دراسات إسلامية

بقلم:  الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

ب الحديث وعلومه

       الحديث في بلاد الهند عبرالتاريخ

       لما فتح محمد بن القاسم الثقفيُّ السند في عهد الخليفة وليد بن عبد الملك الأموي، وقامت فيها أوَّلُ دولة إسلامية دخلها- في من دخلوا- أهل العلم من أتباع التابعين وسكنوا بها واستوطنوها وتوالدوا وتناسلوا، ورووا الحديث بالحفظ والإتقان، وسافروا له من بلاد إلى أخرى، فنفقت سوق هذا الفنِّ الشريف في هذا القطر من الهند أربعة قرون، وخلَّفوا تراثًا حديثيا اشتهر في الآفاق و ساربه الركبان(1).

       ثم انقرضت دولة العرب من السند، وقامت الدولة الغزنوية والغورية في بلاد الهند، وتتابع أهل العلم إليها من خراسان و ماوراء النهر، وغلب على الناس الشعرُ والعلومُ العقلية والرياضية، ومن العلوم الدينية الفقهُ وأصوله، وزهدوا في علوم القرآن والحديث حتى أصبح علم الحديث غريبًا كالكبريت الأحمر، وظلت الحال كذلك إلى القرن العاشر الهجري(2).

       وكان مدارهم في الحديث مشارق الأنوار للصغاني، فإذا  قرأ أحد منهم  مصابيح السنة أومشكاة المصابيح ظنَّ أنه بلغ درجة المحدثين، وكان قراءتهم للحديث للتبرك لا للفهم له و العمل به. وأما الفقه فكانت بضاعتهم منه قليلة كذلك.

       ثم مَنَّ الله على أهل الهند بإفاضة هذا العلم، حيث ورد بها في القرن العاشر كثير من علماء هذا الفن، ونبغوا فيه من أهل الهند حتى نفقت سوقه وراجت بضاعته. ومن العلماء النوابغ في هذا العصر الشيخُ علاء الدين علي بن المتقي البرهان فوري المتوفى سنة 975هـ  صاحب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، والشيخُ محمد بن طاهر الفتني المتوفى سنة 946هـ صاحب مجمع بحار الأنوار في غريب الحديث، والمغني في أسماء الرجال، والتذكرة في الموضوعات، كان واسع الاطلاع على علم الحديث بالغ النظر فيه، قلما يماثله غيره في هذا العلم في عصره.

       ثم جاء الشيخ عبد الحق بن سيف الدين الدهلوي المتوفى سنة 1052هـ  صاحب أشعة اللمعات، ولمعات التنقيح، وعكف على تدريس الحديث ونشره نحو خمسين سنة، وخرَّج عددًا كبيرًا من العلماء على هذا العلم، ثم خلفه ابنه نور الحق المتوفى سنة 1073هـ في تدريس الحديث ونشره.

       ثم اشتغل بالحديث الشيخُ أحمد بن عبد الأحد السرهندي- مجدد الألف الثاني- وأبناؤه و أحفاده، فأفادوا ودرَّسوا وألّفوا، وقد كان من أحفاده من حفظ سبعين ألف حديث متنًا وإسنادًا وجرحًا وتعديلاً.

       ثم قيَّض الله لنشر الحديث وعلومه في بلاد الهند الشيخ الأجلَّ والمحدث الأكمل الشاه ولي الله بن عبد الرحيم العمري الدهلوي المتوفى سنة 1176هـ، فرحل إلى الحجاز حيث أخذ الحديث عن الشيخ أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكردي المدني، وغيره من أئمة الحديث، ثم عاد إلى الهند و قصر همته على نشر هذا العلم، فدرَّس وأفاد و خرَّج وصنَّف، حتى تخرَّج عليه خلق كثير.

       كذلك أبناؤه الشيخ عبد العزيز، والشيخ عبدالقادر، والشيخ رفيع الدين، وابن ابنه الشيخ إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي الذين رجَّحوا علم السنة على غيره من العلوم، وجاء تحديثهم حيث يرتضيه أهل الرواية، فلهم منة عظيمة على أهل الهند.

       كذلك الشيخ محمد إسحاق سبط الشيخ عبدالعزيز الدهلوي، أخذ عن جدِّه عبد العزيز، ولازمه ملازمة طويلة، ثم أفاد ودرَّس، وانتفع بعلمه خلق كثير، وانتهت إليه رياسة الحديث في الهند.

