دراسات إسلامية

وجوب تبليغ الدعوة وإعداد الدعاة

         كان من رحمة الله بالناس أن جاءتهم الدعوة الإلهية بما اشتملت عليه من أسس صالحة، ونظم كاملة لكافة جوانب الحياة.

         وقد أوجب الله تعالى تبليغ دعوته للناس حيث أمر رسوله محمدا ﷺ بذلك في قوله تعالى ﴿ٱدۡعُ ‌إِلَىٰ ‌سَبِيلِ ‌رَبِّكَ ‌بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ﴾(1) والأمر يفيد الوجوب. ومن المعلوم الأصل في خطاب الله لرسوله دخول أمته فيه إلا ما استثني، وليس في هذا المستثنى أمر الله تبارك وتعالى بالدعوة لدينه، فبقي وجوب تبليغ الدعوة على المسلمين كما وجب على رسوله ﷺ، وقد وجه الرسول ﷺ أصحابه إلى هذا الواجب حيث أمرهم وقال: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب»(2)، كما أن طبيعة الإسلام تؤكد هذا الواجب؛ لأنه دين عام خالد يستلزم استمرار الدعوة إليه وتبليغه للناس.

         وواجب تبليغ الدعوة جدير في الحقيقة برسول الله ﷺ، ومواهبه وإيمانه، و إخلاصه، وبعده يجب أن يستمر على نمطه بواسطة دعاة يعدون لحمل الأمانة، وأداء الواجب المطلوب.

         وإعداد هؤلاء الدعاة واجب حيث أمر الله بذلك في قوله تعالى ﴿وَمَا ‌كَانَ ‌ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ‌لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ﴾(3) فبان بذلك أن على المسلمين أن لا يخرجوا جميعا للجهاد في سبيل الله، وإنما عليهم أن يخصصوا من كل جماعة نفرا يخرجون للدعوة، يتحملون المشقة في فقهها، ومعرفة طرق الإنذار بها، قاصدين من هذا الإعداد إرشاد غيرهم والنصيحة لهم أملا في هدايتهم وإيمانهم.

         وقال تعالى: ﴿وَلۡتَكُن ‌مِّنكُمۡ ‌أُمَّةٞ ‌يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾(4) والأمة هي طائفة عالمة حيث أمر الله المسلمين من بينهم جماعة تتخصص في الدعوة إلى الخير إذ تعلم المعروف وتأمر به، وتدرك المنكر وتنهى عنه، وتصدير الآية بلام الأمر يفيد وجوب إيجاد هذه الفئة العالمة لتبليغ الدعوة.

         وقد ربى الرسول أصحابه على الحق واختار منهم من يصلح للدعوة وبعثهم إلى عدد من الشعوب يدعونهم إلى الله تعالى.

         ومن المعلوم أن واجب تبليغ الدعوة لا يتم إلا بواسطة الدعاة، وهذا دليل على وجوب إعدادهم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما أن سؤال الله للناس في الآخرة يقتضي تبليغ دين الله إليهم. والدعوة لا تبلغ وحدها فلزم وجود دعاة يحملونها ويبلغونها للعالمين. وهكذا وجب تبليغ الدعوة، ووجب إعداد الدعاة. ولئن كانت الحاجة إلى الدعاة الأكفاء ملحة دائما فإن هذه الحاجة الآن أشد ليتعلم المسلمون ما جهلوا من دينهم، وحتى يمكن مواجهة خطر التيارات المادية التي اتسع نشاطها بواسطة دعاة المذاهب البشرية، والنحل المحرفة الذين دربوا على الترويج لباطلهم في ذكاء واضح، وخطة مدروسة وهدف محدد.

         وليس بجائز أبدًا أن يضعف صوت الحق أمام الهوى، وتذاع الشبهات الملحدة في الناس ولا تجد من يتصدى لها ويهدمها بالحجة والبيان. إن إعداد الدعاة واجب يلتزم به المسلمون، وعلى الأمة أن تقوم به أداء لواجب الدعوة، ووفاء للأمانة التي لزمتهم.

