دراسات إسلامية

بقلم:  الأستاذ / محمد الدسوقي(*)

         1- بعث الله محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم، فقد كانت البشرية قبيل بعثته في حاجة ماسة إلى من ينتشلها من وهدتها التي تردت فيها، وهدة الشرك والانحلال والإثم والطغيان، ويرسم لها سبيل الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.

         وفي مكة صدع محمد بأمر ربه ودعا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام فلم يجـد من المشركين أذنا صاغية، أو قلوبا واعية، وأخذوا يسخرون منه ويستهزئون به، ولكن الرسول الكريم مضى يبلغ رسالة ربه غير عابئ، بما يفعله قومه من جهالة وضلالة. وهدى الله من هدى إلى الإيمان، فكانت قريش تـسوم هؤلاء الصابئين في نظرها صنوفا متباينة من العذاب والاضطهاد، وتمر الأيام والمسلمون يزدادون عددا، وقادة الكفر يزدادون طيشا وغيًّا وحمقا.

         ورأت الجاهلية أن الإسلام ينتشر على الرغم من محاولاتها الجمة لوقف ذيوعه، واضطهاد أتباعه، وأيقنت أن مواريثها البالية وأعرافها الفاسدة تتعرض لخطر داهم لا قبل لها به إذا لم تعمل عملا حاسما تقضي به على تلك الدعوة التي سفهت أحلامها وعابت آلهتها، فانطلقت مسعورة تؤلب القبائل وتدبر أمرها بليل.

         لقد أرادت أن تقتل الرسول بطريقة تجعل بني هاشم غير قادرين على القصاص له، ولكن الله العلي القدير حفظ نبيه من مكر الجاهلية، ﴿وَمَكَرُواْ ‌وَمَكَرَ ‌ٱللَّهُۖ ‌وَٱللَّهُ ‌خَيۡرُ ‌ٱلۡمَٰكِرِينَ﴾ فقد أذن الله لنبيه وللمؤمنين بالهجرة إلى يثرب، تلك المدينة التي وصل إليها الإسلام قبل أن يدخلها رسول الإسلام.

         2- وترك المسلمون ديارهم وأموالهم وهاجروا من مكة إلى يثرب فداء لعقيدتهم وإيمانهم، وما كانت تلك الهجرة فرارًا وهربًا بقدر ما كانت أسلوبا واقعيًّا في نشر الإسلام، وسبيلا عمليا لإعداد العدة والقوة حتى لا تستمر الجاهلية بجبروتها وطغيانها تضع الأشواك والعقبات في طريق دعوة التوحيد والوحدة والأخوة والمساواة والحرية..

         وفي يثرب وجد المهاجرون الصابرون إخوة لهم آووهم ونصروهم وقدموا إليهم المال والمتاع في إيثار لم يعرف التاريخ له مثيلا، كان المسلم الأنصاري يقدم إلى أخيه المسلم المهاجر نصف ماله أيا كان نوعه، وكان يطلق إحدى زوجاته ليتزوجها المسلم المهاجر الذي لا زوج له، وبهذه الروح السامية، روح الإيمان والحب والفداء والإيثار تكون المجتمع الإسلامي في المدينة، وعلى أيدي هؤلاء المؤمنين المجاهدين انتشر الإسلام، وبدأت البشرية مرحلة جديدة مشرقة لم تعرف لها نظيرًا في تاريخها الطويل..

         3- وفي ذكرى الهجرة، ذلك الحدث الرائع في تاريخ الإسلام والمسلمين يجدر بنا أن نذكر هؤلاء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأن نستلهم من كفاحهم وجهادهم ما ينير لنا طريق النضال في معركة النصر أو الشهادة.

         والقرآن الكريم – كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – قد تحدث عن المهاجرين والأنصار، وليس هناك كتاب يبلغ مبلغ القرآن في الإشادة بهؤلاء الأبطال، فقد سجل لهم قوة الإيمان وثبات اليقين وروعة الفداء، وصدق الجهاد، وما أعدلهم بسبب كل ذلك من خير جزيل وثواب عظيم.