       وأخذ عن الشيخ إسحاق عدد كبير من العلماء منهم الشيخ عبد الغني المجدِّدي الذي هاجر إلى المدينــــة المنورة وتوفي بها سنة 1296هـ، والشيخ أحمد علي السهارنفوري الذي درَّس وأفاد، وله منة عظيمة على العلماء؛ لأنه صَحَّح كتب الحديث وأشاعها، لا سيما صحيح البخاري، وعلق عليها تعليقات نافعة.

       بفضل جهود الإمام ولي الله وأنجاله وتلاميذهم انتشرت السنة وعلومها في بلاد الهند، ونفقت سوقها،  على حين ركدت رياحها في الأقطار الإسلامية، كما اعترف العلماء بهذه الحقيقة، حيث قال العلامة رشيد رضا صاحب مجلة المنار:

       «لولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقُضِي عليها بالزوال من أمصارالشرق فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر»(3).

       وقال الأستاذ عبد العزيز الخولي:

       «لا يُوجد في الشعوب الإسلامية على كثرتها واختلاف أجناسها من وفّى الحديث قسطه من العناية في هذا العصر مثل إخواننا مسلمي الهند»(4).

*   *   *

مساهمة مشايخ دار العلوم وعلمائها في خدمة الحديث النبوي

       ثم انتقل هذا الميراث النبويّ العظيم ومهمة نشره من الإمام ولي الله الدهلوي وأنجاله وتلاميذهم إلى مشايخ دار العلوم وعلمائها، حيث أسند الحديثَ الإمامُ محمد قاسم النانوتوي المتوفى سنة 1297هـ، والشيخُ رشيد أحمد الكنكوهي المتوفى سنة 1323هـ  عن كلٍّ من الشيخ عبد الغني المجددي، والشيخ أحمد علي السهارنفوري المتوفى سنة 1297هـ صاحبي الشيخ محمد إسحاق الدهلوي، كما أنَّ الشيخ محمد يعقوب النانوتوي المتوفى سنة1302 هـ -أوّل شيخ حديث بدارالعلوم- أسند الحديثَ عن الشيخ عبد الغني المجددي، ثم قاموا جميعًا بمهمة نشره وإشاعته أيَّما قيام.

       أما الإمام محمد قاسم فقد ساعد أستاذه  الشيخ أحمد علي في التعليق على صحيح البخاري، فعلّق على الأجزاء الخمسة الأخيرة منه بأمر شيخه وأستاذه، وأسس مع طائفة من العلماء الربانيين دارالعلوم بديوبند التي أنا بصدد استعراض خدماتها للسنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.

       ومن أصحابه البارزين الشيخُ محمود حسن الديوبندي المتوفى سنة 1339هـ صاحب تعليقات على سنن أبي داود، والأمالي الوجيزة على سنن الترمذي، وشرح تراجم أبواب البخاري، وترجمة معاني القرآن الكريم المعروفة بترجمة شيخ الهند؛ والشيخ فخر الحسن الكنكوهي المتوفى سنة 1315هـ  صاحب تعليقات على سنن أبي داود باسم «التعليق المحمود» وحواش مختصرة على سنن ابن ماجه؛ والشيخ أحمد حسن الأمروهوي؛ والشيخ محمد حسن السنبهلي صاحب المؤلفات القيمة في الفقه والحديث.

       أما الشيخ رشيد أحمد الذي هوصِنو الإمام محمد قاسم وزميله في الدراسة وأحد المشرفين على دار العلوم فقد درَّس كتب الحديث  ثلاثين سنة، وكان تدريسه للأمهات الست في سنة كاملة، على وجه التدبر والإتقان والضبط والتحقيق، لا يعادله في ذلك أحد من معاصريه. تخرج عليه كثيرمن جهابذة هذا الفن الشريف، منهم الشيخ خليل أحمد السهارنفوري المتوفى سنة1346هـ صاحب بذل المجهود في حل سنن أبي داود، والشيخ يحيى الكاندهلوي، والشيخ ماجد علي المانوي وغيرهم. وله أمالٍ لكتب الحديث قَيَّدها الشيخ يحيى الكاندهلوي، وسمّاها لامع الدراري على صحيح البخاري، والكوكب الدري على جامع الترمذي، وعلَّق عليهما وأخرجهما إلى النور الشيخُ محمد زكريا بن يحىى الكاندهلوي.

