دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ: علي عبد الله طنطاوي
منذ وقت ليس ببعيد علت أصوات كثيرة تطالب باستبدال الشريعة الإسلامية الغراء بالقوانين الوضعية التي لم تؤت ثمرتها وكشفت الأيام عن قصورها وعدم ملائمتها للبيئة الإسلامية.
ولكن بعض المعارضين تصدوا لصيحة الحق هذه يحاولون النيل منها متشدقين بأسانيد باطلة، وحجج واهية ناسبين إلى شريعة الله ما ليس فيها.. زاعمين أنها قاسية، وأنها لا تساير ما يسمونه بالتطور ومدنية القرن العشرين..
وبادئ ذي بدء أقول: إنه ليس من المستغرب أن نسمع هذه المفتريات في وقت شاع فيه الباطل، وذاع فيه قول الزور، وتغلغلت فيه المادية الفاجرة في كثير من مناحي الحياة.
ولكن فات هؤلاء المعترضين أن الحق وإن تأخر انتصاره لن يخبو ضياؤه، وأن لا بد له من الانتصار حتى وإن علا الباطل عليه وطال.
ومما لا جدال فيه ولا مراء أن الناظر لحجج هؤلاء المعترضين يكاد يلمس من الوهلة الأولى مدى مجافاة أسانيدهم للوقائع، ومخالفتهـا للعقل والمنطق العادي للأمور.
فغني عن البيان أن وظيفة كل قانون هي خدمة الجماعة التي يحكمها وسد حاجاتها، وصيانة أخلاق أفرادها ورعاية آدابها وتقاليدها، وحماية دينها ومعتقداتها.. ومن هنا اختلفت القوانين باختلاف الشعوب. فالقانون يجب أن يكون نابعا من الظروف الاجتماعية للدولة ومن عقائدها ومشاعرها وعاداتها وتقاليدها، إنه يجب أن يكون قطعة من ماضيها وحاضرها وإلا فقد الغاية المرجوة منه بل يكون وبالا عـلى الجمـاعة و أخلاق أفرادها.
ومما يؤسف له أن هذا هو ما تعاني منه الدول الإسلامية التي تحكمت فيها عقدة الاستيراد وهبطت بدينها إلى المستوى الذي حجب عنها حسناته، فلجأت إلى الدول الأجنبية واستعارت بعض قوانينها، فجاءت هذه القوانين مخالفة لعادات المسلمين وتقاليدهم ولا مكان فيها لعقيدتهم؛ بل جاءت مجافية كل المجافاة للإسلام متحدية للمسلمين تسخر من عقيدتهم وتمتهن مشاعرهم، وتعبث بحرماتهم فكانت الطامة الكبرى، وأصبحت الدول الإسلامية «بسبب تطبيق هذه القوانين الغربية» مجتمعات تشيع فيها الفاحشة ويتفشى فيها الفساد الذي يوشك أن يدمرها والانحلال الذي كاد يقضي عليها..
نعم.. كل هذا بفعل هذه القوانين الأجنبية التي عطلت حدود الإسلام، وأحلت ما حرمه الله، وحرمت ما أحله الله، ونظرة خاطفة إلى بعض مواد هذه القوانين تكفي لمعرفة مدى انسلاخها من الأخلاق و انحرافها من الفضائل وتنكرها للبر والتراحم.
ولضيق المقام وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن القوانين الوضعية لا تعاقب على شرب الخمر ولا السكر لذاته وإنما تعاقب عليه في حالة السكر البين في الطرق العامة أو المحلات العامة؛ لأن المشرع تخوف من أن وجود السكير في هذه الأماكن قد يعرض المارين بالطرق أو المرتادين لهذه المحلات لأذاه أو اعتدائه، ورغم هذا التخوف من المشرع نجد أن الحماية التي أراد أن يسبغها على هؤلاء أضعف من أنفاس المحتضر؛ إذ جعل عقوبة هذه المخالفة الغرامة التي لا تزيد على جنيه أو الحبس مدة لا تزيد على أسبوع .. وبكل أسف ومرارة جرى القضاء في الغالب الأعم من قضائه على تطبيق الغرامة دون الحبس.
