إشراقة
الإخلاصُ شيء غريب جدًّا، ما كان في شيء إلاّ زانه وجعله ذا مفعول قويّ للأبد، ومَلأَه بركةً ونورًا، وحَلاَّه ألقًا وجمالاً، وأَضْفَىٰ عليه مسحةً عجيبةً من السحر والجذّابيّة التي لاعهدَ بها للمَغْنَاطِيسِ. وما إن عَرِيَ منه شيء حتى أصبح جسدًا بلاروح، وهيكلاً لا حياةَ فيه، وظاهرًا لاباطنَ له، ويفقد – إذًا – كلَّ معنى من الرونق والرواء، والجمال والبهاء؛ فلا ترغب فيه نفسٌ سليمة رغم تألّقه الظاهر وروعته الساحرة .
والإخلاص جميلٌ لفظاً ومعنىً، ورائع كلمةً ومدلولاً، وحبيبٌ لغةً واصطلاحًا، ومرغوبٌ لدى من ينظر إلى السطح ومن ينزل إلى القعر على السواء. فـ«أَخْلَصَ» الشيءَ: أصفاه ونقّاه من شوبه؛ وأَخْلَصَه النصيحةَ أو الحبَّ: أهداهما إليه خالصًا من أي غرض؛ وأَخْلَصَ فلانًا: اختاره واختصّه بدخيلة نفسه؛ وأَخْلَصَ السَّمْنَ: أَخَذَ خلاصتَه؛ و …
وأخْلَصَ لله دينَه: ترك الرياءَ فيه وزَهِدَ في كل شيء إلاّ وجهَ الله تعالى؛ فالإخلاصُ في الشريعة الإسلاميّة: أن يقوم بالأوامر والنواهي عاريةً من كلّ شيء سوى وجه الله جلّ وعلا؛ فإذا تلطّخت النيّة بغرض من أغراض الدنيا، فلن يَقْبَلَها الله، ولن يُثِيْبَ عليها، ولن تَعْدِلَ لديه حبّةَ خردل يومَ يقوم الميزانُ. وللإخلاص قيمةٌ كبرى وأهميّةٌ قصوى في دين الله الإسلام؛ فهي مقياسٌ للأعمال والعبادات؛ فما صَدَرَ منها عنه كان لله، وما لم يكن مصدَره هو، كان مردودًا لديه تعالى، مهما علا في الظاهر وغلا في أعين الناس .
ما عُجِنَ شيء بالإخلاص إلاّ كَبُرَتْ قامتُه وارتَفَعَتْ قيمتُه، وتَلأْلأَ كيانُه وتَجَمَّلَ شأنُه؛ وما تَجَرَّدَ منه شيءٌ إلاّ أصبح كأن لم يَغْنَ بالأمس، وكأنّه كيانٌ وجودُه وعدمُه سواء.
ولهذا كلّه رَكَّز كتابُ الله وسنّةُ رسوله ﷺ على الإخلاص تركيزًا لم يركّزه على حقيقة من حقائق الدين؛ لأنه هو الذي تتحقق به حَقِّيَّةُ كلّ منها. يقول تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُو اللهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّينَ» (البينة/5) ويقول: «لَنْ يَّنَالَ اللهَ لُحُوْمُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلـٰـكِنْ يَّنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ» (الحج/37) ويقول: «قُلْ إِنْ تُخْفُوْا مَا فِي صُدُوْرِكُمْ أَوْ تُبْدُوْهُ يَعْلَمْهُ اللهُ» (آل عمران/29).
وفي حديث شهير مُتَّفَق عليه لدى إِمامَيِ المحدثين: البخاريّ ومسلم – رحمهما الله تعالى – عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه – يقول سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «إنّما الأعمالُ بالنيّات، وإنّما لكل امرئ مانوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله؛ ومن كانت هجرته لدنيا يُصِيبُها أو امرأةٍ ينكحها، فهجرتُه إلى ما هَاجَرَ إليه».