       أما الشيخ محمد يعقوب النانوتوي فهو أوَّل من تولّى شياخة الحديث في دار العلوم سنة 1283هـ، وظلَّ يشغلها طوال 19 عامًا، حتى وفاته. تخرَّج عليه فيها كبار العلماء الأفاضل، أمثال: شيخ الهند محمود حسن الديوبندي المتوفى سنة 1339هـ، والشيخ الجليل والمصلح الكبير حكيم الأمة أشرف علي التهانوي المتوفى سنة 1362هـ، والشيخ المفتي عزيز الرحمن الديوبندي المتوفى سنة 1377هـ، والشيخ الحافظ محمد أحمد النانوتوي المتوفى سنة 1347هـ، والشيخ المحدث خليل أحمد السهارنفوري المتوفى سنة 1346هـ صاحب بذل المجهود في حلِّ سنن أبي داود، والشيخ حبيب الرحمن العثماني المتوفى سنة 1348هـ، والشيخ فخر الحسن الكنكوهي، والشيخ أحمد حسن الأمروهوي.

       ثم تولّى شيخ الهند محمود حسن الديوبندي شياخته فيها نحو 24 سنة، وكان أعلم العلماء في عصره، وكان يحفظ متون الحديث، و إذا درَّسه تموج علومه كالبحر الزاخر، وكان بحق رُحلة الأقطار. تخرَّج عليه عدد كبير من العلماء الأكفاء، أشهرهم الشيخ العلامة محمد أنور شاه الكشميري المتوفى سنة 1352هـ  صاحب فيض الباري شرح صحيح البخاري، والعرف الشذي شرح سنن الترمذي، والمؤلفات والتعليقات النافعة؛ والشيخ أشرف علي التهانوي صاحب جامع الآثار، وتابع الآثار، والتشرف؛ والعلامة شبير أحمد العثماني صاحب فتح الملهم في حلِّ صحيح مسلم، وشيخ الإسلام حسين أحمد المدني صاحب المعارف المدنية شرح الترمذي والخدمات المشكورة في تحرير البلاد؛ والشيخ فخرالدين المراد آبادي؛ والعلامة إبراهيم البلياوي، ومن إليهم.

       ثم خلفه في منصب شياخته العلامة محمد أنور شاه الكشميري، كان ذا استحضار مدهش وذاكرة قوية واطلاع واسع على أصناف العلوم، وقد جعل الحديث شعاره ودثاره، عاش له وعاش فيه وقضى حياته في خدمة السنة المشرفة. درَّس وأفاد في دارالعلوم نحو12 سنة،  وتخرج عليه كثير من العلماء المتضلعين، منهم العلامة محمد يوسف البنوري صاحب معارف السنن شرح سنن الترمذي، والعلامة محمد إدريس الكاندهلوي، والشيخ إعزاز علي الأمروهوي، والشيخ بدر عالم الميروتي،  والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، والشيخ أحمد رضا البجنوري، والشيخ منظور النعماني، والشيخ مناظر أحسن الكيلاني، وغيرهم.

       ثم اعتلى هذا المنصبَ الجليلَ شيخُ الإسلام حسين المدني المتوفى سنة 1377هـ،  وكفاه  فضلا أنه درَّس الحديث في المسجد النبوي بالمدينة المنورة نحو ثلاث عشرة سنة، ودرَّس في دار العلوم صحيح البخاري، وسنن الترمذي مدة 32 سنة، كان غزير العلم، قويَّ الذاكرة، حافظًا لمتون الكتب، مرجعًا في التفسير والحديث. تخرج عليه طائفة كبيرة من علماء العرب والعجم، أشهرهم الزعيم السياسي المعروف الشيخ عبد الحميد باديس، و الشيخ عبد الحفيظ الكردي عضو المحكمة العليا، والشيخ أحمد البساطي نائب القاضي بالمدينة المنورة، والشيخ محمود عبد الجواد رئيس بلديتها، والشيخ محمد بشير الإبراهيمي الجزائري.

       وتخرَّج عليه من علماء الهند الشيخُ شريف الحسن الديوبندي المتوفى سنة 1397هـ، والشيخ نصير أحمد خان المتوفى سنة 1431هـ، والشيخ عبدالحق الأعظمي المتوفى سنة 1437هـ، والشيخ مصطفى الأعظمي المتوفى سنة 1439هـ، والشيخ أبو الليث الخيرآبادي، والشيخ سليم الله خان، والشيخ قمرالدين الغوركفوري، والشيخ نعمت الله الأعظمي.

