إشراقة

تَحَدَّثَ عن الأم والحنين إليها والحبّ لها علماءُ وكُتَّابُ وشعراءُ وأدباءُ ومُفَكِّروكلِّ لغة وشعب بأبلغ ما عندهم من أساليب، وأعذب ما لديهم من ألحان وأنغام، وأعمق ما يشعرون به من حُرْقَة وجَوَى، وأصدق ما يُكِنُّونَه في أعماق قلوبهم من حب صافٍ لايقدر عن التعبير عنه أَوْفَىٰ ما عَرَفَه الوجودُ من الصياغة الدلاليّة عن مكنونات الضمير ومُحْتَوَيَات القلب.

       لأنها أَنْعَمُ نعمةٍ في حياة الإنسان، كلُّ نعمة غيرها قابلةٌ للشراء والاقتناء إذا فاتتِ الإنسانَ؛ ولكنه لن يصل إليها بكل ما في الكون من ناطق وصامت. إنها كلُّ معاني السعادة والارتياح والطمأنينة، وفي غنى عنها ليس في الدنيا إلا الشقاءُ والضياعُ والخذلانُ. إنها سَنَدُ السعادةِ، ومصدرُ الوفاءِ وأصلُ الودِّ، وكلُّ الحبِّ، وسِرُّ الوجودِ، وروحُ الحنانِ، وأساسُ الحياة، إن الحياةَ بوجودها الجنةُ الغَنَّاءُ والروضة الفَيْحَاءُ، وفي غيابها الدنيا كلُّها جحيمٌ لا تُطَاق. إن وجودَها ضمانُ أمانٍ من كلِّ خَطَر وضَجَر، ومن كل مفاجآت مصيبة بسوء، وغيابَها يجعل الإنسانَ في عراء قد يجعله غرضًا لأحجار المصائب؛ ولذلك شَهِدَ التاريخُ أن كلَّ من عَقَّ أُمَّه لم يَرَ الخيرَ والسعادةَ في حياته، كما شَهِدَ التاريخُ أن كلَّ من أساء إلى أمه أساء إليه أبناؤه. إن الإساءة إليها يُعَذَّب بها الإنسانُ في الدنيا، وما يلاقيه في الآخرة أَشَدُّ وأَنْكَىٰ، أعاذنا الله من هذا الشقاء بمنّه وفضله.

       إن الرجالَ الكبارَ هم صنائع أمهاتهم؛ ولذلك قيل: الأمُّ هي كلُّ شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والتسلية في المصاب، هي الرجاء في الياس، هي القوة في الضعف. لا توجد في العالم وِسَادَةٌ أنعم من حضن الأم، ولا وردةٌ أجمل من ثَغْرِها. الأمُّ هي النبعُ الذي يستمد المرءُ منه أسمى مبادئ الحياة. الأمُّ هي التي تصنع الإنسانَ في قالب مَرْضِيّ. لايطمئن الإنسانُ قَطُّ إلا في حضن أمه؛ فهو الحِصْن المنيع، والسور الآمِن، والفناء الذي لا يُقْتَحَم، والجدار الذي لا يُخْتَرَقَ، والقلعة التي لاتعرف ثُلْمَة، والشجرة المتجذرة التي لا تهزّها العواصف، والمَأْمَن الذي لا تجتازه فيضانات السوء والمكروه.

حبُّ الأم هو الباقي رغمَ كلّ الهزّات الكونيّة والتغيرات المكانية والتقلبات الزمانية. ليس في الدنيا فَرَحٌ يعدِل فَرَحَ الأمّ عندما يُحَالِف ابنَها التوفيقُ. حبُّ الأم لايشيخُ مهما شاخ الزمانُ. إذا صغر العالم كله فالأم تبقى كبيرةً لا يفعل فيها صِغْرُ العالم. إن أَرَقّ الألحان، وأعذب الأنغام لم يعزفها إلا قلبُ الأم. تستطيع – أيها الإنسان! – أن تشتري كُلَّ شيء إلا الوالدين. لو جَرَّدنا المرأةَ من كل فضيلة لكفاها فخرًا أنها تُمَثِّل شرفَ الأمومة. الناسُ أبناءُ الدنيا ولا يُلاَمُ الرجلُ على حبّ أمه. إن أعظم ما تَتَفَوَّهُ به الشفاه البشريّة هو لفظة «الأم». الملاذُ الأكثر أمانًا هو حضن الأم. ليس في ا لدنيا مقدار ما تُحِسُّ به الأمُّ عند نجاح ولدها. لم أعرف معنى الأمومة إلا عندما رُزِقْت بولد، حينَها عرفتُ أنّ كلَّ ما أُقَدِّمُه لأمّي، لا يساوي ليلةً واحدةً سَهِرَتْ فيها من أجلي.