وفي حديث آخر جارٍ على الألسنة رواه مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله ﷺ: «إنّ الله لاينظر إلى أجسامكم ولا إلى صُوَرِكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
وفي حديث متفق عليه لدى البخاري ومسلم عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري – رضي الله عنه – قال: سُئِلَ رسول الله ﷺ عن الرجل يُقَاتِلُ شَجَاعَةً ، ويقاتل حميّةً، ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
والأحاديثُ في الباب كثيرةٌ. ولكونِ الإخلاصِ إكسيرًا للأعمال جَعَلَه بعضُ الأئمة مدارًا لتحقّقها تحقّقًا شرعيًّا جديرًا بالقبول لدى الله وبالجزاء والثواب من قبله . إنّ الأعمال بدون الإخلاص تتحقّق صورةً ولاتتحقّق حقيقةً، أي تُوْجَدُ هياكلُها ولا توجد روحُها التي تُضْفِي عليها الحياةَ . إنّك إذا أدّيتَ الصلاةَ رياءً أي كسبًا لذكرٍ حَسَنٍ وسمعةٍ طيِّبةٍ و ليظنّك الناس صالحًا مُتَقَيِّدًا بأحكام الدين، ولتكسبَ وُدَّهم فتستثمره في تحقيق ما تصبو إليه من الأغراض الماديّة الرخيصة والمطالب الدنيوية الخسيسة، فمهما يُفْتِ العالمُ بالشريعة بكونها قد أُدِّيَتْ، فإنّها ليست بشيء في ميزان الله المستقيم، بل قد تستحق الإثمَ والعقابَ لكونك قد مارستَ الشركَ عندما نويتَ من وراء أدائها رضا الناس ولم تطلب رضا الله تعالى، وقد كان هو المطلوبَ من أدائها دون رضاهم .
وهكذا جميعُ الأعمال والعبادات المفروضة والنافلة؛ كلُّها إذا عُمِلَتْ لله وابتغاء وجهه، فهي مقبولة مَجْزِيَّةٌ، مُسَبِّبَةٌ لدخول الجنّة بفضل الله ومنّه وكرمه، وإذا أُتِىَ بها لغير ذلك من المكاسب التي لاتُحْصَىٰ، فهي مرفوضة لدى الله ومُؤَدِّيَةٌ إلى سخطه فحسابه وعقابه. إنّ مجردَ النية تَقْلِبُ كلَّ حقيقة ظهرًا لبطن وتُحَوِّلُها غيرَ ما كانت؛ فإن كانت النيّة ابتغاءَ رضوانِ اللهِ فالفاعل مُثَابٌ على القيام بأيّ عمل من الأعمال، وإن كانت النية شيئًا من حطام الدنيا، يُؤَاخَذْ ويُعَاقَبْ عليه أو لاينال جزاءً لديه تعالى؛ من ثم أوصى النبي ﷺ أحدَ العشرة المُبَشَّرِينَ بالجنّة وهو سيدنا سعد بن أبي وقّاص في حديث يَشْمَلُ أشياءَ كثيرةً، فقال: «وإنّك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلاّ أُجِرْتَ عليها حتى ما تجعل في في امرأتك» والحدث متفق عليه.
وإذا اعتاد المسلمُ التعاملَ بالإخلاص في شؤون الحياة كلّها و جعل الصدورَ عنه شِعَارَه ودِثَارَه، فوضع نُصْبَ عينيه دائمًا رضا الله غَيْرَ مُبَالٍ برضا الناس وسَخَطِهم، فهنا يعود الإخلاصُ ساريًا في جسمه مع الدم، فيعود لاينفكّ منه في حال، ويعود هو مرادفًا له أو قرينًا له فيكون معه أينما حَلَّ وسارَ، فيَتَفَجَّرُ من جوانبه ويَتَبَدَّىٰ في كلّ من سلوكه، ويصبغ كلاًّ من حركاته وسكناته بصبغته، فيراه الناس بالعيان، ويلمسونه بالبنان، فيصير صاحبُه – الإخلاص – حبيبًا إلى المجتمع البشري، فالكلُّ يعتزّ بالجلوس إليه والاستماع والقراءة له، ويشعر بطمأنينةٍ غير عاديّةٍ في صحبته، ويجد دواءَ النفس وشفاءَ القلب في مجلسه. حديثُه بلسمٌ للجروح، وكتابتُه مرهمٌ للقروح، وسكوتُه درسٌ في الحياة وتدريبٌ على حسن السيرة. حديثُه البسيطُ يفعل في الأفئدة مالا يفعله أقوالُ خطيبٍ مِصْقَعٍ بليغةٌ صادرة عن القلب والعقل العاريين من إكسير الإخلاص.