         حديث المهاجرين والأنصار في كتاب الله حديث مستفيض لا تفي مقالة واحدة به، ولهذا أقصر حديثي في هذه الكلمة على تلك الآيات التي ورد فيها ذكر المهاجرين والأنصار بصريح اللفظ، وأيضا الآيات التي تحدثت عنهم باسم الموصول وأعقبته بما يفسره من الهجرة أو النصرة.

         على أني لن أسلك في هذا الحديث دراسة الآيات حسب ترتيبها في المصحف ولكني سأتناول النقاط التالية بالعرض في ضوء الآيات القرآنية الكريمة:

         أولا: أسباب الهجرة.

         ثانيا: بين المهاجرين والأنصار.

         ثالثا: منزلة المهاجرين والأنصار.

         4- من المعلوم أن المسلمين هاجروا من مكة إلى المدينة لحماية عقيدتهم وأنفسهم من صلف الجاهلية وطغيانها فقد تعرضوا في مكة لألوان العذاب حتى أمست بالنسبة لهم بلد الهوان والحرمان، فكان عليهم أن يدعوا ذلك البلد بعد أن ازور عنهم وترفع عليهم، وصير حياتهم فيه شقاء متواصلا، واضطهادًا قاسيًا.

         لقد أجبر المسلمون على الهجرة، أجبرهم الظلم والإثم والكفران والطغيان فهم يحبون مكة، مسقط رؤوسهم ومهد طفولتهم، ولكن الله ورسوله أحب إليهم مما عداهما ومن ثم جاهدوا وصبروا على ما أوذوا وهاجروا وقاتلوا، أولئك هم المؤمنون حقا.

         وطوعًا لمنهج القرآن الكريم في إيثار الإجمال والإيجاز في أغلب الشـأن أشارت بعض الآيات الكريمة إلى أسباب الهجرة إشارات تعتمد على اللفظة الموحية والكلمة الجامعة، فقد جاء في الآية 195 من سورة آل عمران ﴿.. فَٱلَّذِينَ ‌هَاجَرُواْ ‌وَأُخۡرِجُواْ ‌مِن ‌دِيَٰرِهِمۡ…﴾ وبناء الفعل للمجهول في (أخرجوا) يدل على أن المسلمين أجبروا على الخروج من ديارهم بسبب ما أصابهم من أذى على أيدي المشركين.

         وورد هذا الفعل بصيغة المبني للمجهول في الآية 8 في سورة الحشر للدلالة على نفس المعنى ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ‌ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ‌ٱلَّذِينَ ‌أُخۡرِجُواْ ‌مِن ‌دِيَٰرِهِمۡ ..﴾.

         وفي سورة النحل جاء في الآية 41 ﴿وَٱلَّذِينَ ‌هَاجَرُواْ ‌فِي ‌ٱللَّهِ ‌مِنۢ ‌بَعۡدِ ‌مَا ‌ظُلِمُواْ…﴾ فالمهاجرون ظلموا قبل هجرتهم، ظلمهم المشركون ظلما متعدد الدرجات متنوع الأشكال، غير أن الآية لم تفصل أنواع الظلم وكيف وقع على هؤلاء المهاجرين الصابرين، وهي بهذا أشمل في الدلالة وأبلغ في المعنى، وأوقع في النفس، وأعمق في الحس.

         وأما الآية 110 في سورة النحل أيضا ﴿ثُمَّ ‌إِنَّ ‌رَبَّكَ ‌لِلَّذِينَ ‌هَاجَرُواْ ‌مِنۢ ‌بَعۡدِ ‌مَا ‌فُتِنُواْ..﴾ فتتحدث عن فتنة بعض المهاجرين قبل هجرتهـم، وللمفسرين في تفسير معنى الفتنة الواردة في الآية آراء مختلفة(1)، بعضها يذهب إلى أنها العذاب بقصد الردة، وبعضها الآخر يذهب إلى أن المعنى أن بعض المسلمين أعطى الكفار ما أرادوا بلسانه مكرها فكأنهم بذلك قد فتنوا أنفسهم..

         ومهما تباينت الآراء في تفسير معنى الفتنة فهي تدور في ذلك الاضطهـاد والأذى الذي صبه المشركون على المؤمنين.

