبة والموقف الحكيم. ونصوص الوحي تبين هذا الرابط بين الماضي والحاضر في قوله تعالى: ﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران:137]، بل الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل في قوله تعالى: ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [العنكبوت:20].
وفي عرض الآيات الكريمة التي تضمنت كلمة (سنة) ومشتقاتها في القرآن الكريم نلاحظ ورود كلمة (تجد) وتفيد استقصاء مضمون ما بعدها على مر الزمان، والمعنى أي من يستقصي تاريخ البشرية ويطلع على حاضرها فلن يجد سنةً من سنن الله تعالى تحولت عمن استحقوها، ولا تبدلت بغيرها، ولا انخرمت لأحد، ولا تأخرت عن موعدها، ولا توقفت إذا جاء أجلها. فهي قد وقعت في السابقين والحاضرين على من استحقها، ولابد أن تقع في المستقبل وفق قدرها الذي قدره الله تعالى ومشيئته وإرادته، بصرف النظر عن زمان ومكان وحال من وقعت منهم أسبابها ومقدماتها، فهي سنن عامة ومطردة وثابتة في الخلق.
وعليه؛ فإن السنن الإلهية تقوم على إصلاح شؤون الحياة للأفراد والمجتمعات، بما يحقق لهم خير الدنيا والآخرة، فينعم الناس جميعًا بالأمن والأمان، والطمأنينة والسلام. ومن ثم فإن السنن الإلهية تسعى إلى صناعة مجتمعات آمنة متماسكة نظيفة خالية من مظاهر التلوث، أيًّا كان هذا التلوث، أخلاقيًّا أم سياسيًّا أم اقتصاديًّا أم ثقافيًّا… فإذا ما سعت المجتمعات إلى ذلك، فإن الله يرفع من شأنها ويعليها، وإذا ما انتكست تلك المجتمعات في حمأة التلوث، فإن ذلك يقودها إلى التخلف والانحدار الحضاري، والعذاب الإلهي.. ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا﴾ [الأحزاب:62].
(*) أستاذ ورئيس فريق البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بتطوان/جامعة عبد الملك السعدي- المغرب.
مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47