دراسات إسلامية

الشيخ/علي عبد المنعم عبد الحميد(*)

         1- للإنسان المكانة الأولى في الوجود، من أجله خلق الله كل شيء، وله سخر ما في السماوات وما في الأرض، ومنحه ما يوصله إلى اكتناه أسرار المخلوقات، والوقوف على دقائق خفاياها، وإيضاح مبهماتها، يعمل فكره في المحسنات، ويعكف مجيلا عقله فيما يرى وما يبصر، ولا يقف عند حد الظواهر التي تناجيه من قريب أو من بعيد، وإنما يحاول رفع الغطاء والنفوذ إلى ما وراء ما يحيط به، باحثا عن الحقيقة، آملا في واحة يلقى عندها عصا السير، بعد أن يعييه الجهد وينال منه الكد والوصب كل منال، وقد يصل إلى ما صبت إليه نفسه، فيطيب عيشا، ويقر عينا، وقد يقضي نحبه دون هدفه، ويجيء من بعده من يحاول أن يتم ما بدأه، ويظل ركب البشرية متلاحقا في متاهات الحياة، يستقيم له الدرب مرة، ويلتوي به أخرى، تطلع عليه شمس وتغيب، ويجنه ليل يقشعه فجر، وإذا سئل إلى أين؟ أجاب: ننشد الراحة ونبحث عن المثالية المسعدة، حيث لا آلام ولا شكوى، ولا تبرم ولا ضيق، ولا عدوان ولا معتدين، حيث لا بطنة مفزعة، ولا خواء قاتل.

         2- ونعود فنتساءل: هل وقعت الإنسانية على الخبير الذي يحيل بؤسها نعيما، ويصيِّر شقاءها سعادة؟. والجواب: قلب طرفك شرقا وغربا، وارجع البصر وانظر على ماذا يقع. فلا تجد إلا معذبا للون لا يد له فيه، ومستعبدا بغير ما اكتسب، ومقتولا دون جناية في حرب لم يسعرها، ولم يشعل نارها، وإنما يصطليها كارها، ويخوض غمارها مرغما، حرب تأتي على أخضره ويابسه، وإذا عن له أن يقول متى تنتهي؟ تلاشى صوته في ضجيج أصوات المبيدات، دون أن يحظى بجواب أو يقع على خبر. فهل من نطاسي بارع يبتر الداء ويقضي على العلة؟ وبعد أن تثوب الإنسانية العاقلة إلى رشدها، وتتسامى قليلا عن الماديات التي ظاهرها الرحمة وفي باطنها يكمن الهلاك، عندئذ تجد الجواب سهلا هينا في متناول الآخذ، تجده قويا في رفق، واضحا في غير خفاء، تجده في قواعد الإسلام، في رسالة السماء، في هداية الرحمن الرحيم في تدبير العلي الحكيم، في الطريق الذي خططه من يعلم السر وأخفى… هنا الأمل المنشود، والغاية المرجوة، وليس هذا قولا يلقى على عواهنه، أو يقال تعلة، وانما معه برهانه وفي طياته حكمته، هنا حين تفهم التوجيهات الإسلامية، ويعي الناس ما تهدف إليه الدعوة الإلهية، هنا السر الكامن في أركان الإسلام.

كلمة التوحيد:

         1- تترابط أركان الإسلام ترابطًا عجيبًا، ويأخذ بعضها برقاب بعض، لتسير بالإنسانية في طريق مستقيم يبدل خوفها أمنًا وجفاءها صلة، وظمأها وجوعها شبعا وريا، وبغضاءها محبة، وحقدها شعورا بالمودة والإخاء، فقد دعا رسول الله جميعا إلى توحيد الله وأفراده سبحانه بالعبادة، فلا يطأطئ من أسلم رأسه لغير بارئه، ولا تعنو جبهته إلا لخالقه، ورسول الله خاتم الأنبياء وصفوة الله من خلقه، دعا قومه إلى التوحيد مقتفيا بذلك آثار الرسل من قبله، فمن آمن به نبذ عبادة الحجارة، وأسقط الأصنام من حسابه، وقد كان آخرها ما فتته بيده الشريفة يوم الفتح، وبذلك انتهى عصر الأوثان من دنيا المسلمين إلى الأبد.