وبالمناسبة أذكر قصةَ أستاذ لي تَشَبَّعَ بالإخلاص: في الفترة مابين 1964-1967م كنت طالبًا بالمرحلة الثانويّة بمدرسة «دارالعلوم» الكائنة بمدينة «مئو» بولاية «يوبي» بالهند. وكان هناك شيخ صالح مراقبًا للسكن الطلابي، اسمُه الشيخ محمد أمين الأدرويّ (المتوفى 1399هـ/1979م)، فكان يأمر الطلاب من حين لآخر للاجتماع بالمسجد الذي كان يَتَوَسَّطُ المحيطَ المدرسيَّ. وذلك بعد صلاة العشاء؛ فكان يعظهم ويوجِّههم بالتقيّد باللوائح المدرسيّة والآداب الإسلامية والأحكام الدينية بأسلوب كلُّه بساطة في بساطة؛ حيث كان لايعرف تنميقَ الحديث وزَخْرَفَتَه. وربّما كان يقرأ عليهم تراجم أردية لبعض الأحاديث التي كان يراها ذات الصلة بالأمور التي كان يودّ التوجيه بها. وهي الأخرى – التراجم الأردية للأحاديث – كانت تكون بسيطة للغاية؛ ولكنّ مواعظه وتراجمه البسيطة كانت تُؤَثِّر في القلوب، وتَهُزُّ أوتارَ النفوس، وتفعل فيها فعلَ السحر؛ فكانت عيونُ المستمعين من الطلاب وغيرهم من المصلّين تستعبر، وكانوا يعزمون على الإقلاع عن المعاصي واجتباب المخالفات تجاه اللوائح المدرسية والآداب الدراسية، ويبقى تأثيرُها في قلوبهم طويلاً. وكانوا يبحثون عن السبب في هذا التأثير العميق، فلا يجدونه إلاّ كامنًا في الإخلاص الذي تَخَرَّجَ في مدرسته وعاش في جوّها، حتى اختلط – الإخلاص – بلحمه ودمه؛ فكان يأتي كلُّ لفظٍ يَتَفَوَّهُ به مغسولاً بنوره .
ومثل هذا المخلص إذا تَحَدَّثَ في موضوع ما – ولو لم يكن مُتَّصِلاً بالدين في الظاهر – كان الإخلاصُ هو قرينَه في الدرب، وحليفَه في الحفل، ورفيقَه في الكلمات يلفظها، والمعاني يُعْرِبُ عنها، والأفكارِ يلقيها للحضور المستمعين. وإذا كَتَبَ في موضوع – مهما بدا للناس أنّه لا يتعلّق بالإسلام رأسًا – كان الإخلاص هو حاديَه في المسيرة، وقائده خلال التعابير، ورائده عندما يَجْمَعُ ويُؤَلِّفُ و يُصَنِّف الموادَّ، فيعرضها مقالةً أو كتابًا أو بحثًا.
قرأتُ لمثل هذا الذي كان الإخلاص لحمة وسدى تفكيره في الحياة ومصدرَ كلٍّ من حركاته وسكناته، مقالاً كَتَبَه في الحديث عن أخته التي كانت قد تُوُفِّيَتْ منذ وقت غير طويل، وكنتُ مُسْتَلْقِيًا على السرير، فابتلّت الوسادةُ التي كانت تحت رأسي، لغزارة ما انهمر من عَيْنَيَّ من الدموع التي أَسَالَتْها الكيفيّةُ الإيمانيّةُ الحنانيّةُ البارعةُ، التي أثارها الإخلاصُ الثرُّ الذي كان يتمتّع به هذا العالمُ العاملُ الصالحُ المصلحُ، الذي وجدتُ كلَّ كلمةٍ في مقاله كأنها مصبوغة بلوعة الأسى في جانب والحبّ البالغ للدين الذي كانت تتقيّد به أختُه – مثلَه – في كلّ دقيق وجليل في جانب آخر، وشعرتُ كأنه لايتحدّث عن أخته، وإنما يتحدث عن أكبر محسنٍ للإنسانيّة ورحمةٍ للعالمين وصاحبِ أجلّ منّةٍ في عنق المجتمع البشري: سيّدِنا ونبيـِنا محمدٍ ﷺ الذي كلُّ حديثٍ يتّصل به عن قريب أو بعيد – مكتوبًا كان أو مقولاً – يكون رقيقًا مُرَقِّقًا ، حبيبًا لذيذًا، لدى كلّ من يتمتّع ولو ببعض رصيد من حبّه ﷺ، ولديه شعور بأن حبّه أحلى وأغلى من حبّه لنفسه ولأولاده ولوالديه؛ وأنّه – حبّه ﷺ – أكبرُ رأس مال له في حياته؛ وأنّه لن يعدل عنه ولايرضى بغيره بديلاً مهما عَلاَ ثمنه.
