دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-
(المتوفى 1399هـ / 1979م)
ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)
في سبيل الحفاظ على الدين وصيانته
استمرت الدول الأروبية المسيحية في العداء للمسلمين منذ القديم، ولم تعتبر الأمم التي تعبد الأصنام أعداء لها، فإنهالم تكن لتشكل خطرا في الأمم المسيحية للسياسة الدولية، وأما المسلمون فكانوا يحتلون مكانة عالمية، فقد أنشؤوا حكومات لا في آسيا؛ بل حكموا أسبانيا – إحدى الدول الأوربية – ثمانية قرون، كما حكموا القسطنطنية -عاصمة الروم الشرقية – والدول الخاضعة لها ست مئة سنة، وخصم النصارى في الواقع هم المسلمون، وخاضت الأمتان حروبًا ضروسًا خلال أربعة عشر قرنا من الزمان، وشهدت أرض فلسطين وحدها ثلاث عشرة حربًا صليبية، شارك فيها الأسطول الأوربي الموحد، ومُنِي أخيرا بالهزيمة، وتصدى للأتراك أمم أوربا النصرانية طوال ستة قرون من الزمان، وكانت الدول النصرانية لايساورها الخوف إلا من المسلمين، تواصل ليلها نهارها نسج المؤامرات الهادفة إلى زعزعة القوة السياسية الإسلامية واستغلالها، ودخل الإنجليز أرض الهند مدفوعين بالمطامع التوسعية وهي تحت الحكم الإسلامي، يترفرف عليها علم المسلمين، فاعتبروا – الإنجليز – المسلمين خصمًا لهم، ولم يدخروا جهدا في وضع المخططات الرامية إلى التغلب عليهم وقهرهم، ولم يروهم يستحقون جانبا من المسامحة والنصح. وثورة عام 1857م وحرصهم على الثأر من المسلمين في خصوصها حرمهم العواطف الإنسانية من العدل والمساواة تجاه المسلمين أيضًا. وبما أن المسلمين كانوا في طليعة ثورة عام 1857م والحركات المعارضة للإنجليز فيما قبلها سددت الحكومة الإنجليزية – بعد ما استحكمت قبضتها على الهند ورسخت أقدامها- سهام عتابها وصبت جام غضبها على المسلمين. وبعد ما منيت قوة المسلمين السياسية في الهند بالهزيمة، وأحكمت شركة الهند الشرقية على الهند سيطرتها طالت نشاطات الإرساليات التبشيرية طول الهند وعرضها بكل حماس وجد، وشهدت الهند أول نشاطاتهم على عهد الحكم المغولي، يقول خافي خان- مؤرخ معاصر-: «أنشأ الإنجليز مناطق خاصة بهم في معظم الموانئ الساحلية، فيصادرون أموال من تحتهم إذا ماتوا، و يستعبدون ذريتهم – مسلمين كانوا أو هندوسًا- وينصِّرونهم»(1).
والوسائل التي مارسها الإنجليز لنشر النصرانية في الهند أثارت شكوكا عميقة بصورة رهيبة.
«وأحكمت نشاطات الإرساليات التبشيرية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي قبضتها على البلاد كلها. وخول قانون صادر عام 1813م/1228هـ للمبشرين القادمين من أوربا فتح مدارس تبشيرية في الهند، فقامت المدارس والكليات التبشيرية علاوة على المستشفيات التبشيرية وجمعيات الكتاب المقدس في أرجاء البلاد القاصية والدانية، تعمل على تقريب الهنود إلى النصرانية، فتوافدت أفواج من الرهبان من بريطانيا وغيرها من الدول الأوربية، وأنفقوا ملايين من الروبيات على ذلك، وتم توظيف عدد كبير من النساء بجانب الرجال في الأعمال التبشيرية، لنشرها في النساء، وكان المبشرون لهم دور وتأثير كبير في المنبوذين. كما ارتد آخرون من دونهم عن دينهم الذي ورثوه أبًا عن جد.