       إن الأم تعاني وتكابد من أجل ولدها دونما تفكير – ولو بعيدٍ بُعْدَ الكون – في جزاءٍ لقاءَ مكابدتها. إن الأم تبتسم فتبسم الدنيا كلها حبًّا وحنانًا وبهجة وسرورًا، وتبكي فتبكي لبكائها الحياة بأسرها. إنها تَتَدَاعَى من وجدانها همساتُ الحبّ والألفة والرأفة والرحمة.

       لقد شعرتُ بهذه المعاني اللطيفة وأكثرَ منها بتجربتي مع أمّي الحنون التي كانت لي الأمَّ والأبَ معًا؛ لأني صرتُ يتيمًا إثر أسابيع بعد ولادتي؛ حيث انحسرَ ظلُّ أبي عن رأسي وأنا في الشهر الثالث من عمري؛ فكان فضلُها عليّ مضاعفًا، ومسؤوليتها نحوي باهظة، وقد أَدَّتْها بأمانة وإخلاص، وكَابَدَتْ في ذلك من الآلام والمصاعب ما لايحتمله الرجال. وفصولُ حياة المعاناة المريرة التي عاشتْها شَهِدْتُها من أولها إلى آخرها منذ أن صِرْتُ واعيًا لما يدور في الحياة. وما جرى في حياتي الخاصة، التي كانت هي حياتها كذلك. كان والدي المُتَوَفَّى في شبابه الغَضِّ عن نحو خمسة وعشرين من عمره، لم يخلف شيئًا مما كان يقتات به أبناءُ جِلْدَتِه من الأراضي الزراعية التي كانت المصدرَ الوحيدَ للرزق وعيش الحياة في منطقة وطننا الواسعة أيامئذ؛ حيث لم يكن التوظف والتجارة معروفًا فيها، وإنما كانت الزراعة والفلاحة هي التي يعتمد عليها أبناء وطننا. وإنما لم يمتلك والدي شيئًا من الأراضي الزراعية؛ لأن أباه – جدي من الأب – مات و والده – والد جدي – حَيٌّ يُرْزَق، فأصبح جدي محجوب الإرث من الأراضي الواسعة التي كان يملكها والده، فلم يورث وَلَدَه – والدي – دينارًا ولا درهمًا؛ ولكن والدي بعد ما تعلم عاد يمارس التدريسَ الذي كان يُدِرُّ له ما يكفيه في حياته الأسرية المحدودة، التي كان يعيشها بفضل الله رغيدةً، لكون الأيام رخيصةَ الأسعار، وكون حاجاتها قليلةً وبسيطةً، وكون الوالد والوالدة ضابطين لأمور الحياة لأحسن ما يُتَصَوَّر.

       لكنه بموت الوالد بنحو مفاجئ، اختلّ النظام المُتَّبَع، وانقطع مصدر الرزق تمامًا، فتَجَهَّمَ وجهُ الحياة للأسرة المُكَوَّنَة مني ومن والدتي، فَتَعَيَّنَ على أمي أن تعود أدراجَها إلى بيت الوالدين اللذين كانا هما الآخران يعيشان شظفَ العيش؛ لأن مصدر الرزق – كما سلف من أن الناس في الأغلب كانت عمدتُهم في الحياة هي الزراعة – كان أراضي زراعية قليلة لا تَسُدُّ حاجةَ الأسرة لمدى السنة الكاملة، لأنها مع قلتها كانت مُجْتَاحَة بالفيضات السنوية التي كانت تدوم شهورًا، فكانت في الأغلب تُفَوِّت على الفلّاحين فرصةَ الحرث والزرع والتسميد في موعده، فكانت تكون ضِغْثًا على إِبَّالَة.