الصلاة:

         2- ولا بد أن تدوم الصلة ببارئ السماوات والأرض، وأن يلقى المسلم رحاله في رحابه حتى يقوى على مواجهة شدائد الحياة والتغلب عليها، ففرض الله عليه الصلاة، وكلفه أن يقيمها خمس مرات في اليوم والليلة، فأول ما يفعله بعد ليل طويل ونوم عميق هو صلاة الفجر يستقبل بها أضواء النهار، ويسعى بعدها بهدي الله ضاربًا في الأرض ماشيًا في مناكبها مبتغيًا من فضل الله، متعاونًا مع رفقائه وعشرائه في إسعاد مجتمعهم الذي في جوه يعيشون وعلى أرضه يدرجون، وبخيراته ينتفعون، فإذا أكدهم العمل ونال منهم الدأب عاجوا إلى ربهم يطلبون منه قوة على قوتهم وعونا على أعمالهم، واستقامة لطريقهم، ثم استراحوا فترة من النهار يقومون بعدها قانتين، ويعوجون إلى مسالك حياتهم يلتمسون ما عند الله من الرزق في تجارة يديرونها بينهم، وزراعة يرجون جناها، ويؤملون خيرها، وفي أعمال أخرى مما هيأهم الله لها، حتى إذا اقبل الليل وآذنت شمس النهار بالمغيب آبوا إلى ربهم يستقبلون بلقائه ليلهم الذي فيه يسكنون ومن وعثاء الجهد يستريحون، وقبل أن يأووا إلى فراشهم يتجهون إلى خالقهم ومن يمسك بأنفسهم ليرسلها إلى أجل مسمى إن كان لها عيش لا زال، أو يقبضها إليه إن حل ميعاد الرحيل إليه.

         وجعل الصلاة في جماعة أفضل منها في الانفراد بدرجات كثيرة ليتلاقى المسلمون ما أمكنهم التلاقي وليكونوا على علم بأحوال بعضهم، فيعطي السائل، ويطعم المحروم، ويكسي العاري، ويقضي لكل ذي حاجة حاجته ويعيش أبناء المنطقة الواحدة متعاونين متراحمين، حتى إذا كان يوم الجمعة ونودي للصلاة أجاب كل مسلم النداء وتوافدوا على الجامع الكبير من أطراف البلد فيصلون ثم يبحث بعضهم أحوال بعض في أخوة صادقة، ورعاية حقة، وإخلاص النية في العمل لخير الجميع.

الزكاة:

         3- ما دام المسلمون قد التأم جمعهم في الصلاة، وتداعوا إلى البر والتقوى، وجادت نفوس الواجدين بعطاء المحتاجين، فقد شرع الله لهم الزكاة حقا لمصارفها المذكورة في القرآن الكريم، ليشعر غنيهم بأن عليه واجبا في ماله لا يعطيه تفضلا ولا يجود به منة، وإنما هو ما ألزم به شرعا في مال الله الذي أتاه إياه وجعله مستخلفا فيه، حتى يجتث به الحقد والكراهية من المجتمع ويقيم الحب والتراضي مكانهما، فتعم السعادة، وتقتلع جذور الجريمة التي يبعثها الفقر وينميها البؤس وينمو المال المزكى ويزيد ﴿خُذۡ ‌مِنۡ ‌أَمۡوَٰلِهِمۡ ‌صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾.

         وهذا الركن من أركان الإسلام يكاد يكون معطلا، ولو أن المسلمين أقاموه ونفذوه ما وجد في بلاد الإسلام شاك ولا عانٍ ولا محروم، ولماتت المبادىء الهدامة في مهدها وقُضي على أكثر العلل الاجتماعية والأفكار الوافدة التي تعاني منها مجتمعاتنا والتي لا تنمو إلا في بيئة الفقر والحرمان، ومنع الغنى زكاة ماله يجني ثماره في الدنيا كراهية وحقدا من مواطنيه، وسيمثل له ثعبانا أقرع ينهشه يوم القيامة، وحبذا لو تدخلت الحكومات الإسلامية كلها في جمع الزكاة من الأغنياء المانعين وصرفتها في مصارفها الشرعية، وإذن لأقامت ركنا من أركان الإسلام يكاد يندثر، وفتحت بابا كريما يجد فيه المعوزون ما يسد حاجتهم في كرامة وعزة.