الصفات الواجبة للدعاة

الإيمان العميق:

         تهدف عملية إعداد الدعاة إلى إيجاد نفر من المسلمين متميز بصفات خاصة تمكنه من القيام بالواجب الذي أنيط وهو تبليغ الدعوة.

         وهذا النفر ملتزم بتقويم الصلة بالله وبالدعوة والمدعوين، ولذا كانت أهم الصفات التي يجب أن يتمتع الدعاة بها هي:-

أ- الإيمان العميق:

         الإيمان هو الركيزة الأساسية للداعية وهو القاعدة التي يقوم عليها كيانه كله، والواجب أن تكون صلته بالله أوثق، ومعرفته به أوضح وشعوره بجلاله أقوى، وارتباطه بمنهجه أشد.

         إن هذا الإيمان يعني التسليم التام لله؛ لأنه النافع الضار، المعز المذل، وأنه لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى. كما ينبغي التيقن بأن دين الله حق كله لا يحتاج لجدل، ولا يقبل شكاً ومراجعة ومن ثم يثبت هذا الإيمان عنده ولا يتزعزع مهما كانت الشدائــــــد. ومهما قوي الأعداء، وكثر الخصوم.

         ويجب أن يكون إيمان الداعية إيماناً تفصيليًّا على الأدلة والحجة. وأقرب طريق لتأكيد هذا الإيمان مداومة النظر في القرآن الكريم، والعكوف على تلاوته وحفظه وتدبر معانيه وتنفيذ تعاليمه. وتبيين أحكامه من خلال دراسته للسنة المطهرة.

         ونتائج هذا الإيمان تفيد الداعية وتعينه على الدعوة، لأنه به يحب الله، ويصير محبوبًا من مولاه. قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ‌ءَامَنُوٓاْ ‌أَشَدُّ ‌حُبّٗا ‌لِّلَّهِۗ﴾(5) وقال: ﴿يُحِبُّهُمۡ ‌وَيُحِبُّونَهُۥٓ﴾(6) وحب المؤمن لله عبارة عن استغراق مطلق في الطاعة، وتسليم تام بكل ما يجد ويحدث وحب الله للمؤمن يكسبه إعانته، وهدايته، والأخذ بيده نحو الحق والخير، وهذا الحب يستتبع الثقة بالضرورة؛ لأن الداعية ما دام اعتقد الحق وآمن به، والتزم في كل حياته أوامر الله ونواهيه فإنه يثق حينئذ أن كل ما يحدث له ومعه جزء من الحكمة الإلهية الشاملة.

         والإيمان يعين على الدعوة أيضًا حيث يندفع الداعية نحو الإخلاص والعمل ودعوة الناس بلا انتظار أجر مالي، أو الحصول على كسب دنيوي، وكل القصد هو طاعة الله وكسب رضاه بالدعوة لأنه يؤمن بأن أحسن الأقوال وأفضل الأعمال ما كان للدعوة وفي سبيلها.

         وإن حدَّث وجوبه الداعيةَ بمعوقات تقف بينه وبين النجاح في الدعوة؛ فإن الإيمان يمده بطاقة من التحمل والصبر تجعله يستصغر كثرة الخبيث، ويستهين بقوة الأعداء، ولا يخشى في الله لومة لائم، أو جور ظالم، ويرفع في الناس شعاره وهو قوله تعالى: ﴿قُلۡ ‌أَغَيۡرَ ‌ٱللَّهِ ‌أَبۡغِي رَبّٗا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيۡءٖۚ وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ﴾ هكذا الإيمان الصادق يوجد الحب والثقة. ويحقق الإخلاص والتحمل، وعلى الداعية أن يتصف به.

ب- العلم الدقيق:

         دور الداعية يحتاج إلى العلم الوافر والأفق الواسع، لأنه يوضح الدين ويبين للناس سمو مبادئه ونظمه، ويرد الشبهات التي تثار أمامه، ومن هنا كانت حاجته إلى التحصيل الدائم. والمعرفة الشاملة.