         5- وهؤلاء المهاجرون المطاردون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ظلما وعدوانا، استقبلهم الأنصار بالحفاوة والإكبار ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين، فقد تميز بالحب الرائـع، والبذل السخي، ولكن المهاجرين مع هذا كانوا في حاجة إلى تشريع يحوطهم بمزيد من الرعاية والحماية والتكافل والتناصر، وكان المجتمع الإسلامي عقب الهجرة يمر بفترة حرجة في حياته، وأعداؤه في داخل المدينة وخارجها يتربصون به ويتحينون الفرصة للانقضاض عليه، فكانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على المواساة والتوارث بعد الموت إرثا مقدما على ذوي الأرحام ﴿إِنَّ ‌ٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌وَهَاجَرُواْ ‌وَجَٰهَدُواْ ‌بِأَمۡوَٰلِهِمۡ ‌وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ﴾ (الأنفال:٧٢).

         إن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كانت صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد، لقد قام هذا الإخاء مقام أخوة الدم فكان يشمل التوارث و الالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها.

         وكان هذا النظام ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف التي قامت فيها.

         وتذكر الآية أن ولاية المؤاخاة لا تشمل الذين آمنوا ولم يهاجروا وهم قادرون على الهجرة، فهؤلاء لا تجب على المسلمين ولايتهم، كما كان الشأن مع جماعة من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا استمسـاكا بمصالح أو قرابات مع المشركين، غير أن هؤلاء وأمثالهم يجب على المسلمين نصرهم إن استنصروهم في الدين على شرط ألا يخل المسلمون في هذه النصرة بعهد مضروب بينهم وبين قوم آخرين. وهي قمة في الاحتفاظ بالعهود تتطلع إليها البشرية ولا تنالها حتى الآن.

         6- ولما كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قد قامت مقام أخوة الدم بسبب الظروف الاستثنائية التي عاش في ظلها المجتمع الإسلامي بعد الهجرة مباشرة، فإن المسلمين بعد غزوة بدر الكبرى استقرت أحوالهم في المدينة شيئا ما، استتب الأمن للدولة، ووجدت أسباب معقولة للارتزاق وتوفر قدر من الكفاية للجميع، ولهذا أصبحت الظروف التي حتمت نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة عن صلة الدم والنسب غير قائمة فأبطل القرآن الكريم نظام المؤاخاة من هذه الناحية – ولا سيما ناحية التوارث – فحسب مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر والتعاون والتناصر ﴿ٱلنَّبِيُّ ‌أَوۡلَىٰ ‌بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ ‌مِنۡ ‌أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا﴾ (الأحزاب:6).

         والآية في مستهلها تقرر الولاية العامة للنبي ﷺ، وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم، بل قرابة النفس فهو أرحم بهم من أنفسهم فعليهم أن يحبوه ويطيعوه، وتقرر الآية كذلك الأمومة الشعورية لأزواج النبي ﷺ فيجب توقيرهن ويحرم التزوج بهن بعده.

         وبعد أن ألغت الآية نظام المؤاخاة من ناحية التوارث والتكافل في الديات، وردت هذا إلى قرابة الدم والنسب تشير إلى أن إلغاء المؤاخاة من تلك الناحيـة لا يعني بتر صلات المودة بين الأولياء من حيث التكافل المالي، فباب الهبة أو الوصية مفتوح لمن أراد أن يقدم خيرًا وبرًّا ومعروفًا.

         والآية في ختامها تقرر أن التوارث بالأرحام هو الأصـل المقرر في الأزل ﴿كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا﴾ وهنا تقر القلوب المؤمنة وتطمئن.

         7- والمهاجرون الفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أراد الرسول الكريم أن يقسم عليهم وحدهم دون الأنصار أموال بني النضير التي غنمها الرسول بغير حرب، وكان يريد من وراء ذلك أن يعوض المهاجرين عن بعض ما تركوه في مكة، وأن يحدث نوعا من التقارب المالي بين المسلمين جميعا في المدينة، غير أنه عليه السلام لم يشأ أن يفعل ذلك إلا بعد أن يجمع الأنصار ويعرض عليهم ما يراه.