وقام «آرج بيشب هيبر(2) (Heber) رئيس الأساقفة في كنيسة إنكلترا عام 1826م /1242هـ برحلة تبشيرية طويلة في الهند، وقدم تقريرًا إلى مدراء شركة الهند الشرقية يقول: «قد أحكمنا سيطرتنا على الهند طولها وعرضها، وقد خضع لنا كلهم من المسلمين والمراتها والراجبوت والسيخ، فلانخاف فتنة أو اضطرابًا إذًا فيما يخصّ النشاطات التبشيرية في الهند. وكل ذلك أعان كثيرًاعلى توافد المبشرين إلى الهند ونزولهم وانصرافهم إلى النشاطات التبشيرية. فنسل سيل من المبشرين إليها، وانتشر هؤلاء المبشرون المتحمسون في أكناف الهند، ونشروا شبكات التبشير في القرى والمدن الهندية بحذافيرها. ولم يكن يقتصر هؤلاء على بيان فضل دينهم ومحاسنه و خصائصه؛ بل كانوا ينشرون– وفق مخطط مدروس- كتيبات تستهزئ بالديانات الهندية وبصفة خاصة الثقافة الإسلامية وتوجيهات الإسلام، وتنال من نبي الإسلام والملوك المسلمين و الصالحين منهم، ولعلهم استهدفوا بذلك أن المسلمين قد حرموا العزيمة الماضية والطموح –بعد أن منوا بالهزيمة السياسية، فلو أنهم – المبشرين- استغلوا هذه الفرصة وألقوا عليهم فضل النصرانية وخصائصها ومحاسنها بالإضافة إلى بيان هنات دينهم وتاريخهم– المسلمين- ومعايبهما فما أقرب أن يرتد هؤلاء المسلمون عن دينهم ويعتنقوا النصرانية. فيخلو الجو للإنجليز لحكم هذه البلاد حكمًا خالدًا دائمًا. وفي عام 1834م/1250هـ قدم الدكتور سي جي فاندر(3) –أحد مشاهير المبشرين في كنيسة إنكلترا الهند، وهو في الأصل مبشر ألماني، يقدر على الخطابة والكتابة باللغتين العربية والفارسية، عمل في عام 1835م/1251هـ كتابا باللغة الفارسية في الرد على الإسلام سماه «ميزان الحق»، وهو أول كتاب يرد على الإسلام يرى النور في ربوع الهند.
ويعد السر سيد أحمد خان الراحل بدوره – الذي ساهم ما أمكنه من المساهمة في الدفاع عن الإنجليز وأخلص وفاءه لهم من ريب أوشك فيه- يعد مكايد هؤلاء المبشرين الخافية والظاهرة من أهم أسباب الثورة، فيقول:
«كان الناس كلهم على يقين من أن الحكومة لن تحمل الناس علنًا وجهرًا على التحول إلى دينها، إلا أنها لن تدخر جهدًا في إفساد دينهم عليهم من خلال المكايد الخافية – شأنَها في القضاء على اللغة العربية والسنسكريتية- فتقود البلاد إلى الفقر والجهل والأمية، وتُطمع الناس في الوظائف الحكومية وعن طريق نشر كتبها ومواعظ رهبانها تردهم عن دينهم».