ولكن الشريعة الغراء تعاقب على شرب الخمر في جميع الأحوال؛ لأنها تعتبره رذيلة مضرة بالصحة، مفسدة للأخلاق، متلفة للمال.. أنها تجرّمه؛ لأنها تريد بناء الإنسان النقي الضمير الحسن الخلق المكتمل الصفات والفضائل لكي ينشر الفضل ولكي يسمو بنفسه وبالحياة والأحياء المحيطين به إلى درجة الكمال.
مرة ثانية على سبيل المثال أيضا نجد القانون الوضعي يحل الربا ويسبغ الحماية اللازمة عليه في حدود قيمة الفائدة المحددة قانونا.
ونسي المشرع أن المدين لم يستدن إلا لضرورة من ضرورات العيش، ونسي أن هذه الفائدة ترهق المدين وتزيده إعسارًا على إعسار.
ولكن شريعة الإسلام تحرم الربا، فيقول الله عز وجل: ﴿وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ. .﴾
ثم يضع في الاعتبار المدين الذي أعجزته ضآلة الدخل عن السداد، فيعاني من أجل ذلك الدين هم الليل وذل النهار، فيقول وهو أحكم الحاكمين ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾.
وعلى سبيل المثال أيضا بينما نجد القانون الوضعي لا يحرم الميسر إلا إذا كان في محل عام مهيأ لدخول الناس فيه، نجد الإسلام يحرم الميسر في كل آن ومكان؛ لأنه يرى فيه ضياعا للوقت، وإتلافا للمـال.. وكم شاهدنا وطالعتنا الصحف بأخبار أسر هدمت وأطفال شردت وكانت وبالا على المجتمع من جراء انغماس ذويهم في السهر ولعب القمار. ثم تأمل معالجة القوانين الوضعية لجريمة الزنا وكيف أباحتها ما دام ذلك برضاء الأنثى «ما لم تقل سنها عن ثماني عشرة سنة» وإذا كانت أقل من هذه السن جعلت عقوبة الزنا الحبس وتركت تقدير مداه للقاضي الذي قد ينزل به إلى أسبوع. وهكذا نجد القانون خرج على الدين والأخلاق والتقاليد وجعل الإباحية هي القاعدة والأخلاق الفاضلة الكريمة هي الاستثناء..
أين هذا من عقوبة الله التي جعلها الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن..؟
إن الله أراد حماية الأعراض من أن يعبث بها أو تمتد إليها الأيدي الملوثة الآثمة حرصا على الحرمات وصونا للأنساب من العبث والفساد.
هذا قليل من كثير أحلت به القوانين الوضعية ما حرمه الله وآذت به شعور المسلمين وأشاعت الفساد بينهم وعطلت الحدود التي جاء بها دینهم.
ولقد زعم بعض الأشخاص أن هذه الحدود لا تساير ما يسمونه بالمدنية والتطور، مدعين أنها قاسية وكان أدنى للحق وأقرب للنفع العام والأوفق والأرشد في علاج جرائم السرقة، وإحراق المال العام واختلاسه أن يسارع المشرع بتطبيق حدود الشريعة الإسلامية حتى لا يكون مال الدولة مستباحا لكل موظف خرب الذمة طامع فيه، ولكي لا يكون أفرادها غرضا لكل هاجم وموضعا لكل معتد أثيم.
إني أقول لهؤلاء المغترين والمدعين بأن شريعة الإسلام لا تلائم المدنية ولا تساير التطور: إن الإسلام هو الذي انتشل الناس من ظلمات الجهل إلى النور وهو الذي قاد العالم إلى المدنية التي يزعمون أنه لا يسايرها. وعلى هؤلاء الذين تتحكم فيهم عقدة الاستيراد أن يمعنوا النظر في أقوال المستشرق الفرنسي رينان «إن المدنية الأوروبية الحالية هي وليدة المدنية الإسلامية القديمة في حقائقها العليا».
ثم هذا هو العلامة الكاثوليكي شبرل عميد كلية الحقوق بجامعة فيينها يقول: «إن محمدا الذي تفخر به البشرية بانتسابه إليها استطاع أن يأتي من قرون بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلـى مثله بعد ألفي عام».
وهذا مستشرق أمریکي آخر هوكنج أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد يقول: «.. إن في الشريعة الإسلامية كل المبادىء اللازمة للنهوض بالحياة».
