دراسات إسلامية

         إذا قلبت الكتاب الكريم ظهرا لبطن، وتتبعت آياته طردا وعكسا، ورجعت البصر كرتين بعد كرتين، متأملا متبصرا، فإنك لا تجد من بين الأمم كلها، قديمها وحديثها، إلا أمة واحدة شغلت جزءًا كبيرا من القرآن الكريم، لم تشغله أمة غيرها من الغابرين والحاضرين، وكذا لا تجد نبيا من أنبياء الله الكثيرين، شغل جزءًا كبيرًا من القرآن، مثل نبي هذه الأمة، فقد حظي من العناية بما لم يحظ به نبي غيره، وخصه الله بمزية لم يشاركه فيها سواه.

         ولعلك أدركت أن هذه الأمة هي أمة بني إسرائيل، وأن نبيها المراد هو كليم الله موسى عليه السلام. هذه الأمة تعرض القرآن لها من مبدأ تكوينها، وأخذ يقص علينا أحداثها، من أول يوم تكونت، إلى مبعث خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام.

نشأة موسىٰ:

         وكذلك شرح القرآن أحوال رسولها من يوم مولده، إلى وفاته في صحراء التيه، وكيف دبر له العليم الخبير المراضع، في بيت عدوه الذي اشتد فتكه ببني جنسه (بني إسرائيل)، يقتل أبناءهم، ويستحي نساءهم اقرأ قوله تعالى ﴿وَأَوۡحَيۡنَآ ‌إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ…﴾ آية (7) إلى آخر آية (13) من سورة القصص. وكيف فر موسى من مصر إلى مدين خائفًا يترقب، فزعًا من أن يناله فرعون بسوء، واقرأ في هذا قوله تعالى ﴿وَجَآءَ ‌رَجُلٞ ‌مِّنۡ ‌أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ يَسۡعَىٰ..﴾ (آيتي 20 و21) من سورة القصص.

         ثم بين كيف استأجره رجل مؤمن من آل مدين، على رعي غنمه عشر سنين، على أن يزوجه إحدى ابنتيه، واقرأ الآيات (23) إلى آخر (28) من سورة القصص.

         وبعد أن أتم عدة السنين العشر قفل راجعا إلى مسقط رأسه، يسوقه الحنين إلى عشيرته علّه يتنسم ريحها، ويطرب لأخبارها، إذا لم يستطع أن يلقاها في الخفاء وهو آمن، فازمع الرجوع إلى مصر.

         وكيف حاول معالجة قسوة البرد، وشاهد ظلمة صحراء سيناء، حين أوشك أن يضل الطريق، أو يهلك هو وأهله من زمهرير الجبال، وأخذ يتلمس الهادي إلى سواء السبيل(1)، ويتحسس جذوة نار يصطلي بها(2).

بعثته:

         ثم كيف فاجأته العناية الإلهية بالنعمة العظمى، والمنزلة الرفيعة، التي اختص بها سبحانه فله من خلقه الذين اصطفاهم، وأعدهم لها، تلك هي منزلة السفارة بين الله وخلقه، هذه المنزلة هي الوحيدة التي لا تنال بجد، ولا تعب، ولا بكثرة الضراعة، ولا مشقة العبادة، كما قال الله تعالى: ﴿ٱللَّهُ ‌أَعۡلَمُ ‌حَيۡثُ ‌يَجۡعَلُ ‌رِسَالَتَهُۥۗ﴾ آية 124 من سورة الأنعام، وكما قال المرحوم اللقائي في جوهرته:

         ولم تكن نبوة مكتسبه

ولو رقى في الخير أعلى درجة

كليم الله:

         ولم يكتف القرآن بهذا الإجمال؛ بل بين كيف كان وحي الله سبحانه لنبيه موسى نوعا خاصا به لم يشاركه في أحد من إخوانه الأنبياء، ذلك أنه كلمة مباشرة من وراء حجاب بدون واسطة من ملك، أو إيحاء يلقى في القلب أو رؤيا صادقة، كما فعل مع خليله إبراهيم عليه السلام حين أمره بذبح ولده إسماعيل، اقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا ‌كَانَ ‌لِبَشَرٍ ‌أَن ‌يُكَلِّمَهُ ‌ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا﴾ آية 51 من سورة الشورى، وقوله تعالى: ﴿يَٰمُوسَىٰٓ ‌إِنِّي ‌ٱصۡطَفَيۡتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي﴾ آية 144 من سورة الأعراف.

