دراسات إسلامية

بقلم:  الأستاذ عبد الرؤوف خـان الغزنوي الأفغاني (*)

إن من نِعَم الله العظيمة نعمة اللسان؛ فإن الإنسان محتاج في حياته اليومية إلى لقاء ذويه وزملائه وبني نوعه وتبادل الآراء والأفكار معهم حولَ ما يتعلّق بشؤون حياتهم من الأكل والشرب والبيع والشراء والتعلُّم والتعليم والتنقّل من مكان إلى آخر. والوسيلةُ السريعةُ الوحيدة للمحادثة وتبادل الآراء والإفادة والاستفادة هي هذا العضو الصغير جسمًا والعظيم نفعًا المسمّٰى باللسان.

       والإنسان بالنسبة إلى حياته الدينيّة مأمور من الله عزّ وجلّ بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم بأداء الصلاة وقراءة القرآن والتسبيح والتكبير والتحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكـر، ولايمكن له امتثال تلك الأوامر والقيام بأداء تلك المسؤولية التي تعــــــــود عليه من قِبَل ربّه عزّ وجلّ إلاّ عن طريق اللسان. فلاشكّ أن هٰذا العضو البسيط الذي جعله الله تعالىٰ بين لَحْيَي الإنسان يقوم بأداء مسؤوليّات متنوّعة كثيرة، وله أهميّة كبيرة في حياة الإنسان، فيجب عليه أن يشكر ربّه عزّ وجلّ على هٰذه النعمة الجليلة التي منّ بها عليه مجّانًا.

       فمن صُوَر الشكر على نعمة اللّسان أن يُشْغِلَه الإنسانُ كثيرًا في ذكر الله تعالىٰ وفيما يرضىٰ به الله بالإضافة إلى إشغاله في أمور مشروعة تتعلّق بشؤون حياته اليوميّة، وأن يحفظه من الوقوع في أعراض الناس وأكل لحومهم ومن السبّ والشتم والكذب والبهتان. والذي يشاهَد اليوم في مجتمع المسلمين –مع الأسف الشديد- أن بعض الإخوة المسلمين يرتكبون الكذبَ ومعاصيَ اللسان الأخرىٰ لِأَغراضٍ دنيويةٍ ضئيلةٍ، ولايفكّرون في أن ارتكاب هذه المعاصي يعود عليهم بأضرار ضخمةٍ تتعلّق بدينهم ودنياهم، فنظرًا إلى هٰذه الظاهرة المنتشرة في المجتمع أودّ أن أذكر بتوفيق الله تعالىٰ خطورةَ الكذب وأضرارَه الدينيّةَ والدنيويّةَ ومعالَـجَتَه.

خطورة الكَذِب

       إن الكَذِب لايليق بشأن المؤمن؛ فإنه من علامات المنافق ومن لايؤمن بالله، يقول الله عزّوجلّ: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيٰتِ اللَّهِ وَأُولٓئِكَ هُمُ الْكٰذِبُونَ﴾ (النحل:105)، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث، إذا حدّث كَذَب، وإذا وعـــــــد أخلف، وإذا اؤْتُـمِــــــن خان» (متفق عليه)، وزاد مسلم في روايةٍ «وإن صام وصلّٰى وزعم أنه مسلم»، وعن ابن مسعود – رضي الله عنه- قال قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- «إن الصدق يهدي إلى البِرِّ وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكْتَبَ عند الله صدّيقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذِب حتى يُكْتَبَ عند الله كذَّابًا» (متفق عليه).