وكان الأيتام الذين تم تنصيرهم في المديريات الشمالية والغربية إبان المجاعة التي ضربت البلاد عام 1837م- يضرب بهم المثل على موقف الحكومة، في إنذار بأنه سيتم تنصير الهند بسوقها إلى الفقر والعوز هكذا. ويزداد الهنود همًا وغمًا مع نجاح الحكومة في التوسع في المناطق الهندية. فإنهم كانوا على يقين من أن العدو أو الحاكم المجاور إذا أمن القلق والاضطراب في المنطقة؛ فإنه لايبالي بالتدخل في دينهم وتقاليدهم بصورة مكشوفة، ولم يكن يخفى على أحد أن الحكومة نصبت الإرساليات التبشيرية و أجرت لهم الجراية والرواتب، وتقدم لهم مبالغ هائلة لتوزيع الكتب والنفقات الأخرى. ويقوم حكام البلاد وضباط الجيش بالتحدث مع مَن تحتهم من الهنود عن الشؤون الدينية، ويطلبون الإرساليات التبشيرية إلى قصورهم وبيوتهم ويعقدون مناظراتهم ليسمعها الناس. وبلغ الأمر أن خاف الناس على دينهم ودين أجيالهم القادمة في ظلال هذه الحكومة. وكانوا يوزعون كتبا ألفت على صورة سؤال وجواب، تخص المناقشات الدينية، وتشن هجمات شنيعة على الأديان الأخرى، وتوجه إليها اعتراضات سخيفة. وكان المنصرون يحضرون تجمعات الأديان الأخرى ويلقون فيها كلماتهم ومواعظهم، ولايتجرأ أحد على الشكوى إلى الحكام خوفًا منهم. وربما استصحبوا معهم عمال المصالح الحكومية، و أنشئ كثير من المدارس التنصيرية، وبدأوا يدرسون فيها التوجيهات الدينية النصرانية، يرتاد إليها كبار الحكام، ويرغبون مَن سواهم في التوجه إليها، ويتم الاختبار في الكتب الدينية، فإذا رد الطلاب على الأسئلة الاختبارية بما يوافق النصرانية خصوا الأطفال الأحداث الأسنان بالجوائز، فاضطرالناس إلى توجيه أولادهم إليها، إذ لم يعد لهم سبيل إلى تعليمهم وتثقيفهم إلإ إلحاقهم بهذه المدارس، من جراء فقرهم المدقع وعوزهم المفرط، حتى يتمكنوا من الاستبقاء على حياتهم وعيشهم.
وعملت المدارس الريفية على التأكيد أكثر فأكثر على أن هدفهم الأساسي هو تنصيرهم، فكانوا يطلقون على حكام المدينة ونوابهم «القساوسة السود»، فإنهم كانوا – ابتغاء مرضاة السلطات العليا- يكرهون على إلحاق الأطفال بهذه المدارس، فكان أولياؤهم على علم جازم بأنه محاولة لتنصيرهم، وكان هؤلاء القساوسة السود يصدرون شهادات تعينهم على نيل الوظائف الحكومية.
وأرسل القسيس «أيد مند» عام 1857م من كالكوتا إلى الناس عامة وإلى الموظفين الحكومين كتبًا تفيد بأن الهند كلها تخضع لحكومة واحدة، فيجب أن تعتنقوا دينًا واحدًا وهو النصرانية.
وأثارت هذه الكتب المخاوف في قلوب الناس جميعا، وأظلمت عليهم الدنيا، وأيقنوا بأن الذي تخوفوا وقوعه في الهند قد آن أوانه، ويجب على الموظفين كلهم أن يعتنقوا النصرانية. وكان الموظفون الحكوميون يتكتمون على هذه الكتب حياء؛ فإن أحباءهم كانوا يلعنونهم، ويجزمون بأن الموظفين الحكوميّين يجب أن يعتنقوا النصرانية يومًا من الأيام»(4).
وقال اللورد ماكولي(5) (Lord Macaulay)– الذي رأس اللجنة التعليمية – في تقريره عن المنهج التعليمي اللاحق في الهند: «بودّنا أن نخلق جيلًا من الناس، يقوم بدور المترجم بيننا وبين رعيتنا، و يجب أن يكون هذا الجيل هندي الدم واللون، وإنكليزي المذاق والفكر والرأي والفهم»(6).