       وكانت جدتي من الأب، فصلًا رئيسًا آخر من قصة المعاناة القاسية التي أصيبت بها الأسرة؛ لأنها هي الأخرى صارت ضائعةً تائهةً؛ لأنها كانت قد صارت أَيِّمًا منذ زمان، أظلمت الدنيا في وجهها، وكانت لا مأوى لها سوى الله، وسوى ابنتيها المتزوجتين في قريتين إحداهما قريبة من قريتها، وأخراهما بعيدة عنها. عاشت الشهور الأولى بعد وفاة ابنها مُتَرَدِّدَةً على البنتين، تمكث أسابيعَ عند واحدة، وأسابيع عند ثانية.

       وما مضت شهور حتى أَقَضَّتْ مَضْجَعَها ذكرى حفيدها الوحيد اليتيم الذي لم تتم سنته الأولى من العمر؛ حيث تَخَيَّلَتْ فيه ابنَه المُتَوَفَّىٰ ماثلاً بكيانه، وأُلْهِمَ في رُوعِها أنه قد تجد فيه سَلْوىً عن ابنها المتوفى، وأنها قد تجد إذا لَاعَبَتْه في حِضْنِها نفسَ اللذة التي كانت تَهُزُّها سرورًا وسعادةً، عندما كانت تُلَاعِب ابنَها وليدًا ثم طفلًا حتى خَرَّجَتْه رجلًا موفور الشباب.

       فعادت إلى قريتها تقيم كوخًا متواضعًا من القِشِّ مكانَ الدار الفارهة التي كانت قد هدمتها إثر موت ابنها قائلةً: لاحاجة بي إلى هذه الوسائل الماديّة الجامدة بعدما مات ابني الذي كان يلامسها فتتحرك، وتضيء، وتُعْطِي مفعولَها، وتفيض بفائدتها من الإسكان، والارتياح، والإظلال، وجميع معاني السكن.

       لم تكن تريد من وراء الكوخ مأوى لها؛ فقد كان لها كفاية وغَنَاء فيما عند ابنتيها في قريتيهما. وكان لها مُتَّسَع كاف عندهما لإمضاء حياتها البسيطة؛ لكنها أقامت الكوخ لتعيشِ فيه بعضَ الوقت مُتَمَتِّعَةً بصحبة حفيدها اليتيم الذي ترى فيه أنه سيسد الفراغ القاتلَ الذي تركه ابنُه الوحيدُ؛ حيث كانت تختطّ أنها ستختلس من وقت لآخر حفيدَها من حضن أمّها اختلاسًا أذكى من اختلاس الذئب للغنم؛ فقد كانت تزور من حين لآخر قريةَ خؤولةِ الحفيد اليتيـــــم، وتَهْرُبُ بــــه وهو نائم في بيت الجدة من الأم أو مُمْتَصٌّ لبعض قطرات الحليب المترشحة من الزجاج في يديه، وأمه غائبة في حاجة أو عاملة عملًا ما في زاوية من البيت، وتصل به إلى قريتها لتعيش به بعضَ اللذة التي تتفضّل بها الأيام عليها، فتستعوض عن الشقاء الذي انهمر عليها بموت ابنها؛ وإنما كانت تصنع هذا الصنيعَ الذي ربما كان يثير حفيظة أم الحفيد اليتم للنهاية؛ لأنها كانت تعلم أن الأم لن ترضى بمفارقة ابنها الرضيع إذا سألتها أن تهبه لها لبعض الأيّام. ظَلَّ الحفيد اليتيم تتنازعه يدا الأم والجدة لأيام طويلة، حتى صار يعي ويشدو، ويفتح عينيه على الحياة، فرضيت الأم أن تترك ابنها للجدّة، ليعرف عندها في قريتها طريقًا إلى الكُتَّاب؛ لأن قرية والدي الأم لا يوجد فيها كُتَّاب، ومن الطريف أن كُتَّاب قرية الجدة كان فقيهه قد عَلَّمَ أبا اليتم وجَدَّه من الأب كذلك مبادئَ القراءة والكتابة، فكان آلفًا للأسرة ومألوفًا لديها منذ القديم.