وقد قرأتُ لبعض المخلصين بعضَ الكتابات التي كانت لاتتّصل بموضوع السيرة النبوية، أو الحديث عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، أو بالدعوة إلى الدين؛ وإنما كانت في مواضيع أخرى قد لايصحُّ أن تُعَدَّ إسلاميّةً؛ ولكني أَعَدْتُ قراءتَها مرارًا، وكلّما قرأتُها ازددتُ إيمانًا وحماسًا دينيًّا، ورغبةً في كلّ ما يُصْلِحُ القلبَ ويُقَوِّم السيرةَ، ويُنَزِّهُ السريرةَ، ويُهَذِّب كلَّ غصن من أغصان السلوك الإنسانيّ؛ فيعود على مستوى «الفرد المنشود» و«المسلم المطلوب» لدى الله تعالى.
وهنا آمنتُ بأنّ إخلاص المخلص يتجلّى في صور ومواقف كثيرة عجيبة، قد لايتطرّقُ ذهنُ الإنسان أنّه – الإخلاص – يتواجد فيها أيضًا. ولاغروَ فإن مثل هذا الإنسان السامي سكوتُه أيضًا يكون كلامًا؛ فإذا جلستَ إليه ذكرتَ الله، وإذا نظرتَ إليه زِدْتَ كيفيّةً إيمانيّةً، وإذا لازمتَه لمدة تَخَرَّجْتَ إنسانًا سَوِيًّا لايهتّم إلاّ بما يعنيه في الدنيا والآخرة؛ فيُقْبـِلُ دائمًا على ما ينفعه هو وغيرَه ويُعْرِضُ كليًّا عن كلّ ما لاينفعه ولاغيره.
ولكونِ الإخلاص أبيًّا يَصْعُبُ صيدُه ويستعصي قيدُه، لايفوز به كلُّ من هبَّ ودبَّ، وإنّما يَحْظَىٰ به السعيدُ الذي يريد اللهُ به خيرًا كثيرًا. ولا يتأتّى إلاّ لمن راض نفسَه، وكَسَر مالديه من شعور بالعلوّ، وتَغَلَّبَ على أهوائه، وجعلها تبعًا لما جاء به محمد ﷺ، وأَنْكَرَ ذاتَه، وتَجَرَّدَ من كلّ معنى من الأنانيّة وتسويلاتها والنفسانيّة وغوائلها. ومن ثم كان يقول في أسلوب ساخر زاخر بالدرس بعضُ من عايشناهم من ذوي العلم الدقيق والخُبْر العميق والذكاء البارع: إن «الإخلاص» و«الخلوص» كانا شقيقين، وقد ماتا منذ زمان؛ فالبحثُ عنهما بحث عن المفقود الذي لن يوجد. وقد وُرِّي جثمانُ الفقيدين الغاليين بجوار الإمام الهمام الشاه وليّ الله الدهلويّ (أحمد بن عبد الرحيم) رحمه الله تعالى (1703-1763م) ولن يُبْعَثَا إلاّ يومَ يُبْعَثُ الإمامُ!!.