       ونظرًا إلى خطورة الكذب كان سلفنا الصالح يجتنبون كلّ الاجتناب عن التحدّث بكلمة واحدة مُزَيَّفَةٍ، وعن كتابة حرف واحد فيه شائبة من الكذب فضلًا عن التحدث بقصة كاملة كاذبة أو كتابةِ موضوع تامٍّ مختَلَقٍ، وبذٰلك قد بورِك لهم في كلامهم، وانتفع الناس بكتبهم، وقدروىٰ الإمام أبوحامد الغزالي – رحمه الله- في كتابه «إحياء علوم الدين» عن ميمون بن أبي شبيب الرِّبعيِّ أحد التابعين – رحمه الله- أنه قال «جلست أكتب كتابًا فأتيتُ على حرف إن أنا كتبتُه زيَّنْتُ الكتابَ وكنتُ قد كَذَبْتُ، فعزمتُ على تركه فنوديتُ من جانب البيت! ﴿يثَبِّتُ اللهُ الَّذِين آمنُوْا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيٰوةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (إحياء علوم الدين: 3/136).

أضرار الكَذِب المتنوّعة

       إن للكذب أضرارًا دينيّةً ودنيويّةً متنوّعةً نذكر بعضها فيما يلي، أعاذنا الله جميعًا من الكذب وأضراره:

الضرر الأوّل

       إن الإنسان إذا أطلق عنانَ لسانه ولم يحفظه من الكذب فهو يرتكب الكذبَ بين آونةٍ  وأخرىٰ حتى يتعوّده، ثم يمارسه في كل يوم مرارًا ولايبالي، فَيُكْتَبُ عند الله كذّابًا، كما مرّ ذكره في الحديث النبوي المتفق عليه برواية عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- وأيُّ ضررٍ أعظم في حياة الإنسان الدينيّة من أن يُكْتَبَ عند الله كذّابًا؟.

الضرر الثاني

       إذا كذب الإنسان مرَّةً كاد كَذِبُه يتبيَّن –كما هو المعتاد؛ فإن الكذب لايبقىٰ دائمًا وراء الستار- فهو يبحث عن المبرِّرات لكَذِبه؛ لكي يُثْبِت أنه حقٌّ وليس بكَذِبٍ، فيرتكب بذلك عدّةَ كذبات أخرىٰ، فكَذبَةٌ واحدةٌ تُوقِع الإنسان في كَذَباتٍ كثيرة، ثمّ تظهر حقائق كذباته واحدةً إثر أخرىٰ حتى يصبح معروفًا بين الناس بالكذّاب فيُحْرَم بذلك الكرامةَ الإنسانيّة في المجتمع! وأيّ ضرر أعظم في حياة الإنسان الدنيويّة من حرمانه الشرفَ الإنسانيّ في بيئة زملائه وأقرانه ومَعَارفيه؟.

الضرر الثالث

       إذا طارصِيتُ الإنسان وذاعَتْ شهرتُه في المجتمع بالكذَّاب فهو إذا نطق بالصدق – فإنه ليس من اللازم أن لاينطق الكاذب بالحق والصدق أبدًا – لايصدّقه الناس ولايثقون به، وعدمُ ثقه الناس بكلامه قد يؤدّي به إلى مواجهة المشكلات ويتسبّب له في الصعوبات! وتذكّرتُ بذلك قصّةً شهيرةً بين الناس – والله أعلم بحقيقتها- أن راعيًا للغنم كان ينادي أصحابَه بصوته المدهِش بين آونة وأخرىٰ! هلمُّوا إلى مساعدتي؛ فإن الذئاب قد هاجَمَتْ قطيعَ غنمي! فيتّجه أصحابُه إلى مساعدته على الفور، فإذا أتوه لم يجدوا الذئاب وضحك الراعي قائلًا: كنت أمازحكم، ففقد الراعي بأسلوبه هذا ثقةَ أصحابه بكلامه. وقد حدث حقيقةً في يوم من الأيّام أن الذئاب قدهاجَمَتْ قطيع غنمه، فصاح ونادى أصحابَه للمساعدة! ولكنهم لم يثقوا به ولم يتجهوا إلى مساعدته حتى أفسدت الذئابُ قطيعَ الغنم وبقي الراعي متأسِّفًا مغمومًا.

