إشراقة
يعيش المسلمون في العالم حالةً من الفوضى والانتشار لا سراة لهم، ويلاقون نكبات و ويلات على أيدي أعدائهم في كل مكانٍ، ويتقاذفهم قوى الظلم والاستبداد والاستعمار والاستغلال تقاذف اللاعب بالكرة، ولاتجد بلدًا من بلاد الله تعالى إلا والإنسان المسلم مضطهد فيه قليلًا أو كثيرًا اضطهادًا جسمانيًّا أو عقديًّا، وأصبح المتمسك بالدين الحق والشريعة الطاهرة النقية على أشد من الجمر، وأما الباطل فيرعد، ويبرق، ويسلك كل الطرق التي يراها تعينه على التغلب على الحق وأهله، وإطفاء نور الله بالأفواه. وفي مثل هذه الأوضاع المأساوية يتسرب اليأس والقنوط إلى قلوب ضعاف الإيمان والعقيدة، و الذين يعبدون الله تعالى على حرف؛ فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن منُوا بما يكرهون انقلبوا على وجوههم، وخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
والمتأمل في تاريخ الإسلام الممتد على أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، منذ أن بزغ فجر الإسلام وحتى يوم الناس هذا، يعلم- علم اليقين الجازم- أن الحق وأهله قد دالت لهم وعليهم الأيام، وتقلبت الأوضاع رأسًا على عقبٍ، وما قصة التتار الذين دوَّخوا دار الخلافة الإسلامية، وجعلوا عاليها سافلها ببعيد؛ بل قبل ذلك ما تعرض له الحق وأهله في مكة في فاتحة الدعوة الإسلامية من عداءٍ وحصارٍ في شعب أبي طالب مدة ثلاث سنوات.
فهل قطع التتار دابر الإسلام، والمسلمين، واستأصلوا عن آخرهم، فلم يدعوا منهم أحدًا؟ وهل نجحت قريش في وأد الحق، و أهله في مهده قبل أن يضيء بسنا برقه الظلمات، ويدخل في كل بيت مدر و وبر؟ كلا، لقد خرج الحق مرفوع الرأس من هذه الفتن المدلهمة كقطع الليل المظلم، وفقًا للسنة الإلهية القائلة: ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ﴾ [آل عمران:140].
لقد واجه الرسول ﷺ، والمسلمون معه حصار قريش، ومقاطعتها بكل صبرٍ وصمودٍ، وثبتوا على الحق والدين ثبوتَ الجبال الراسيات، وصمد الحق في وجه الباطل صمود الصخرة الصماء أمام أمواج البحر العاتية التي تكاد تزعزع الأركان. فالحق لايخشى قوة العدو مهما كانت شديدة، ولايرهب هجماته بالغًا ما بلغ من الشراسة والضراوة، ومهما تسلح به من عدد وعدة وعتاد، وأساطيل تمخر عجاج البحر، حتى جاء اليوم الذي بعث الله عز وجل على الصحيفة – التي تكاتبت قريش على بني هاشم، وتعاهدوا وتواثقوا على ما فيها، ثم علقوها في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم- الأرضةَ، فلم تدَع لله فيها اسمًا إلا أكلته، وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان حتى تبرأت أناس من قريش من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة. و قرروا فكَّ الحصار، ونبذ المقاطعة حتى خرج المسلمون من شعب أبي طالب، وقد أصابهم الجهد الشديد. ثم كان من هجرة النبي ﷺ وأصحابه ما كان.
ثم لِنَنْظُر أن بقاء أبي جهل وأعوانه وإخوانه في مكة، وهجرة النبي ﷺ من مكة أعز البلاد إليه، لايعني انتصار الباطل وقوته، وهزيمة الحق، وضعفه، وإنما يوحي إلى أن الحق يُبتلى أهله بالخير وبالشر، وأن الباطل زهوق، وأن الحق هو المنتصر ولو بعد حين، ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ﴾ [آل عمران:140]. وقال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ﴾ [سورة القصص:5].
والعاقبة والنهاية للحق وأهله، يقول الله تعالى في محكم تنزيله: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء:18]. وقال علماء المعاني: «هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول بجامع عقلي: فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام؛ لأن القذف الرمي بنحو الحجارة، والدمغ من: دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل، والدمغ لإذهاب الباطل بجامع الزهوق».
وكيف القرار والبقاء والاستمرار لما كتب الله تعالى له الزهوق والفناء، وإن بدا منتفشًا في بعض الأحوال كأنه غالب وقاهر، وبَدَا فيها الحق منهزما متراجعًا كأنه مغلوب على أمره.
فسنة الله تعالى الأزلية الباقية التي قام عليها السماوات والأرض وقامت عليها العقائد والدعوات في الأرض أن الحق يعلو، ولايعلى عليه، وأن أهل الحق هم الأعلون، ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [آل عمران:139].
فالحق لابد أن يعلو، وأن يغلب، وأن ينتصر شريطة أن لايذهب أهله – من شقاوتهم وسوء حظهم- يساومون عليه أصحابَ الباطل، وشريطةَ أن يعلوهم معنويةً وإخلاصًا وصدقًا و وفاءً، وشريطة أن تدوم القلوب ثابتةً! أبو عائض القاسمي المباركفوري
مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47