         ومما ورد عن رسول الله ﷺ من فضل الزكاة والصدقات عامة ما رواه البخاري عن عبد الرحمن ابن صخر قال: قال رسول الله ﷺ «لو كان لي مثل أحد ذهبا، لسرني أن لا يمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين». وقال عليه الصلاة والسلام في حديث متفق عليه «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا». وعن أسماء رضي الله عنها قالت قال رسول الله ﷺ «أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي(1) فيوعي الله عليك، ارضخي(2) ما استطعت» متفق عليه، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي ﷺ وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال «هم الأخسرون ورب الكعبة، فقلت: فداك أبي وأمي من هم؟ قال هم الأكثرون أموالا، إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ماهم» متفق عليه.

         وأعتقد اعتقادا جازما أنه لو زكى الأغنياء أموالهم، وبذل الواجدون للمحتاجين وأعطوا فضول ما يملكون كما أمر الله ورسوله لقضي على العوز والفقر قضاء مبرما، ولما وجد في ديار الإسلام من يستطيع رفع صوته بما يخالف الإسلام ولعمت المودة والرحمة والاستقرار والأمن والسلام، ويا ليت قومي يعلمون.

الصيام:

         4- وقد شرعه الله تبارك وتعالى لمعان عديدة ومقاصد كثيرة، والذي نقصد إليه هنا من فوائده ومراميه هو أن الزكاة والصدقات لازمة لزوما لا شك فيه يقدمها أصحاب الأموال إلى من ليس بيدهم مال، ولكنهم قد يبخلون؛ لأنهم لا يشعرون بحاجة غيرهم، فمن طعم وشرب لا يحس ألم الجائع الظامىء، كما أن المعافي لا يدرك قسوة المرض، فكان حبس المسلم الغني عن الطعام والشراب طوال أيام رمضان تمكينا لإحساس الجوع والظمأ أن يلج على الغني رغم كثرة ما تحت يده من طعام، ليدرك مدى حاجة الخاوي الذي لا يجد ما يسد رمقه ويمسك ذماءه، فتسخو نفسه وتجود يده بالعطاء مما أفاء الله عليه من الخيرات التي يملكها.

الحج:

         ومتى تجافى الناس عن عبادة الأوثان وصدقوا برسالة خير الأنام، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وصاموا رمضان إيمانا واحتسابا ابتغاء مرضاة الله ورضوانه، فقد سعدت بهم أوطانهم، وارتقت مجتمعاتهم، وسادت فيهم روح المحبة والتعاون، والتفاني في حب الله ورسوله، وتوطدت بينهم أركان العدل والمساواة.

         بعد ذلك تتهيأ نفوسهم وتتشوق إلى آفاق أخرى واسعة، تنتظم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فيرتحلون من أقاصي المعمورة وأدانيها، آمين البيت الحرام، تلكم هي رحلة السلام إلى أرض السلام، رحلة الحج المقدسة التي تتم بها أركان الإسلام.

حكمة الحج

         1- يرتحل الناس من بلد إلى بلد فتصح أجسامهم، وتنمو مداركهم، ويرون مالا يستطيعون رؤيته لو أقاموا حيث نشؤوا، واستقروا حيث ولدوا، ويتلاقى بعضهم ببعض فيتحقق ما أراد الله أن يتحقق ﴿قُلۡ ‌سِيرُواْ ‌فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ﴾، ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلنَّاسُ ‌إِنَّا ‌خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾ وفي لقاءاتهم يتدارسون أحوالهم المختلفة فتزوج سلعهم، ويتبادلون المنافع، فيعمهم الخير، ويرتفع مستواهم الأدبي والمادي.