هذا رد المستشرقين أنفسهم أضعه أمام القائلين بعدم مسايرة الشريعة للمدنية الحديثة..
بقيت الفرية الخبيثة التي ينسبونها للإسلام وهو منها براء.. فرية القسوة في قطع يد السارق..
إن الإسلام وضع الحدود لتقويم الخاطيء وهداية المنحرف ووقاية المجتمع من شر الفاسد..
ترى هل الرحمة في نظر هؤلاء الضالين المضلين في الحنان الذي لا عقل له..؟ هل هي الشفقة التي تتنكر للعدل والنظام..؟!
إن الإسلام لا يقيم الحدود إلا بعد أن لا يكون هناك عذر للمسلم في ارتکاب جرمه ولا شبهة في وقوعه منه. فالرسول ﷺ يقول: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين بالشبهات، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله؛ فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة».
إن الإسلام يقطع يد السارق الذي لا يسرق اضطرارا ليطعم نفسه أو أهله فإن ساقته ضرورات العيش إلى جرمه فلا عقوبة عليه بل قد توقع العقوبة على من دفعه إلى السرقة كما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع غلمان ابن أبي بلتعـة الذين سرقوا ناقة فقد أطلق سراحهم وغرم سيدهم ثمنها ضعفين لأنه أجاعهم فاضطروا إلى السرقة.
ولما عمت المجاعة في عام الرمادة لم يطبق حد السرقة؛ لأن شروطه لم تتوافر ويخطئ بعض المسلمين، فيقولون: إن عمر -رضي الله عنه- عطل حد السرقة وحاشى لله أن يقوم عمر بتعطيل حدود الله وهو الحريص على إرضاء ربه وشدته في الدين وحرصه عليه لا يخفى على أحد.
ولكن عمر لم يطبق حد السرقة؛ لأن شروطه لم تكن متوافرة لأن السارق كان يسرق وقتئذ اضطرارًا.
ثم إن هذه القسوة التي يرمون بها الشريعة الإسلامية لا تدل إلا على جهل القائلين بها بدين الإسلام. أن الإسلام جعل الرحمة أساس الإسلام و الإيمان وعلامة من علاماته؛ بل هي صفة من صفات المؤمنين، كما وصفهم القرآن الكريم.
والرحمة في الإسلام لا تقتصر على الإنسان؛ بل تشمل الإنسان و الحيوان فيقول الله عز وجل «..ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة».
ويقول الرسول ﷺ: «في كل كبد رطبة أجر» ويقول: «والذي نفسي بيده لا يضع الله الرحمة إلا على رحيم».
هذه هي شريعة الرحمة.. شريعة الإسلام الشريعة التي جمعت بين العقيدة والنظام.. شريعة جمعت بين الدين والدنيـا في توجيهاتها وتشريعاتها وأمرنا الله أن نطبقها في نظامنا الاجتماعي والقانوني والخلقي. فيقول «وأن احكم بينهم بما أنزل اللـه» ويقول: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ﴾ ووصف من لا يحكم بكتاب الله كافرا وظالما وفاسقا ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾.. ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾.. ﴿.. وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾.
وتضمن القرآن الكريم أن من يختار حكما غير كتاب الله فهو ضال لا يعرف الإيمان سبيلا إلى قلبه ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا﴾.
أقول لهؤلاء المعترضين: إن لدينا من التشريعات الإسلامية ما نعطيه للآخرين.
ولسنا بحاجة إلى استيراد قوانين أجنبية تخالف ديننا وتنحدر بأخلاقنا.
یا قوم! تدبروا قول الله عز وجل ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ﴾ يا قوم تدبروا قول نبيكم الكريم «كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم.. هو الفصل ليس بالهزل.. من تركه من جبار قصمه الله.. ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.. وهو الصراط المستقيم.. هو الذي لا تزيع به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة.. من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقیم».
یا قوم أفيقوا من نومكم.. وسارعوا إلى تطبيق شريعة ربكم.. فهي المنقذ ولا منقذ لنا سواها. يا قوم إن الله هو خالقكم وهو الأعلم بعلاجنا، وشريعته هي الأقدر على حل مشاكلنا وهي الطريق الوحيد لسيادتنا.
مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47