         وطبيعة الإسلام تتطلب من الدعاة أن يكونوا علماء فاقهين؛ لأنه دين يؤخذ من القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكلاهما يحتاج إلى القراءة المستمرة، والتدبر الواعي، والفهم السليم، كما أن تبليغ الإسلام يحتاج إلى معرفة الناس ومعرفة أمثل الطرق للتوجه إليهم وإقناعهم وأهم جوانب علم الداعية ما يلي:-

         1- العلم بالدعوة: عمل الداعية نشر الدعوة، ولذا كان العلم بها من أساسيات علم الداعية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. والدعوة بكافة جوانبها تعرف بمعرفة القرآن الكريم والسنة النبوية. وعلى الدعاة أن يتخذوها زادا لهما فيعيشون مع القرآن تلاوة وحفظاً، وفهمًا، ومع السنة قراءة وتدبرًا، وحفظًا، ومع سائر العلوم الإسلامية التي قدم فيها سلفنا الصالح الدراسات العديدة كعلوم القرآن والسنة والفقه والعقيدة.. وبذلك يفهمون الدعوة ويتمكنون من تبليغها للناس.

         2- العلم بالمدعوين: يتنوع المدعوون تنوعًا واضحًا بسبب ما بينهم من اختلاف، ومخاطبة كل نوع يحتاج لطريقة معينة؛ لأن ما يؤثر في جماعة لا يؤثر في غيرها. ولذا وجب على الداعية أن يعلم خصائص من سيدعوهم من ناحية العادات والتقاليد والمذاهب والاتجاهات السائدة فيهم.

         ويعتبر العلم بالمدعوين من أهم جوانب علم الداعية في العصر الحديث لكثرة المذاهب الوضعية وانتشارها ونشاط دعاتها، وتطاولهم على الواقع وادعاءاتهم الكاذبة في أنهم يمثلون الحق والمستقبل السعيد للناس، ولأن الداعية بهذا العلم يمكنه من مجابهته الباطل ودحضه ورد مفترياته بما في دعوته من حق ووضوح، ويساعد الداعية في هذا الجانب بعض العلوم الحديثة كعلم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية وعلم مقارنة الأديان وعلم الجغرافية البشرية وتاريخ العمران والحضارة. إلخ.

         3- العلم بوسائل الخطاب: وسائل تبليغ الدعوة عديدة، ولكل منها منهج، ولا بد للداعية من معرفة هذه الوسائل، وعليه أن يتقن الطريقة المثلى لتطبيق كل وسيلة مع المخاطبين بعد إعدادها وتنظيمها.

         إن وسائل الدعوة عديدة، وقد أضاف العلم الحديث إليها العديد من الوسائل حتى عدت الراديو والصحف وسائل يمكن بواسطتها تبليغ الدعوة إلى الناس.

         وبهذا العلم المحتوي على معرفة الدعوة ومعرفة المدعوين ومعرفة وسائل الخطاب يكتمل للداعية الجانب المعرفي الذي يحتاج إليه لأداء الواجب.

جـ – الخلق المتين:

         الداعية أخ للمدعوين استظهر عليهم بالنصح والتوجيه، وحاجته إلى تقديرهم له، وثقتهم فيه واضحة. ولا يمكنه ذلك إلا بالخلق الكريم البادي من احترامه للناس، وتقديرهم والصدق معهم، والكرم في معاملتهم، والأمانة الشاملة في سائر ما يكون معهم. وصدق رسول الله ﷺ في قوله: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم».

         إن الأخلاق فوق أنها كمال ذاتي للداعية فهي مدعاة لتبوئه قيادة الناس وتوجيههم وللدعاة في ذلك أسوة برسول الله ﷺ لقد تمتع بالخلق واشتهر في الناس بالصدق والأمانة، والحلم والعفو والكرم وحب الخير للناس، وصدق الله تعالى وهو يقول: ﴿‌وَإِنَّكَ ‌لَعَلَىٰ ‌خُلُقٍ ‌عَظِيمٖ﴾ وهكذا يجب أن يكون الدعاة.

*  *  *

الهوامش:

(1)    سورة النحل من آية 125.

(2)    صحيح البخاري. كتاب العلم باب ليبلغ الشاهد الغائب.

(3)    سورة التوبة آية 122.

(4)    سورة آل عمران آية 104.

(5)    سورة البقرة من آية165.

(6)    سورة المائدة من آية 54.

مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47

Related Posts