         دعا الرسول الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من البذل والإيواء والنصرة ثم قال: «إن احببتم قسمت ما أفاء الله على من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم».

         وهنا يقول سعد بن عبادة: بل تقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا کما كانوا ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال ﷺ: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار.

         موقف رائع نبيل، وصورة حية مشرقة من صور الإيمان والحب والإيثار، وصورة تؤكد أن رابطة العقيدة أقوى وأغلب من رابطة الدم والنسب والموطن والجنس. وقد سجل القرآن الكريم هذا الموقف في سورة الحشر في الآيتين الثامنة والتاسعة بعد أن أورد قبلهما قصة بني النضير وما يجب فيما يفيئه الله على المسلمين من أموال بغير قتال.

         ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ‌ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ‌ٱلَّذِينَ ‌أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ ٨ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾.

         لقد أثنى الله على المهاجرين والأنصار في هاتين الآيتين، مدح المهاجرين بصدق الإيمان والجهاد، فقد خرجوا من ديارهم وأموالهم يرجـون فضل الله ورضوانه، وينصرون الله ورسوله، ومدح الأنصار الذين تبوؤوا الدار، أي استوطنوا المدينة قبل المهاجرين، بإخلاص الإيمان، وحب الذين هاجروا إليهم كما مدحهم بالإيثار في أسمى صوره، لأنه إيثار عن حاجة.

         وتحذر الآية في ختامها من الشح، لأنه المعوق عن كل خير وبر، ومن خلص نفسه من إسار الشح، وبذل في سخاء كريم من ماله وعواطفه وجهده، فقد سلك طريق الفلاح وكان من الفائزين ﴿وَمَن ‌يُوقَ ‌شُحَّ ‌نَفۡسِهِۦ ‌فَأُوْلَـٰٓئِكَ ‌هُمُ ‌ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾.

         8- وأما عن منزلة المهاجرين والأنصار فقد اتضح من كل ما سبق أن المهاجرين بهجرتهم قد صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فهم لم يهاجروا رهبة من الكفر ولا رغبة في الدنيا، ولكنهم هاجروا يرجون رحمة الله، ويبتغون فضلا منه ورضوانا وينصرون الله ورسوله. ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ ‌هَاجَرُواْ ‌وَجَٰهَدُواْ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ يَرۡجُونَ رَحۡمَتَ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ (البقرة:۲۱۸).

         وأما الأنصار فقد آووا ونصروا وضربوا أروع الأمثلة في السخاء والإعطاء والحب والإيثار.

         إن المهاجرين والأنصار هم حملة الإسلام الأول، خاضوا من أجله معـارك كثيرة، وتعرضوا لأخطار جسيمة، فما وهنوا وما استكانوا، لقد اضطهدوا وقاتلوا وقتلوا، وأنفقوا وبذلوا في سبيل الله، فحقق الله لهم عهده ووعده، ونصرهم على أعدائهم، ورضي عنهم، وغفر لهم، وأعد لهم جزاء عظيما، ونعيما مقيما؛ لأنهم المؤمنون حقًّا وصدقًا ﴿وَٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌وَهَاجَرُواْ ‌وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ﴾ (الأنفال:٧٤).

         ﴿‌وَٱلسَّـٰبِقُونَ ‌ٱلۡأَوَّلُونَ ‌مِنَ ‌ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ‌وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾ (التوبة:100).

         9- ولهذه المنزلة الجليلة للمهاجرين والأنصار استحقوا فضل الله في التجاوز من هفواتهم وتوفيقهم إلى اتباع طريق الرحمة والمغفرة، ففي غزوة تبوك – وهي آخر غزوة غزاها رسول الله ﷺ -يقول القرآن الكريم عن بعض المهاجرين والأنصار ﴿لَّقَد ‌تَّابَ ‌ٱللَّهُ ‌عَلَى ‌ٱلنَّبِيِّ ‌وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ ‌وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ (التوبة:117).

