كلمة المحرر
الصِّراعُ بين الحق والباطل صراعٌ قديم لم يَفْتُرْ منذ أن وُجِدَ الخليقة ؛ ومنذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الخير والشرَّ ، وسيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، فيكون الانتصار النهائي الحاسم للخير على الشرّ ، والانكسار الأخير للشرّ تجاه الخير، ويُنهي اللهُ جَلَّ وعلا قصّةَ الصراع هذه للأبد .
وقد يشتدّ هذا الصراع ويتصاعد ، فيُدَال الخير على الشرّ مرةً و الشرّ على الخير أخرى . قد يبدو جليًّا أن الشرّ كسب الميدانَ وأَحْرَزَ النصرَ النِّهائِيَّ تجاه الخير وغَلَبَه غلبةً فاصلة لا قيامَ له بعدها . وقد يُتَاحُ للخير أن يُطَوِّقَ الشرّ ويأْخُذَ بتلابيبه ويصيب منه المقتلَ، ويجعله يلفظ أنفاسه الأخيرة . وهكذا تستمر جولاتُ الانتصار والهزيمة بينهما ولاتتوقّف ، وإنّما تدور رحاها حسبَ مشيئة الله في المجتمع البشريّ ، وسنّته في الكون ، وإرادته لإدالة الخير من الشرّ الذي جَعَلَه خصمًا عنيدًا له لحكمة يعلمها ، ومصلحة قَدَّرَها .
إذا سرّحتَ النّظرَ اليومَ على العالم ، وَجَدتَه قد تَأَلَّبَ على الخير الذي رَضِيه ربُّ العالمين لعباده : «وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا» (المائدة/3) ولم يَرْضَهْ لهم كدين أبديّ أخير غيره دينًا بحال من الأحوال : «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيْنًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخـٰـسِرِيْنَ» (آل عمران / 85) . إنّ الصهيونية والمسيحية والوثنيّة والزندقة – بأشكالها كلّها وعلى الخلافات والشقاقات والتناحرات القائمة بينها – قد تَحَالَفَتْ ضدّ الإسلام وأهله بعناوين شتى وأسلحة مُتَطَوِّرَة تقليديّة وحديثة ، وتكاد تهجم عليه هجمةَ رجل واحد ، حتى تتفرق «دمُه» في الأمم والأديان كلّها ، ولايقدر أبناؤه على الانتقام منها جميعًا . وها هي ذه قد هَجَمَتْ عليه هذه الهجمةَ ، وها هم أولاء أبناؤه – المسلمون عربًا وعجمًا وشعوبًا و حكوماتٍ – لايزالون كأنّهم مكتوفو الأيدي لا يكادون يتحركون – فضلاً عن أن ينتقموا منها – تستبدُّ بهم الخلافاتُ ، وتتملّكهم الأحقادُ، وتتقاذفهم التناحراتُ ، ولاتُوَحِّدُهم مصيبةٌ ، ولاتجمع شملَهم قضايا مصيريّة ، ولا تجمعهم على كلمة واحدة أو على رصيف واحد تحدّيات خطيرة رهيبة ، فيما يتعلق بالأنفس والأموال والأوطان ؛ بل العقيدة والإيمان . وبالتالي ها هم أولاء – المسلمون – لايقدرون فعلاً على الانتقام من أبناء الباطل المُتَصَدِّيْن لهم بالتقتيل والمحو والإفناء ، ولدينهم وحضارتهم وخيراتهم ومقدراتهم بالتصفية والامتصاص والنهب .
ورغم ذلك كلّه لايُتَاحُ لأبناء الباطل أن يكسبوا أيّ جولة بشكل حاسم تجاه الحق العميم والخير الصميم : الإسلام الذي رضيه الله للعالمين وأن يتغلّبوا على أبنائه – المسلمين – تغلُّبًا نهائيًّا ؛ رغم ما هم فيه من الشقاق والخلاف ونبذ أحكام الله ، وإصرارهم على بقائهم مسلمين بالاسم وعلى عدم تجاوزهم هذا المستوى المتدنّي إلى مستوى كونهم مسلمين حقًّا أو مسلمين مماثلين للمسلمين حقًّا . فما بالُك إذا كانوا مسلمين حقًّا ؟ أي كان أبناء الحق على مستواهم من ملازمة مقتضيات الحق ومتطلبات الخير العميم الذي يَنْتَمُونَ إليه ؟ عندها لن يتجرأ أبناء الباطل على التحديث بأن يهجموا على الحق وأهله ، فضلاً عن أن يكونوا على مستوى التهديد لهم بالويل والثبور والهجوم عليهم بالأسلحة والعتاد ، وملاحقتهم في بيوتهم وعقرديارهم وداخل أوطانهم.
إن الصراع بين الحق والباطل – الإسلام وغيره – سيبقى ما دامت السماوات والأرض باقيتين . ومهما بَدَا للعيان في بعض المواقف والأمكنة والأزمنة أن الشرَّ قد غَلَبَ الخيرَ وأَمْسَكَ بعنقه ويكاد يخنقه ، فإنّه لن يُتَاحَ له الغلبةُ النهائيّةُ الحاسمةُ ؛ لأن الله تعالى لم يُرِدْها له ، وإنما المفتاح سيبقى بحوزة الخير : مفتاح الغلبة والانتصار ؛ لأن الله هو الذي أراد له ذلك : «وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمـٰـتِه» (الشورى/24). والصراعُ مع الشرّ الذي مُنِيَ به الخير إنما هو قَدْرٌ قدّره الله ، وحكمةٌ وَضَعَها ، وامتحانٌ شَاءَتْهُ حكمتُه أن يؤديّه أنصارُ الخير وأبناءُ الحق وحُمَاةُ الصدق ؛ ليميز الصادقَ من الكاذب .
فلا داعي لأبناءِ الحق ودُعَاةِ الخير لليأس والإحباطِ مادام الله حَامِيَهم والراضي عنهم ، مهما بدا في بعض الأحيان وبعض المواقف أن الشرّ قد كَسَبَ الجولةَ أو يكاد يكسب ، وأنّ الحقَّ لن تقوم له قائمةٌ بعدُ .
[ التحرير ]
(تحريرًا في الساعة 11/ من صباح يوم الاثنين : 9/11/1426هـ = 12/12/2005م)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1426هـ = يناير 2006م ، العـدد : 12 ، السنـة : 29.