وكانت شركة الهند الشرقية تهدف فيما يبدو – إلى التجارة في الهند، وفي الواقع كانت ترمي إلى تنصير الهند، وبسط سيطرتها السياسية عليها. وبدأت تتدخل في شؤون الهند السياسية والتعليمية والإدارية، وأنشئت لتحقيق هذا الهدف في المناطق الكثيرة لجان الكتاب المقدس، ونقل الإنجيل إلى مختلف لغات البلاد، وفتحت مراكز التنصير في المدن كلها صغيرها وكبيرها، وتكاتف حكام الشركة والمنصرون على الدعوة إلى النصرانية بكل قوة. ووضع الإنجليز مشروعًا لتنصير الهنود وبصفة خاصة المسلمين بصورة أو أخرى لتغيير اتجاه العصبية الدينية، التي تحملهم على النفور من الإنجليز ومخالفتهم لهم. ويمكن استخدام هذه القوة في إحكام قبضة الحكومة البريطانية، ومد نطاق التبشير في الهند، وبالتالي توفير فرصة الحكومة عليها براحة وطمانينة.
* * *
الهوامش:
(1) ترجمة أردية لكتاب:منتخب اللباب لصاحبه :خافي خان 2/73، ط: مطبعة إيجوكيشن ، كراتشي، عام 1963م.
(2) آر بي شب هيربير( R bishop Heber)( 2 مارس 1840- 10ديسمبر1902م): ولد في أمريكا، رجل أعمال، تعلم التجارة ، تعين عضوا في الغرفة التجارية بـنيويورك
(3)- فاندر: القس عمدة المستشرقين والمبشرين في مناظراتهم للمسلمين، تصدى له في الهند الشيخ رحمة الله الهندي ( 1233-1308 هـ ) وقامت بينهما مناظرة علنية في 11-رجب-1270 هـ الموافق 10- نيسان أبريل-1854م في مدينة أكبر آباد، وحضر هذه المناظرة ولاة المديرية ، وموظفو الثكنة الإنجليزية، وعدد كبير من أعيان البلد ووجهائهم. وأسفرت المناظرة في يومها الأول عن اعتراف القس فاندر بوقوع التحريف في ثمانية مواضع من الإنجيل. وفي اليوم الثاني تزايد عدد الذين حضروا المناظرة من الحكام الإنجليز والمسيحيين والهنادك والسيخ ، وظهر ضعف القس فاندر في المناظرة وظهر تعنته. وفي اليوم الثالث لم يعد القس إلى مجلس المناظرة التي لم تنته، وكان كلما علم بوجود الشيخ رحمة الله في مكان ابتعد عنه ولم يستطع مواجهته.
(4) رسالة أسباب الثورة للسر سيد أحمد خان ملخصًا.
(5) توماس بابنجتون ماكولي المعروف بـ اللورد ماكولي (1800-1859 م) سياسي ومؤرخ وشاعر بريطاني. يشتهر بخطابه الذي ألقاه في البرلمان الإنكليزي في الثاني من شباط 1835 م، والذي جاء فيه: «لقد سافرت في الهند طولًا وعرضًا ولم أرى شخصًا واحدًا يتسول أو يسرق، لقد وجدت هذا البلد ثريًا لدرجة كبيرة، ويتمتع أهله بقيم أخلاقية عالية، ودرجة عالية من الرقي، حتى أنني أرى أننا لن نهزم هذه الأمة، إلا بكسرعمودها الفقري ، وهو تراثها الروحي والثقافي. ولذا أقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد ليحل محل النظام القديم؛ لأنه لو بدأ الهنود يعتقدون أن كل ما هو أجنبي وإنجليزي جيد وأحسن مما هو محلي، فإنهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم وثقافتهم المحلية، وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا، أمة تم الهيمنة عليها تماما».
وقد استطاع ماكولي تطبيق فلسفته، حيث تم في نفس العام تحويل التعليم في المدارس الهندية إلى نظام إنكليزي خالص. ترجم له ابن شقيقه جورج تريفليان في كتاب صدر سنة 1876 م. للاستزادة من ترجمته راجع: Wikipedia, the free encyclopedia.
(6) تاريخ التعليم للميجور باسو ص 105، نقلا عن روشن مستقبل – المستقبل الباهر- ط: رابعة، ص 131.
(*) أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1439 هـ = أغسطس – سبتمبر 2018م ، العدد : 12 ، السنة : 42