         وسميت غزوة تبوك بالعسرة؛ لأن الرسول -فيما يروى – ندب الناس إلى الجهاد في حر شديد وفي عام جدب(2)، وكان الرسول إذا أراد الخروج لغزوة لم يبينها للناس، إلا في تبوك، لبعد المسافة، ونفقة المال وقوة العدو. وفي هذه الغزوة أنفق بعض المسلمين لتجهيز الجيش، وحاول المنافقون تثبيط الناس عن الغزو، فباء بالفشل؛ لأن الرسـول أخذهم بلا هوادة، ورد إليهم کیدهم في نحورهم.

         ويبدو من الآية أن بعض المهاجرين والأنصار هموا(3) بالرجوع، أو مالوا عن اللحاق في الجهاد ولكن الله تدارك قلوب هؤلاء فلم تزغ. إنه بهم رؤوف رحيم، وتلك سنة الله مع أوليائه إذا أشرفوا على الهلاك والبوار، أمطر عليهم سحائب جوده وفضله فلم يضلوا طريق الخير وسبيل الفلاح.

         وفي قصة الإفك التي ذكرها القرآن في سورة النور وردت هذه الآية ﴿وَلَا يَأۡتَلِ أُوْلُواْ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤۡتُوٓاْ أُوْلِي ٱلۡقُرۡبَىٰ ‌وَٱلۡمَسَٰكِينَ ‌وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌ٱللَّهِۖ وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾ (النور:٢2) والآية تتحدث عن موقف لأبي بكر رضي الله عنه مع مهاجر فقير يمت إليه بصلة القرابة هو مسطح بن أثاثة وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما كانت حادثة الإفك اشترك مسطح في إذاعة تلك الفرية المنكرة التي بلبلت أفکار المسلمين وشغلتهم نحو شهر، وحين نزلت آيات الله تعلن طهارة السيدة عائشة وبراءتها مما نسبه المنافقون إليها أقسم أبو بكر ألا ينفق على مسطح، فنزلت تلك الآية تدعو إلى الصفح والعفو مع أن الجريمة شنيعة منكرة، ولكن المهاجرين بما قدموا أهل للعفو والصفح.

         وأعاد أبو بكر رضي الله عنه بعد نزول الآية النفقة إلى مسطح ويروى أنه قال. والله لا أنزعها عنه أبدا، والله إني أحب أن يغفر الله لي(4).

         10- وبعد فإن مما يستنبه النظر في حـديث القرآن عن المهاجرين والأنصار أن المهاجرين أفردوا بالذكر في بعض الآيات(5)، على حين ورد ذكر الأنصار مع المهاجرين دون أن يفردوا بالذكر في آية واحدة.

         ومع التسليم بأن المهاجرين أسبق إيمانا وجهادا فإن المفاضلة المسرفة بين المهاجرين والأنصار لا مسوغ لها ويكفي أن الله وصفهم جميعا بأنهم المؤمنون حقًا. وقال عنهم رسول الله ﷺ «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».

         رضي الله عن صحابة رسول الله المهاجرين والأنصار، ورزقنا التأسي بهم في الإيمان والجهاد والصبر والفداء حتى نكون أهـلا لنصر الله الذي كتبه لعبـاده المؤمنين المخلصين، وصدق الله العظيم «وكان حقا علينا نصر للؤمنين».

*  *  *

الهوامش:

(1)    انظر القرطبي ج ۱۰ ص ۱۸۰، ۱۹۲، والآلوسي ج4 ص ٤4٨ ط. بولاق.

(2)    الدر في اختصار المغازي والسير لابن البر ص 253 ت د. شوقي ضيف.

(3)    القرطبي ج 8 ص ۲۸۰.

(4)    نهاية الأرب ج 16 ص 414. (5)          وهذه الآيات عدا ما أثبته كاملا هي: الآية 195 آل عمران، 75 الأنفال، 20 التوبة،41، 110 النحل، 58 الحج. وتثني هذه الآيات في مجموعها على المهاجرين وتذكر فضلهم وما أعد لهم من خير جزيل في الدنيا والآخرة.


(*)      المحرر الأول بمجمع اللغة العربية.

مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47

Related Posts