       تحت رعاية الجدة اجتاز اليتيمُ مرحلةَ الكتاب، والروضة، والمدرسة الابتدائية التي تَخَطَّىٰ للالتحاق بها حدودَ قرية الجدة إلى مدينة دخل إليها لأول مرة في حياته، وكان الطفلُ في هذه المراحل كلها كثيرَ الاختلاف إلى أمها في قرية خؤولته، وكانت الأم والجدة تشتركان في الإنفاق عليه خلال التحصيل العلمي، وتغطية حاجاته المعيشية والتعليمية. وكان الفراق من الأم – حيث كان يعيش مُعْظَمَ الأيام لدى الجدة، ثم في المدرسة الابتدائية في المدينة – قد أَجَّحَ نار حبّه لها وحنينه إليها، وجَعَلَ حبَّه لها شاملًا شمولًا عجيبًا مدهشًا للغاية، فعاد يُحِب كلَّ طريق في قرية الجدة يُؤَدِّي إلى قرية الأم، وكان يحب البيوت المُتَطَرِّفَة في القرية، الواقعة في النهاية التي يتفرع منها الطرق إلى قرية الأم، فكان عندما يأتي لضرورة ما إلى هذه الناحية من قرية الجدة، يزداد خفقانُ قلبه، ويمكث بها طويلًا، ويتمعّن في الطريق الذاهب إلى قرية الأم، ويفكر في نفسه أن يُقَبِّل الطريق: جادَّتَه وجنباتِه وكلَّ حَصَاة وتراب عليه وشجيرات وخضراوات نابتة على جنبيها، حتى كان يحب الحافلةَ التي كانت تسير على الطريق إلى جهة قرية الأم وتختلف صباح مساءَ، وكلَّ قادم منها ولو لم يكن من أقربائه أو معارفه، وحتى كان يحب القرى والأسواق التي كانت تقع على جانبي الطريق إلى قرية الأم ، لأنها قرى وأسواق تقع على الطريق الذي شَغَفَه قلبُ الطفل اليتيم حبًّا؛ لأنه يؤدي إلى قرية أمه الحنون. وكان يحب كلَّ شبر من أشبار قرية الأم بنحو لم يُحِبَّه قريةَ الجدة قطّ، فكان كلُّ فرد من أفراد سكانها كأنه حبيب إليه، وعزيز عليه، ومَفْدِيٌّ لديه بكل ما عنده من رأس مال الحبّ المكنون في قعر قلبه. وكان يحبّ السماعَ عن أخبار قرية الأم في الغياب عنها، وكانت تَقَرُّ عيناه برؤية كلِّ شيء فيها لدى حضوره إليها، وكان يُعَدِّد دائمًا الأشجارَ الشائخة فيها وفي حقولها وحدائقها، ويلاحظ بدقة الجسورَ الواقعة على الطرق الآتية إليها من شتى القرى والبلدات، ويَتَحَسَّس كلَّ بيت من بيوتها، ويَفْرَحُ بكل عمليّة تطوير وبناء بسيطة تتحقق فيها، وكان يشعر لدى لقاء كل إنسان في القرية ولو كان غيرَ مسلم، ببهجة لايكاد يصفها حتى في شيخوخته ولدى نضج قلمه كتابةً.

       عندما يأتي إلى قرية الأم من كُتَّاب قرية الجدة أو من المدرسة في المدينة، كان يأتي طائرًا على الأقدام يدفعه الشوقُ والهُيَامُ، ويَحْدُوهُ الحنينُ واللذة الغريبةُ الأليفةُ، وكانت أيامُ الإجازة تَمْضِي كالبرق الخاطف، وتُوَدِّعه الأمُّ لدى المُغَادَرَة إلى قرية الجدة أو إلى مدرسة المدينة وكلاهما باكيان مُتَفَجِّعَان مُتَمَلْمِلَان من ألم الفراق، تمشي الأمُّ معه خطوات على الطريق المُؤَدِّي إلى قرية الجدة أو إلى مدينة المدرسة، تُزَوِّدُه بنصائح وبقطع حب صافية كأنها كانت تَقْطَعُها من قلبها الذي لم يعرف معنىً للتصنّع في الحب نحو فلذة كبدها وابنها اليتيم. ثم كانت تعود أدراجَها إلى بيتها: بيت والديها، وقلبها يكاد ينشق، وكانت تَلْتَفِت إلى ابنها عائدةً إلى قريتها مالم يَغِبْ عن عينيها، وكان ابنها هو الآخر يَتَلَفَّت إليها، وعيناه تستعبران، وقلبُه يكاد يخرج من مكانه؛ لأنه يحسب صادقًا أنه ذاهبٌ إلى حيث ليس فيه حبُّ الأمّ، مهما كان فيه كل شيء في الحياة.