         وكذلك لم يحدثنا القرآن من معجزات كثيرة لنبي من الأنبياء، وكرر ذكرها في القرآن كما حدثنا عن معجزات رسول بني إسرائيل، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ ‌ءَاتَيۡنَا ‌مُوسَىٰ ‌تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ﴾ آية 101 من سورة الإسراء، وقال: ﴿وَلَقَدۡ ‌أَخَذۡنَآ ‌ءَالَ ‌فِرۡعَوۡنَ بِٱلسِّنِينَ(3) وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ﴾ آية 130 من سورة الأعراف، وقال: ﴿فَأَرۡسَلۡنَا ‌عَلَيۡهِمُ ‌ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ(4) وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ﴾ آية 133 من سورة الأعراف.

موسى يواجه فرعون:

         وأيضا نراه سبحانه لم يترك موسى يواجه فرعون وقومه أعزل من سلاح حجته، منتظرا أن يطلبوا منه دليل صدقه فيقدمه إليهم كما فعل سبحانه مع كل الرسل قبله، لم يفعل سبحانه ذلك مع موسى، بل سلحه ببرهان صدقه من أول لحظة أرسله فيها، فأراه ما يفعل حتى تصير عصاه حية تسعى، انظر قوله تعالى: ﴿‌وَأَنۡ ‌أَلۡقِ ‌عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنّٞ وَلَّىٰ مُدۡبِرٗا..﴾ آية 31 من سورة القصص.

موسى وهارون:

         ولم يكتف سبحانه بذلك بل قص علينا ما ظهر من خوف موسى عند تشريفه بهذه الرسالة، وكيف طمأنه سبحانه فقال: ﴿وَإِذۡ ‌نَادَىٰ ‌رَبُّكَ ‌مُوسَىٰٓ أَنِ ٱئۡتِ ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ١٠ قَوۡمَ فِرۡعَوۡنَۚ أَلَا يَتَّقُونَ ١١ قَالَ رَبِّ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ١٢ وَيَضِيقُ صَدۡرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرۡسِلۡ إِلَىٰ هَٰرُونَ ١٣ وَلَهُمۡ عَلَيَّ ذَنۢبٞ فَأَخَافُ أَن يَقۡتُلُونِ﴾ الآيات من 10 وما بعدها من سورة الشعراء.

         وأيضا لم يكتف سبحانه بذلك، بل قص علينا كيف علم موسى ما يقوله لفرعون لفظا، وكيفية، فقال: ﴿فَأۡتِيَا ‌فِرۡعَوۡنَ ‌فَقُولَآ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦ أَنۡ أَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيـلَ﴾ آيتي 16 و17 من سورة الشعراء، وقال: ﴿ٱذۡهَبۡ ‌أَنتَ ‌وَأَخُوكَ ‌بِـَٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكۡرِي ٤٢ ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٤٣ فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ﴾ آيات 42 و43 و44 من سورة طه، وقال: ﴿هَلۡ ‌أَتَىٰكَ ‌حَدِيثُ ‌مُوسَىٰٓ ١٥ إِذۡ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوًى ١٦ ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ١٧ فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ١٨ وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ﴾ آيات 15 و16 و17 و18 و19 من سورة النازعات.

         ثم تابعه القرآن من أول لحظة واجه فيها فرعون، وأقام حجة المعجزة المفحمة على صدقه، مفصلا كل ما دار بينهما من نقاش سلك فرعون فيه القسوة على موسى تارة، والاستهزاء به تارة أخرى، من ذلك قوله: ﴿قَالَ ‌فِرۡعَوۡنُ ‌وَمَا ‌رَبُّ ‌ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٣ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ٢٤ قَالَ لِمَنۡ حَوۡلَهُۥٓ أَلَا تَسۡتَمِعُونَ ٢٥ قَالَ رَبُّكُمۡ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٢٦ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيٓ أُرۡسِلَ إِلَيۡكُمۡ لَمَجۡنُونٞ ٢٧ قَالَ رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ ٢٨ قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذۡتَ إِلَٰهًا غَيۡرِي لَأَجۡعَلَنَّكَ مِنَ ٱلۡمَسۡجُونِينَ﴾ آيات 23 إلى 29 من سورة الشعراء.

         وقال: ﴿وَنَادَىٰ ‌فِرۡعَوۡنُ ‌فِي ‌قَوۡمِهِۦ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَيۡسَ لِي مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَٰرُ تَجۡرِي مِن تَحۡتِيٓۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ٥١ أَمۡ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٞ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ٥٢ فَلَوۡلَآ أُلۡقِيَ عَلَيۡهِ أَسۡوِرَةٞ مِّن ذَهَبٍ أَوۡ جَآءَ مَعَهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ مُقۡتَرِنِينَ ٥٣ فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ﴾ آيات من 51 إلى 54 من سورة الزخرف، وقال: ﴿‌وَقَالَ ‌فِرۡعَوۡنُ ‌ذَرُونِيٓ أَقۡتُلۡ مُوسَىٰ وَلۡيَدۡعُ رَبَّهُۥٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمۡ أَوۡ أَن يُظۡهِرَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡفَسَادَ﴾ آية 26 من سورة غافر.

