دراسات إسلامية

بقلم:  الشيخ خالد بن جمعة بن عثمان الخراز

من هم العلماء؟

       العلماء: هم أئمة الدين، والفقه، وأهل الذكر العاملون بالوحيين من أهل السنة والجماعة على هدى وبصيرة ونور من ربهم. والعالم إنسان أكملته التربية، وعلوم الآلة الشرعية، فهو يحاول جاهدًا أن ينقل صورته وعلمه، ونظام أحواله إلى غيره، ليكون خلفًا منه، ليسير من بعده على هدى من ربه. والعالم الحق من لا يظهر جلالة قدره ليحظى بالتقدير والتعظيم، وعلو الشأن؛ ولكن ليمنح غيره الطرق الصحيحة للوصول إلى حقيقة الإيمان والتقوى والخشية من الله سبحانه.

*  كيف يُعرف العالم؟

       يعرف العالم الرباني برسوخه في العلم الشرعي، وشهادة الشيوخ له بالعلم، وثناء الناس عليه، وتمكنه من دفع الفتن والشبهات، وجهاده، وخشيتــه، واستغنائه عن الدنيا. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «ومن له في الأمة لسانُ صدقٍ عام بحيث يثنى عليه، ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى»(1).

*  التفريق بين العالم والمفكر والواعظ:

       ليس كل قارئ للعلوم الشرعية يعد فقيهًا، وليس كل من ملك مكتبة كبيرة من شتى الفنون، يعتبر إمامًا، ولا كل من تخصص في العلوم الإنسانية يكون عالمًا بالشريعة والفقه، فالقراءة، والوعظ، والبلاغة شيء، والفقه والاستنباط، ومعرفة أحكام النوازل شيء آخر.

       فالمفكر – وربما الواعظ- لا يصدق فيهم مسمى العالم، ولا يصح أن يطلق عليهم علماء.

       قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: «قوم انتموا إلى العلم في الظَّاهر، ولم يُتِقِنُوا منه سوى نزرٍ يسيرٍ، أَوهمُوا به أنهم علماء فضلاء، ولم يَدُر في أذهانهم قَطُّ أنهم يتقرَّبون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخًا يُقتدى به في العلم، فصاروا همجًا رَعاعًا، غايةُ المدرِّس منهم أن يحصل كتبًا مُثَمَّنَة يَخزُنُها، وينظُر فيها يومًا ما، فيصحِّف ما يُورده ولا يُقَرِّره، فنسأل الله النجاة والعفو»(2).

       وقال العلامة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى-: «إن وجود المثقفين والخطباء المتحمسين لا يعوض الأمة عن علمائها، وهؤلاء قُراء وليسوا فقهاء، فإطلاق لفظ العلماء على هؤلاء إطلاق في غير محله، والعبرةُ بالحقائق لا بالألقاب، فكثير ممن يجيد الكلام ويستميلُ العوام وهو غير فقيه، والذي يكشف هؤلاء أنَّه عندما تحصلُ نازلة يحتاج إلى معرفة الحكم الشرعي فيها؛ فإن الخطباء والمتحمسين تتقاصر أفهامهم، وعند ذلك يأتي دور العلماء، فلننتبه لذلك، ونُعطي علماءنا حقهم، ونعرف قدرهم وفضلهم، ونُنزل كلًا منزلته اللائقة به»(3). وكان بعضهم يقول: «من أعظم البلية تَشَيُّخُ الصحيفة» أي: الذين تعلموا من الصحف»(4).

*  صفات العالم وأحواله:

       قال الإمام الآجري -رحمه الله-: «لهذا العالم صفات وأحوال شتى، ومقامات لا بد له من استعمالها، فهو مستعمل في كل حال ما يجب عليه، فله صفة في طلبه للعلم كيف يطلبه، وله صفة في كثرة العلم إذا كثر عنده ما الذي يجب عليه فيه فيلزمه نفسه، وله صفة إذا جالس العلماء كيف يجالسهم، وله صفة إذا تعلم من العلماء كيف يتعلم، وله صفة كيف يعلم غيره، وله صفة إذا ناظر في العلم كيف يناظر، وله صفة إذا أفتى الناس كيف يفتي، وله صفة كيف يجالس الأمراء إذا ابتُلي بمجالستهم، ومن يستحق أن يجالسه ومن لا يستحق، وله صفة عن معاشرته لسائر الناس ممن لا علم معه، وله صفة كيف يعبد الله -عز وجل- فيما بينه وبينه، قد أعد لكل حق يلزمه ما يقويه على القيام به، وقد أعد لكل نازلة ما يسلم به من شرها في دينه، عالم بما يجتلب الطاعات، عالم بما يدفع به البليات، قد اعتقد الأخلاق السَنِيَّة، واعتزل الأخلاق الدنية»(5).

من ثمرات الأدب مع العلماء:

       1- الأدبُ مع العلماءِ أدبٌ مع اللهِ – سبحانه وتعالى- وتعظيم لشعائرهِ؛ قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].

       2- وتوقيرُ حملـــــة الشرع وحماته من توقير الله -سبحانه وتعالى-؛ قال سبحانه: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح: 13]، فكل ما يشرف بالإضافة إلى الله تعالى فإن حقه التعظيم والتوقير.

       3- بذلك جاءت السنة عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «لَيسَ مِنا مَن لَم يجل كَبيرنا، وَيرحَم صَغِيرَنَا، وَيعرِف لعالِمنا حَقه»(6).

       قال ابن المبارك -رحمه الله-:

       «حقّ على العاقلِ أن لا يستخفَّ بثلاثةٍ: العُلماءِ والسلاطين والإخوان؛ فإنه من استخفّ بالعلماء ذهبت آخرتُهُ، ومن استخف بالسلطانِ ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مُروءتُهُ»(7).

       4 – أنهم خلفاء الرسول-صلى الله عليه وسلم- في أمته، والمحيون لما مات من سنته.

*  توقير العلماء من العقيدة:

       قال الإمام ابن حزم -رحمه الله-: «اتفقوا على توقير أهل القرآن والإسلام والنبي-، وكذلك الخليفة والفاضل والعالم، وقد بلغ من تعظيم العلماء، ووجوب صيانة تاريخ أكابر المسلمين إلى حد النص عليه في كتب العقائد، بحيث لا يخالف في ذلك إلا شاذ خارج عن الجماعة».

       يقول الإمام الطحاوي: «وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل»اهـ(8).

       إنهم أتباع النبي –صلى الله عليه وسلم-، السائرون على هديه، والناهلون من علمه أهل السنة والجماعة، أصحاب العقيدة النقية.

       كيف لا وهم حفظة القرآن الكريم، وحملة السنة النبوية، كيف لا وهم أئمة الهدى وورثة الأنبياء، أليسوا هم حراس الدين وحماته من الابتداع والتحريف، وعصمة الأمة من الانحراف والضلال في زمان الفتن، فإن المسيء لهم والطاعن عليهم قد ركب متن الشطط، ووقع في أقبح الغلط؛ لأن حرمتهم مضاعفة، وحقوقهم متعددة، وقد جعل الله لهم حقوق المسلم عامة، ثم لهم حقوق أخرى خاصة؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- رفع المؤمنين على من سواهم، ثم رفع أهل العلم على سائر المؤمنين؛ فقال سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجٰتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة:11]. فلهم مكانة عالية ينبغي أن تتأصل في نفوس الناشئة والطلاب، وأن يتخلق بها التلاميذ بفضل السابق على اللاحق، والسلف على الخلف، والعالم على الطالب بوجوب الأدب في توقير وإكرام.

       قال الشاعر:

النَّاسُ في صورة التشبيه أكفَاءُ

أبوهُمُ آدم والأمُ حَــواءُ

فإن يكن لهمُ في أصلهم شرف

يفاخرون بهِ فالطينُ والماءُ

مَا الفَخرُ إلا لأهلِ العِلمِ إنهُمُ

على الهُدَى لمن استهدى أدِلاءُ

وقدرُ كُل امرئٍ ما كانَ يُحسِنُهُ

والجَاهِلُونَ لأَهلِ العِلمِ أَعداءُ

ففُز بِعِلمٍ تَعِش حيًّا بهِ أبدًا

فَالنَّاسُ مَوتى وأهلُ العِلَمِ أَحيَاءُ(9).