الضرر الرابع

       إن الرجل الكذّاب يحتاج في كلامه إلى تأكيده باليمين؛ لأنه يشعر دائمًا بأن كلامَه غير موثوق به، فيحلف ويؤكّد كلامَه العادي باليمين دون أن يُسْتحلَف، فإن كان صادقًا في قوله فضررُه أنه يعدّ نفسَه مضطرًّا إلى اليمين في كلامه العادي فضلًا عن كلامه المهمّ، وإن كان كاذبًا وهو يحلف أنه صادق فالضرر أعظم والمصيبة أشدّ؛ فإن ارتكاب الحلف الكاذب من كبائر الذنوب! بينما يُشاهَد الرجل الصدوق يتحدث دائمًا هادئًا مطمئنًّا، لايشعر بنقص وقصور في كلامه ولايعتري عليه القلق والارتباك في تحدّثه، فلايَحْلِف ولايُسْتحلَف.

صُوَر من معالَـجَة الكذب

       نذكر فيما يلي صُوَرًا من معالَـجَة الكَذِب مستفيدين في ذلك من الكتاب والسنة؛ عسى أن ينتفع القارئ الكريم بها:

الصورة الأولىٰ

       على الذي يحضُّه الشيطان على ارتكاب جريمة الكذب لمصلحةٍ دنيئةٍ يزيّنها له أن يفكّر فيما أسلفنا من خطورة الكذب وأضراره المتنوّعة وأن يمعِنَ النظر في أنه لاينطق بكلمة إلاّ وهي تُسَجَّل في سجلّه الخاص، فيحاسَب عليها يوم القيامة، يقول الله سبحانه وتعالىٰ: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق:18)، ويقول: ﴿فَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَّرَهُ وَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَّرَهُ﴾ (الزلزال: 7-8).

الصورة الثانية

       يجب على من يؤمن بالله وكتابه أن لايتحدث بكل خبر بلغه من عامّة الناس أو من طريق الإذاعات أو قرأه في الجرائد اليومية التي تنشر كل شيء دون التأكّد من حقيقته؛ فإنه قد يرتكب بذلك الكَذِبَ فيندم، يقول الله –عزّ وجلّ-: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نٰدِمِينَ﴾ (الحجرات:6)، وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن الني –ﷺ- قال: «كفىٰ بالمرء كَذِبًا أن يحدّث بكل ماسمع» (رواه مسلم)، وعن سمرة –رضي الله عنه- قال قال رسول الله –ﷺ- «من حدّث بحديث يرىٰ أنه كَذِب فهو أحد الكاذبين» (رواه مسلم).

الصورة الثالثة

       على الذي يحدث له الوقوعُ في معصية الكذب أن يلتزم الصمتَ، ويحفظ لسانَه عن التحدث إلّا بكلام فيه خير وبركة أو كلام مباح يتعلق بمستلزمات حياته، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي-ﷺ- أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». (متفق عليه).

       وعن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «لاتُكْثِروا الكلامَ بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالىٰ قسوةٌ للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» (رواه الترمذي).

جواز الكذِب في بعض الصور بشروط عند الحاجة المشروعة

       قد ذكر الإمام يحيى بن شرف النووي –رحمه الله- في شرحه علىٰ صحيح مسلم وفي كتابه «الأذكار» وفي «رياض الصالحين» جوازَ الكذب عند أهل العلم في بعض الصور بشروط في ضوء ما ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- برواية أمّ كلثوم –رضي الله عنها- أنها سمعت رسولَ الله –ﷺ- يقول: «ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا» (متفق عليه). وزاد مسلم في رواية «قالت أمّ كلثوم: ولم أسمعه يرخّص في شيء ممّا يقول الناس إلاّ في ثلاث تعني الحربَ والإصلاحَ بين الناس وحديثَ الرجل امرأتَه وحديثَ المرأة زوجَها».

       وذكر الإمام أبوحامد الغزالي –رحمه الله- في كتابه «إحياء علوم الدين» عن ميمون بن مهران الجزري الكوفي أحد التابعين –رحمه الله- أنه قال: «الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، أرأيتَ لو أن رجلًا سعىٰ خلف إنسان بالسيف ليقتله فدخل دارا فانتهى إليك فقال: أرأيتَ فلانًا؟ ما كنتَ قائلًا؟ أَلسْتَ تقول: لم أره؟ وما تصدق به، وهذا الكذب واجب» (إحياء علوم الدين 3/137).