إنّ الإخلاص أغلى ما يُكْرَمُ به الصالحون السعداء من عباد الله. ومن فاز به فاز بحظّ أوفر ونصيب أكبر. المخلص وحده الجدير بالاغتباط من بين الحشد البشري، ومن بين زحام أعضاء المجتمع الذي يُسَمَّىٰ بـ«الإسلامي» ومن بين هذا العدد الهائل ممن يُدْعَوْنَ مسلمين، وحتى من بين هذا الكمّ الهادر من خواصّ المسلمين وعلمائهم ومُثَقَّفِيهم، الذين كثرتُهم لاتُغْنِي اليومَ غناءً، وقد كانت قلّةُ السلف الصالحين المخلصين مرهوبةَ الجانب مسموعةَ الكلمة، يطيعُها الشرق والغرب، ولايَتَجَرَّأُ أيٌّ منهما أن يعصي أمرًا من أوامرها أو أن يَخْرِقَ نهيًا من نواهيها.
مهما عَمِلْتَ وجعلتَ بعملك «هملايا» فإنه لاقيمةَ له لدى ربّك إذا تَجَرَّد من الإخلاص. فمهما كان هائلاً لدى الخلق وباهرًا في أعين الناس، فإنّه ليس بشيء في ميزان الحسنات الذي لايقبل إلاّ طيبًا، ولايسلّم لغير الطيب بثقل؛ فعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – ﷺ –: «تُعْرَضُ أعمالُ بني آدمَ بين يدي الله – عزّ وجلّ – يوم القيامة في صُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ، فيقول الله: ألقوا هذا، واقبلوا هذا. فتقول الملائكة: ياربّ! واللهِ ما رأينا منه إلاّ خيرًا. فيقول: إنّ عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليومَ من العمل إلاّ ما أريد به وجهي». (تفسير ابن كثير، ص:140، ج3، ط:2، الرياض 1418/1997م).
إنّ كثيرًا من «الصالحين» يعودون يوم القيامة «طالحين» لأنّ صلاحهم كان مظهريًّا ولم يكن مخبريًّا؛ ولأنّه كان رياءً ولم يكن إخلاصًا؛ ولأنّه قد استوفى ثمنَ تظاهره بالصلاح في هذه الدنيا، فلا رصيدَ له من الثواب في الآخرة؛ فعن أبي بكرة – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – ﷺ –: «مَن سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ به، ومن رَاءَىٰ رَاءَىٰ اللهُ به» (المصدر نفسه). ألا: إن كثيرًا من «الأثرياء» – ثراءً مُطْغِيًا – أعمالاً وعباداتٍ وتلاواتٍ، وأورادًا وأذكارًا وزكوات وصدقات، ومساعدات للفقراء والمنكوبين وذوي الحاجات، يصيرون فقراء مفلسين يوم القيامة، يومَ لاينفع رياءٌ ولاتكاثرٌ ولاتظاهرٌ: يوم تَتَعَرَّىٰ الحقائقُ، وتَتَجَرَّدُ الأشياءُ كلُّها من شوائبها؛ فلاتُرَىٰ إلاّ على ما هي عليه، يومَ لاينفع ذكاءُ الأذكياء، ولا مكرُ الماكرين، ولاتعتيمُ المُعَتِّمين، ولا دهاءُ الدهاة، ولا زيفُ المُزَيِّفين، ولا خِدَاعُ المتلاعبين البارعين في فنّ الخداع والغشّ وتغيير الحقائق!.
إن كلَّ ما عُمِلَ لغير الله في هذه الحياة الدنيا، يكون وبالاً وحسرةً على العامل يومَ القيامة، يومَ يُجْزَىٰ العامِلُ بعمله الخالص المُخْلَص فقد قال – ﷺ –: «يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناسَ بأعمالهم: اِذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟» (المصدر نفسه، ص:139). إنّه اليومَ: يوم القيامة يتمنّى أن لو مُدَّ في عمره، فكان مخلصًا فقط ولايكون غيرَه بحال.
اللهم وَفِّقْنَا أن نكون مُخْلِصِيْنَ ولانكون مرائين؛ فلا نودّ من رواء أعمالنا إلاّ وَجْهَك الكريم وجنّاتِ النعيم، ولانودّ بحال حطامَ الدنيا الذي يزول. اللّهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم. ولا سهلَ إلاّ ما جعلتَه سَهْلاً وأنتَ تجعلُ الحزنَ إذا شئتَ سهلاً.
(تحريرًا في الساعة :3012، من ظهر يوم السبت 28/11/1426هـ = 31/12/2005م)
أبو أسامة نور
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم – صفر 1427هـ = فبراير – مارس 2006م ، العـدد : 1–2 ، السنـة : 30.