         2- فقد شاء الله تبارك وتعالى أن تختلف أقاليم الأرض في المناخ، وتتباين فيما تثمر، فينتج هذا البلد الصناعي عديدًا من المصنوعات، ويخرج الآخر كنوزا خبيئة تحت ترابه لا توجد في غيره، ويغل ثالث الحبوب والأقوات، فضلا عن التقدم الحضاري في بعضها، والتخلف عن الركب في أماكن لم ينتشر فيها العلم ولا الوعي المفيد الدافع إلى الرقي، ومن انزوى في عقر داره، أو لبث مقيما حيث هو لا يتعدى حدود وطنه كيف يعلم علم الآخرين ومتى يساير المتحضرين؟ لذا كان لا بد من لقاء الناس من مختلف الأوطان، في أقطار الأرض، حتى تمتزج الحضارات، وتتقدم الإنسانية جمعاء في طريق واحد وسبيل مستقيم.

         3- والذين جمعهم الإسلام عقيدةً، ووحدهم منهاجًا، ووجههم في عباداتهم اليومية نحو بيت الله الحرام، هم أولى من في الوجود، بالتلاقي، والتعارف، والتقارب بالأجسام بعد التقارب بالأفكار والأرواح وبعد أن أزال الإسلام من بينهم كل اختلاف، حتى يتزودوا روحيا من مشاهد الأماكن المقدسة التي سار على ثراها سيد الخلق، ودوت في أرجائها كلمة الله أول ما نودي الرسول للتبليغ، ورفرفت في سمائها أجنحة الملائكة، وحمل الروح الأمين سائرا في دروبها رسالة الله يبلغها رسوله، ونهض من وديانها حملة الدعوة إلى الناس كافة، فبلغوا أهل المشارق والمغارب، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمكن لهم في الأرض فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور. ويشهدوا منافع لهم تجارية وعلمية وثقافية، فتقوى الروابط وتشتد الأواصر.

         4- فالحج سفارة بين المسلمين، وتجارة رابحة رائجة، وتعود على تحمل مشاق السفر وفراق الأهل والولد، وسعادة روحية ما بعدها سعادة، وتحصيل علوم وتبادل معارف، وتزود للدنيا والآخرة، وما جزاء الحج المبرور المبارك المقبول المؤدى بإخلاص نية وصدق عزيمة وسلامة طوية إلا الجنة، فقد ورد من أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «… والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهو أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد. كما أخرج الشيخان أن رسول الله ﷺ سئل «أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال ثم جهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال ثم حج مبرور».

والخلاصة:

         أن أركان الإسلام تضمن للبشرية نجاحا دنيويا في شتى المجالات حين تجمعهم على التعاون الصادق، والإخاء الكامل، والتعاطف الذي يحل فيه المسلم أخاه محل نفسه فيضعه حيث يضع نفسه، فيتأخر ليقدمه، ويجوع ليشبعه ويعرى ليكسوه، ويسهر الليالي كادحا ليريحه، يشاركه بؤس الحياة ونعيمها، ومخاوفها وأمنها وشقوتها وسعادتها في إخلاص خالص من الريب، بعيد عن الشكوك لا يخالطه هوى الأنفس، ولا تنفك عنه القلوب.

         إن أركان الإسلام تجمع البشرية في وحدة روحية عبوديتها خالصة لله، لتقف صفا قويا كالبنيان المرصوص أمام عدوها الشيطان، الذي يفرق الجمع ويشتت الشمل ويقضي على كل كمال، وليلتقي البشر عامة متى آمنوا بالله ورسوله حين يرجعون إلى ربهم آمنين مطمئنين، أحبابا على سرد متقابلين.

         فلنتــــــداعَ إلى الله، ولنسلك طريقه، ولنكن هداة بررة، نحمل الرسالة ونؤديها إلى الدنيا كافة، ولا نني، ولا نضعف، ولا نتقاعس، ولا نخاف عدونا، ما دمنا لا نريد إلا الخير للكافة، والهداية للعامة، والسلام للأوطان، والرحمة للعباد، والله الموفق لكل صواب وسداد، إنه نعم المولى ونعم النصير.

*  *  *

الهوامش:

  • الإيعاء حفظ الأمتعة بالوعاء، والمراد هنا لا تمنعي فضل الزاد عمن احتاج إليه.
  • ارضخي أي أعطي ولو شيئًا يسيرا.

(*)      المستشار الثقافي لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47

Related Posts