       ثم زانَ هذا المنصب العالي الشيخُ فخر الدين المراد آبادي المتوفى سنة 1392هـ الذي درَّس وأفاد في غزارة علم وسعة اطلاع، وتخرج عليه كثير من كبار العلماء، أشهرهم الشيخ سعيد أحمد البالنبوري، والشيخ أرشد المدني، والشيخ رياست علي البجنوري المتوفى سنة 1438هـ.

       ثم تولاه الشيخ شريف الحسن الديوبندي، وأخذ عنه كثير من جيل العلماء المعاصرين.

       ثم اعتلاه الشيخ نصير أحمد خان البلندشهري الذي درَّس المجلد الأول من صحيح البخاري 32 سنة، وتخرج عليه خلال هذه المدة نحو 20000 من طلبة العلم.

       و كان مُكْثِرًا من مطالعة كتب الحديث وخاصة الجامع الصحيح للإمام البخاري، فقد كان يتلو منه جزءًا كاملاً يوميًّا.

       كما درَّس معه الشيخ عبد الحق الأعظمي المجلد الثاني منه، وتخرج عليهما كثير من العلماء الشباب.

       ثم تولاه- ولايزال- الشيخ سعيد أحمد البالنبوري صاحب تحفة القارئ شرح  صحيح البخاري، وتفسير هداية القرآن، ورحمة الله الواسعة شرح حجة الله البالغة، و غيرها من المؤلفات النافعة، وهو يدرس المجلد الأول من صحيح البخاري، والشيخ قمرالدين الغوركفوري يدرِّس المجلد الثاني منه.

       ومن أبناء دار العلوم ومنسوبيها المحدثين الذين بذلوا قسطًا كبيرًا من حيواتهم في خدمة الحديث النبوي الشريف تدريسًا وتأليفًا وتحقيقًا وتعليقًا شيخ الهند محمود حسن الديوبندي، والشيخ خليل أحمد السهارنفوري ثم المدني، والشيخ محمد يحيى الكاندهلوي، والشيخ فخر الحسن الكنكوهي، والشيخ أحمد حسن الأمروهوي، والعلامة محمد أنور شاه الكشميري، والشيخ حسين أحمد المدني، والشيخ أشرف علي التهانوي، والعلامة شبير أحمد العثماني، والعلامة محمد إبراهيم البلياوي، والشيخ فخر الدين المرادآبادي، والشيخ ظفر أحمد التهانوي، والشيخ أحمد رضا البجنوري، والشيخ بدر عالم الميروتي، والعلامة محمد يوسف البنوري، والشيخ حميد الدين الفيض آبادي، والشيخ محمد إدريس الكاندهلوي، والشيخ محمد يوسف الكاندهلوي، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، والشيخ محمد إسماعيل السنبهلي، والشيخ عبد الجبار الأعظمي، والشيخ إسلام الحق الأعظمي، والشيخ محمد ميان الديوبندي، والشيخ شريف الحسن الديوبندي، والشيخ نصير أحمد خان البلندشهري، والشيخ عثمان غني، والشيخ خورشيد عالم الديوبندي، والشيخ محمد يونس الجونفوري، والشيخ محمد تقي العثماني، والشيخ سعيد أحمد البالنبوري، والشيخ عبد الحق الأعظمي، والشيخ نعمت الله الأعظمي، والشيخ أرشد المدني، والشيخ المفتي أبو القاسم النعماني، والشيخ قمر الدين الغوركفوري، والشيخ رياست علي البجنوري، والشيخ سرفرازخان صفدر، والشيخ سليم الله خان، والشيخ واجد حسين الديوبندي، والشيخ عبد السلام المظفرنجري(5).

*   *   *

الهوامش:

(1 )       الثقافة الإسلامية في الهند، ص: 135.

(2)        المصدر السابق.

(3 )       مجلة الداعي، عدد خاص، شهري مارس وأبريل 1980م

(4 )       المصدر السابق.

(5 )       دار العلوم كي جامع اور مختصر تاريخ ص: 340.

*  *  *


(*)    أستاذ بالجامعة.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1439 هـ = أغسطس – سبتمبر 2018م ، العدد : 12 ، السنة : 42

Related Posts