       وظل ذلك هو دأَبَها مع ابنها حتى خَرَّجَتْه حاملًا للشهادة النهائية في جامعة إسلامية هي أكبر و أعرق من جميع شقيقاتها في هذه الديار. أمّا الجدةُ فإنها ماتت عندما دخل حفيدها الوحيدُ مدرسةً ثانويةً في مدينة بعيدة، ولم تَجْنِ منه أيَّ ثمرة في الحياة؛ ولكن حفيدَها أجرٌ مذخورٌ في سِجِلِّ حسناتها إن شاء الله، وستجده موفورًا غيرَ منقوص يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى اللهَ بقلب سليم؛ لأنها شَقِيَتْ طويلًا لكي تُسْعِد حفيدَها، وسَهِرَت لينام، وكابدت ليرتاح، وعاشت حياةَ الكوخ لكي يسكن البيتَ المريحَ. وكلُّ ذلك في سبيل حُبّها لابنها الوحيد الذي مات في شرخ الشباب. حَقًّا إنها – الجدّة – قَدَّمَتْ في سبيل الأمومة الصادقة أصدق التضحيات، وأسمى الخدمات، فستنال بإذن الله أرفع الدرجات عند ربّها الشكور.

       ظلّ الابنُ الحفيدُ البارُّ يحاول جُهْدَه أن يفي ببعض حقوق الأمّ والجدة في حياتهما، وظلّ يَعَضُّ أَنَامِلَه على ما صدر منه إليها من تقصير في حقهما في حياتهما، ولم  يَأْلُ جهدًا بعد موتهما في الدعاء لهما، في الصباح والمساء ووقت السحر، وكلما ذكرهما في شتى الأوقات التي بين هذه الأوقات، بأن يدخلهما ربهما جنةَ الفردوس دونما حساب ومؤاخذة، ويُسْعِدَهما بمرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والصحابة رضي الله عنه وعلى رأسهم أبوبكر وعمر وعثمان وعلي. كما يدعو أن يجعله الله من الأولاد البررة الذين يكونون لآبائهم وأمهاتهم صدقة جارية متمثلة في دعواتهم الدائمة لهم عن صدق وتضرع وإنابة مع ذكر حسناتهم ومننهم عليهم.

       ولو رحتُ أذكر لقطات الحب ومحطات الحنين ولحظات الوفاء التي عِشْتُها مع أمي التي عانت في حياتها الكثيرَ الكثيرَ الذي لاتعانيه الأمُّ عادةً، لطال الكلام، وضاق المقام، وسئم القراءُ مهما كانو مُتَذَوِّقِين، ولايسعني إلا أن أقول: إن حبّ الأم ليس في القلب فقط؛ ولكنه في الدم الذي يجري في العروق،والوجدان، والحس اللطيف، والوعي الدقيق، والخيال القريب والبعيد الذي يطوف بالكون المرئي المعلوم في ثوانٍ؛ فمهما قيل أو كُتِبَ في الأم والحنان إليها من كلمات وعبارات شَذِيَّة، ومهما صيغت الحروفُ لحنًا عذبًا، وأغنيةً حلوةً معسولةً، فلن تَفِيَها حقَّها.

       وتتبلور هذه الحقيقةُ الجليلةُ في الحديث النبوي الذي جاء فيه: أتى رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أشتهي الجهادَ ولا أقدر عليه. قال: «هل بَقِيَ من والديك أحد؟. قال: أمي. فقال: فَأَبْلِ الله في برِّها، فإذا فعلتَ ذلك، فأنت حاجّ ومعتمر ومجاهد، فإذا رضِيتْ عنك أُمُّك فَاتَّقِ اللهَ وبِرَّها» (الأحاديث المختارة: 1689).