         ثم بين القرآن بعد ذلك كيف لج فرعون في العناد والغرور حينما خشي أن يفلت من يده زمام الأمور، فطفق يجمع كبار قومه عارضا عليهم طريق التخلص من هذا الكتاب الساحر، كما زعم، وكيف أرسل في المدائن حاشرين يدعون له كبار السحرة في دولته، ثم رتب كيفية لقاء هؤلاء السحرة بموسى على مشهد من قومه أجمعين، اقرأ إن شئت من أول آية 56 إلى آخر 69 من سورة طه، ثم بين سبحانه كيف ركب فرعون متن التضليل والتمويه عندما هزت كيانه سطوة الدليل، وبطل سحر الساحرين، الذين آمنوا في الحال برب موسى وهارون، اقرأ من آية 70 إلى 73 من سورة طه.

         ركب فرعون متن التضليل، فتوارى تحت ستار التعمية والتمويه بعد تهديد السحرة بالقتل، فنادى مظهرا السخرية بهذا الإله الذي يزعمه موسى فقال: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ‌ٱلۡمَلَأُ ‌مَا ‌عَلِمۡتُ ‌لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ(5) عَلَى ٱلطِّينِ(6) فَٱجۡعَل لِّي صَرۡحٗا(7) لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣٨ وَٱسۡتَكۡبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ﴾ آيتي 38 و39 من سورة القصص.

ملاحظة هامة:

         يعلم كل من اطلع على جبروت فرعون هذا أنه كان صاحب صولة وقوة، وأنه سبق أن أثخن بني إسرائيل قبل مجيء موسى وبعده تقتيلا وتعذيبا، وأنه كان يملك من السلطان ما يمكنه من الفتك بموسى الذي يقف أمامه أعزل من كل سلاح معروف عند الناس، فما هو الذي غل يديه عن ذلك وألجم فمه عن الأمر بقتل موسى، وجعله يلجأ إلى المداورة والمحاورة الكلامية عله يستر بهما ضعفه، وحقيقة أمره أمام قومه.

فرعون يرهب موسى:

         نقول: السر في ذلك واضح جاءت الإشارة إليه في القرآن نفسه، ذلك هو أن فرعون أذعن من صميم قلبه أن موسى رسول الله حقا، وأن ما جاء به من المعجزة الكبرى يستحيل أن تكون من صنع البشر؛ لأنها ليست مما عهدوه من السحر الذي يعتمد على التعليم والتعلم ككل الصناعات التي يستعان بها على التمويه والتخييل مما كان معروفا عند فرعون، انظر قوله لسحرته عندما آمنوا بموسى: ﴿إِنَّهُۥ ‌لَكَبِيرُكُمُ ‌ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ﴾ آية 71 من سورة طه، وقول الله سبحانه: ﴿فَإِذَا ‌حِبَالُهُمۡ ‌وَعِصِيُّهُمۡ يُخَيَّلُ إِلَيۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ﴾ آية 66 من سورة طه.

         وأيضا كان فرعون يعلم أنه من المستحيل أن تدخل جميع تلك الأجسام الضخام من الحبال والعصي التي أعدها سحرته في حيز جسم صغير كعصا موسى مع بقائها على حجمها، اقرأ في كل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ‌ءَاتَيۡنَا ‌مُوسَىٰ ‌تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ﴾ إلى قوله ﴿فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا ١٠١ قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ آيتي 101، 102 من سورة الإسراء، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ‌جَآءَتۡهُمۡ ‌ءَايَٰتُنَا ‌مُبۡصِرَةٗ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ١٣ وَجَحَدُواْ(8) بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ﴾ آيتي 13 و 14 من سورة النمل.

         من كل هذا نعلم أن فرعون كان موقنا أنه لو حاول أن يمس موسى بسوء فإنه يهلك لساعته، كما حصل للجبابرة قبله من قوم عاد وثمود وغيرهم..

ليته فعل:

         ولا يظن أن خروجه هو وجنوده وراء موسى وبني إسرائيل كما سيأتي كان لقصد قتل موسى. كلا؛ بل كان لأمور أخرى منها منع بني إسرائيل من الخروج من سلطانه حتى يقضي عليهم خوف أن يكثروا ويستعينوا عليه بقوم آخرين، فينتزعوا منه ملكه. ومنها أنه أراد أن يسترد أموال المصريين التي استولى عليها بنو إسرائيل بطرقهم المعروفة، وترى ذلك واضحا في ضخامة أموال قارون الذي هو من قوم موسى كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ ‌قَٰرُونَ ‌كَانَ ‌مِن ‌قَوۡمِ ‌مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ(9) لَتَنُوٓأُ(10) بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ﴾ آية 76 من سورة القصص.