       وملخَّص ما قال الإمام النووي أن كل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلاّ بالكذب وكان تحصيله مباحا كان الكذب مباحًا، وإن كان واجبًا كان الكذب واجبا، فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتلَه أو يريد أخذ ماله ظلمًا فأخفىٰ مالَه، ثُـمَّ سُئِل إنسان عنه أو عن ماله وجب عليه إخفاؤهما، وكذا لوكانت عنده وديعةٌ وأراد ظالم أخذَها وجب عليه إخفاؤها، والأحوط في ذلك أيضًا أن لايرتكب كذبًا صريحًا؛ بل يورّي ويأتي بعبارة يقصد بها مقصودا صحيحا، وإن كان بالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب منها كاذبًا.

       يقول كاتب السطور: ومثال التورية في مثل ذلك المقام الحاسم ما روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن أبابكر الصديق –رضي الله عنه- كان إذا قابله أحدُ متعارفيه في طريق هجرته مصاحِبًا للنبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة، فسأله عن صاحبه وهو لايعرفه أنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم «فيقول: يا أبابكر! من هذا الرجل الذي بين يَدَيك؟ فيقول: هٰذا الرجل يهديني الطريق، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني به الطريقَ، وإنما يعني سبيلَ الخير» (صحيح البخاري: 1/556) فكان أبوبكر –رضي الله عنه- يقصد بكلامه أنه نبي يرشدني إلى الحق وإلى طريق مستقيم ويُرْسِخُ في ذهن السائل أنه دليل يدلّه على الطرق الجبليّة والصحراويّة الخفيّة، فيتوقّٰى الصدّيق ارتكاب الكذب الصريح مع مواجهته هٰذه المرحلةَ الحاسمةَ، كما كان يلتزم السرّيّةَ في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا يعين الله الصدّيقين.

       وقرأتُ في بعض المقالات باللغة الأرديّة قصّةً لِـمؤسِس الجامعة الإسلامية «دارالعلوم ديوبند، الهند» فضيلة الشيخ/محمد قاسم النانوتوي في زمن الاستعمار الإنكليزي ألخّصها باللغة العربيّة فيما يلي:

       أُخْبِرت الحكومةُ الإنكليزيّة المستعمِرةُ أن الشيخ/ محمد قاسم النانوتوي كان من المشاركين في «معركة شاملي» الشهيرة التي أقيمت ضدّ الحكومة المستعمِرة، فأصدرت الحكومةُ الأمرَ بالقبض عليه، فدخلت الشرطةُ مسجد «تشْتَهْ» في مدينة ديوبند للقبض عليه، وقد كان الشيخ النانوتوي موجودًا فيه؛ ولكن لم تعرفه الشرطةُ، وسألَتْه: أين الشيخ/محمد قاسم النانوتوي؟ فتورّع الشيخ عن ارتكاب الكذب الصريح في مثل هذه الحالة الحرِجة ولم يردّ عليها بأنه غير موجود هنا، أو قد خرج من المسجد؛ بل تأخّر خطوةً أو خطوتَين عن مكانه، ثم أشار إلى مكان كان فيه قبل لحظةٍ قائلًا: إنه قد كان قبل قليل هنا! فظنت الشرطةُ أنه ربما خرج من المسجد قبل قليل ويكون موجودًا حولَه فخرجتْ بسرعةٍ للبحث عنه، ونجّى الله سبحانه وتعالىٰ الشيخ/النانوتوي من شرّها، وهكذا يُنْجي اللهُ عبادَه المؤمنين.

*  *  *


(*)    أستاذ سابقًا بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند-الهند

وأستاذ حاليًّا بجامعة العلوم الإسلامية كراتشي- باكستان

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1439 هـ = أغسطس – سبتمبر 2018م ، العدد : 12 ، السنة : 42

Related Posts