       ومن ثم كان عقوق الأم أو الأب من الكبائر في ديننا، وفي ذلك قال الشافعي – رحمه الله – :

وَاخْضَعْ لِأُمِّكَ وأَرْضهَا

فَعُقُوقُها إِحْدَى الكِبَرْ

       وبما أن الأم مدرسة أولى يتخرج فيها الأولاد، ويتعلمون كل ما يحتاجون إليه في حياتهم الحاضرة والقادمة، اهتم المفكرون والأدباء والشعراء بالدعوة إلى الاهتمام بالأمهات؛ لأنها إذا كُنَّ مُرَبَّيَات كُنَّ أقدر على تربية الأجيال، فقال الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم (محمد حافظ إبراهيم 1288-1351هـ = 1872-1932م):

الْأُمُّ مَدْرَسَــةٌ إِذَا أَعْدَدْ تَهَا

أَعْدَدْتَ شَعْبًا طِيِّبَ الْأَعْرَاقِ

الْأُمُّ رَوْضٌ إِنْ تَعَهَّـدَهُ الْحَيَا

بِالرَّيِّ أَوْرَقَ أَيَّمـَا إِيْــــرَاقِ

الْأُمُّ أُسْتَــــاذُ الْأَسَاتِــذَةِ الأُولَىٰ

شَغَلَتْ مَآثِرُهُمْ مَدَى الْآفاقِ

       ولكن الأمَّ حُبُّها لولدها غَنِيٌّ عن الأُمِّيَّة والتربية والتثقفِ، فهو يغمره منها سواء أكانت هي متعلمة مُثَقَّفَة مُرَبَّاة أم كانت جاهلة أُمِّيَّة لم تَمُسَّها يدُ تربية، إن حبَّ الأم بَرِيءٌ براءةَ الملائكة، أَعْمَىٰ عن كل مصلحة، أصَمُّ من نداء الغرض والثأر والانتقام، لايُفَكِّر في مبادلة الولد الجريمةَ، مهما ارتكب أفظع جريمة مع أمه. وقد صَوَّرَ ذلك الشاعر العبقري إبراهيم المنذر (أبو صلاح إبراهيم ميخائيل المنذر 1292-1369هـ = 1875-1950م) تصويرًا أبلغ وأدق في قصيدته الرائية الرائعة:

أَغْرَىٰ امْرُؤٌ يَوْمًا غَلَامًا جَاهِلًا

بِنُقُوده حَتَّىٰ يَنَالَ بهِ الْوَطَرْ

قَالَ أْتِنِي بِفُؤَادِ أُمِّكَ يَا فَتَىٰ

وَلَكَ الدَّرَاهِمُ والْجَوَاهِرُ والدُّرَرْ

فَمَضَىٰ وأَغْمَدَ خِـَنْجَرًا فِي صَدْرِهَا

والْقَلْبَ أَخْرَجَهُ وعَادَ على الأَثَرْ

لٰكِنَّهُ مِنْ فَرْطِ سُرْعَتِهِ هَوَىٰ

فَتَدَحْرَجَ الْقَلْبُ المُقَطَّعُ إِذْ عَثَرْ

نَادَاهُ قَلْبُ الْأُمِّ وَهُوَ مُعَفَّرٌ

وَلَدِي، حَبِيبِي! هَلْ أَصَابَكَ مِنْ ضَرَرْ؟

فَكَأَنَّ هٰذَا الصَّوْتَ رَغْمَ حُنُوِّهِ

غَضَبُ السَّمَاءِ عَلَى الغُلَامِ قَدِ انْهَمَرْ

وَرَأَىٰ فَظِيعَ جِنَايَةِ لَمْ يَأْتِهَا

أَحَدٌ سِوَاه مُنْذُ تَأْرِيخِ الْبِشَرْ

وَارْتَدَّ نَحْوَ الْقَلْبِ يَغْسِلِهُ بما

فَاضَتْ بِهِ عَيْنَاهُ مِنْ سَيْلِ الْعِبَرْ

ويَقُولُ: يَا قَلْبِ انْتَقِمْ مِنِّي وَلَا

تَغْفِره؛ فَإِنَّ جَرِيمَتِي لَا تُغْتَفَرْ

وَاسْتَلَّ خِـَنْجَرهُ لِيَطْعَنَ صَدْرَهُ

طَعْنًا سَيَبْقَىٰ عِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرْ

نَادَاهُ قَلْبُ الْأُمِّ كُفَّ يَدًا وَلَا

تَذْبَحْ فَؤَادِي مَرَّتَيْنِ عَلَى الْأَثَرْ

       ولم يقرأ كاتب السطور في حياته قصيدةً أَعْذَبَ وَأَرَقَّ من قصيدة أوردها ابن الجوزي رحمه الله (أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي التيمي البكري: 508-597هـ = 1116-1201م) في الحب والبر بالوالدين في كتابه «برالوالدين»:

زُرْ وَالِـــدَيْكَ وَقِفْ عَلَىٰ قَبْرَيْهِمَا

فَكَأَنِّي بِكَ قَدْ نُقِلْتَ إِلَيْهِمَا

لَوْ كُنْتَ حَيْثُ هُمَا وَكَانَــا بِالْبَقَا

زَارَاكَ حَبْوًا لَا عَلَىٰ قَدَمَيْهِمَا

مَا كَانَ ذَنْبُهُمَا إِلَيْكَ فَطَالَـمـَـــا

مَنَحَـاكَ نَفْسَ الــوُدِّ مِنْ نَفْسَيْهِمَا

كَانَـا إِذَا سَمِعَـا أَنِينَكَ أَسْبَــــلَا

دَمْعَيْهِمَـا أَسَفًـا عَلَىٰ خَدَّيِهِمَا

وَتَمَنَّيَا لَوْ صَادَفَا بِكَ رَاحَةً

بِجِمِيعِ مَا يَحْــوِيـــــهِ مِلْكَ يَدَيْهِمَا

فَنَسِيْتَ حَقَّهُمَا عَشِيَّــــةَ أُسْكِنَا

تَحْتَ الثَّرَىٰ وَسَكَنْتَ فِي دَارَيْهِمَا

فَلَتَلْحَقُهُمَا غَــدًا أَوْ بَعْـدَهُ

حَتْمًـا كَمَـا لَحِقَا هُمَا أَبَوَيْهِمَا

وَلَتَنْـدَمَنَّ عَلَىٰ فِعَالِكَ مِثْلَمَـا

نَـدِمَا هُمَا نَـدَمًا عَلَىٰ فِعْلَيْهِمـَـا

بُشْـرَاكَ لَوْ قَدَّمْتَ فِعْلًا صَالِحًا

وَقَضَيْتَ بَعْضَ الْحَقِّ مِنْ حَقَّيْهِمَا

وَقَرَأْتَ مِنْ آي الْكِتَابِ بِقَدْرِمَـا

تَسْتَطِيعُـهُ وبَعَثْتَ ذَاكَ إِلَيْهِمـَا

فَاحْفَظْ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي وَاعْمَلْ بِهَا

فَعَسَىٰ تَنَالُ الْفَــوْزَ مِـنْ بِرَّيْهِمَا

       بقي أن يقول كاتب السطور: إن ذكرى الأم بعد موتها أَلَذُّ الذكريات، وأحلاها، وأعذبها، وأشذاها، وأجملها، يَظَلُّ قنديلُها متقدًا ليوم وفاة الإنسان، رغم كل الرياح وتقلبات الأحوال. ولم يجد المرءُ أي ذكر يُمَاثِلها في كيفيّاتها.

       وقد صدق الشاعر يحيى جَبْرَان مُعَيْدِي الجازاني السعودي، عندما قال:

رَمْـزَ الْحَنَــانِ إِلَىٰ رِحَابِكَ أَنْتَمِي

أُمَّـاهُ حُبُّكِ بِالْفُــؤَادِ وَفِي دَمِــي

يَا بَسْمَــةَ الْآمَالِ فَجْــرُكِ عَابِقٌ

أَنْتِ الْمُنَىٰ وَبِكِ اسْتَهَامَ تَكَلُّمِي

أُمَّاهُ مِنْ عَيْنَيْكِ أَجْرَيْتِ الْهَوَىٰ

لَحْـنًا لِيُلْحِفَنِي بِفَيْـضِ تَكَــــرُّمِ

كَمْ عَبْـــرَةٍ أَرْسَلْتُهَا حِينَ الْأَسَىٰ

يَغْشَاكِ عِنْــدَ تَوَجُّعِــي و تَأَلُّمِي

 (تحريرًا في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس: 22/رمضان 1439هـ الموافق 7/يونيو 2018م).

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1439 هـ = أغسطس – سبتمبر 2018م ، العدد : 12 ، السنة : 42

Related Posts