غرق فرعون:

         ثم تابع القرآن بعد ذلك الحديث عن موسى فأشار إلى فراره وقومه من فرعون على غفلة منه، ولم يدركهم فرعون إلا وسط البحر فاندفع خلفهم، وكان في ذلك هلاكه، فقال سبحانه في ذلك: ﴿‌وَلَقَدۡ ‌أَوۡحَيۡنَآ ‌إِلَىٰ ‌مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ(11) بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ ٧٧ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ بِجُنُودِهِۦ فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلۡيَمِّ مَا غَشِيَهُمۡ﴾ آيتي 77 و 78 من سورة طه، وقال في ذلك أيضا: ﴿وَأَوۡحَيۡنَآ ‌إِلَىٰ ‌مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِيٓ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ إلى أن قال: ﴿فَأَتۡبَعُوهُم ‌مُّشۡرِقِينَ(12)٦٠ فَلَمَّا تَرَـٰٓءَا ٱلۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ ٦١ قَالَ كَلَّآۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ ٦٢ فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ ٦٣ وَأَزۡلَفۡنَا(13) ثَمَّ(14) ٱلۡأٓخَرِينَ(15)٦٤ وَأَنجَيۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ ٦٥ ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ﴾ آيات من 60 إلى 66 من سورة الشعراء.

         وإلى هنا انتهى الحديث عن موسى وما حصل له مع فرعون وبقي ما حصل له مع قومه. وهو لا يقل غرابة عما حصل مع فرعون إن لم يكن أغرب كما ستعلمه بعد، ولا تعجب أيها القارئ الكريم من اختيارنا هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات، فإنا أردنا قطع ألسنة قوم يتشدقون بأنهم شعب الله المختار، وأنهم وحدهم هم أولياء الله وأحباؤه، ويوهمون بسطاء المسلمين بأن القرآن مليء بالتنويه بشأنهم، وتفضيلهم على العالمين، وقد يخفى على كثير ممن يقع تحت تضليلهم أن الله سبحانه لم يغدق عليهم تلك النعم حبا فيهم بل ليزدادوا طغيانا وكفرا فيزيدهم غضبا ونكالا إلى يوم الدين.

         هذا ما سيمر بك فيما يأتي، ومنها تعلم علم اليقين أن ما ظنوه خيرا لهم إنما هو وبال عليهم كما قال سبحانه: ﴿أَيَحۡسَبُونَ ‌أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ﴾ آيتي 55، 56 سورة المؤمنون. وقال: ﴿وَلَا ‌يَحۡسَبَنَّ ‌ٱلَّذِينَ ‌كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ آية 178 آل عمران.

         وستعلم أن ما مر عليهم من فترات رفعوا فيها رؤوسهم بعد هذا الوعيد مدة تطول نسبيا وقد لا تطول فما هي في قياس الزمن إلا صحوات محموم، لا يكادون يتمتعون بها حتى تلاحقهم صواعق غضب جبار السماوات والأرض، وهكذا دواليك حتى أمسوا في يد القدر كالكرة يتقاذفها الولدان لا يتركونها تستقر حتى تلاحقها ضرباتهم…

         وإلى اللقاء إن شاء الله.

*  *  *

الهوامش:

  • «أو أجد على النار هدى» آية (10) من سورة طه.
  • «أو جذوة من النار لعلكم تصطلون» آية (29) من سورة القصص، أي تستدفئون لدفع البرد.
  • المراد بها القحط.
  • جمع مفرده قملة بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة وهي حشرة صغيرة تتلف الزرع.
  • هامان كبير وزراء فرعون.
  • المراد بالطين هنا القوالب التي تصنع من الطين فإذا جفت بفعل الشمس توقد عليها النار فتصير آجرا أحمر.
  • الصرح هو البناء العالي.
  • الجحود هو إنكار الشيء مكابرة مع اليقين به في قرارة النفس كما قال سبحانه لنبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿قَدۡ ‌نَعۡلَمُ ‌إِنَّهُۥ ‌لَيَحۡزُنُكَ ‌ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ﴾ آية 33 من سورة الأنعام.
  • المفاتح جمع مفتح، بفتح الميم وسكون الفاء، بوزن مرصد، وهو المخزون، قال ابن عباس – مفاتح قارون هي خزائن أمواله وأوعيتها.
  • تنوء بالعصبة أي تثقل عليهم إذا أرادوا حملها يقول العربي: ناء بفلان الحمل إذا أثقله حتى أمال ظهره.
  • أسر أي سر في الليل.
  • المشرق هو الداخل في وقت الشروق.
  • أي قربنا إلى وسط البحر.
  • ثم أي هناك في وسط البحر.
  • الآخرين هم فرعون وجنوده.

مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47

Related Posts