*  توقير العالم سنة ماضية:

       إن توقير العالم وهيبته من أخلاق السابقين، وسنة ماضية في الأولين.

       قال طاووس بن كيسان: «إن من السنة أن توقر العالم».

       وقال أيضًا: «من السُّنَّة أن يُوقر أربعة: العالم، وذو الشَّيبة، والسلطان، والوَالدِ»(10).

       وقال الشعبي: صلى زيد بن ثابت- رضي الله عنه- على جنازة ثم قربت له بغلة ليركبها، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال له زيد: «خَلِّ عنك يا ابن عم رسول الله، فقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: هَكذا يفعلُ بالعُلماء والكُبَراء»(11).

       وعن أبي عبد الله المعيطي قال: «رأيت أبا بكر بن عياش بمكة فأتاه سفيان بن عيينة فبرك بين يديه، فجعل أبو بكر يقول له: يا سفيان كيف أنت؟ يا سفيان كيف عيال أبيك؟ قال: فجاء رجل يسأل سفيان عن حديث، فقال سفيان: لا تسألني ما دام هذا الشيخ قاعدًا».

       فسبحان الله كم من الطلاب اليوم يتكلمون ويفتون والشيخ قاعد، ويجيبون والشيخ حاضر، وربما ترتفع أصواتهم وتمتد الأرجل ويتمارون ويتضاحكون والشيخ قاعد، فلا إله إلا الله، أين التوقير وأين الأدب؟

       قال الناظم:

وقر مشايخَ أهلِ العلم قاطبةً

حتى تُوقَّرَ إن أفضى بك الكبرُ

واخدم أكابرهم حتى تنال به

مثلًا بمثلٍ إذا ما شارف العُمُرُ

       وأحسن الآخر:

أفضِّل أستاذي على فَضل والدي

وإن نالني من والدي المجدُ والشرف

فهذا مُرَبي الروحِ والروحُ جوهرٌ

وذاك مربي الجسمِ والجسمُ كالصدف

من حقوق العلماء:

       ويُروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: «من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة، وعلى القوم عامة، وتجلس قدامه، ولا تشر بيديك، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل: قال فلان خلاف قولك، ولا تأخذ بثوبه، ولا تُلحِّ عليه في السؤال»(12).

       وقال الإمام الشافعي: «ما أعلم أني أخذت شيئًا من الحديث ولا القرآن أو النحو أو غير ذلك من الأشياء مما كنت أستفيد إلا استعملت فيه الأدب، وكان ذلك طبعي إلى أن قدمت المدينة، فرأيت من مالك ما رأيت من هيبته وإجلاله العلم، فازددتُ من ذلك حتى ربما كنت أكون في مجلسه فأصفِّح الورقة تصفحًا رفيقًا؛ هيبةً له لئلا يسمع وقعها».

*  *  *

الهوامش:

(1)      مجموع الفتاوى” (11/ 43).

(2)      سير أعلام النبلاء” (11/ 153).

(3)      الدر الثمين في وجوب توقير العلماء” (8).

(4)      «تذكرة السامع والمتكلم» (90).

(5)      أخلاق العلماء” (42).

(6)      صحيح. أخرجه أحمد، والحاكم (1/ 122) واللفظ له، وحسنه الألباني في (صحيح الجامع) (5443).

(7)      « سير أعلام النبلاء» (17/ 251).

(8)      «شرح العقيدة الطحاوية» (554) المكتب الإسلامي.

(9)      عزاه عبد القاهر الجرجاني في «أسرار البلاغة» (197 – المكتبة العصرية) لمحمد بن الربيع الموصلي.

(10)    أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11/ 137).

(11)    جامع بيان العلم وفضله (992)، و«الجامع» للخطيب (347).

(12)    جامع بيان العلم وفضله (992)، و«الجامع» للخطيب (347).

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1439 هـ = يوليو – أغسطس 2018م ، العدد : 11 ، السنة : 42

Related Posts