دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ ذكر الله عربي القاسمي(*)
كان أبو عطاء السندي من شعراء العربية المعدودين في عهد العباسيين، ولد في السند، ثم انتقل على إثر الفتوحات الإسلامية إلى بغداد، فتعلم العربية، ونبغ فيها، ثم قال الشعر، وأبدع فيه فائق الإبداع، فلذا عده النقاد من فطاحل الشعراء، قال الأستاذ الأديب أحمد السباعي عن الأثر الذي تركه الفتح الإسلامي في بلاد السند ملمًا ببعض الجوانب لهذا الأثر في اختصار: إن جيش المسلمين ما كاد يستقر في بلاد السند في أواخر عهد الأمويين حتى امتد نفوذه إلى بعض بلاد الهند، واعتنق الإسلام على إثر ذلك هذه الجاليات الكبيرة التي رأت نفسها في حاجة إلى أن تتثقف بثقافة المسلمين، وتتعلم لغتهم فتلمذت طوائف ممتازة منهم على بعض كبار الجيش من رجال الحديث وأئمة القرآن، وظهر فيهم من عدّ في طليعة المحدثين كأبي معشر السندي كما درس بعضهم اللغة العربية، وأصبحوا من أعلامها الممتازين كابن الأعرابي بن زياد السندي كما تفنن بعضهم في الشعر كشاعرنا أبي عطاء السندي(1).
كان اسمه أفلح بن يسار؛ ولكنه كان معروفًا بأبي عطاء السندي، وكان مولى بني أسد، منشؤه الكوفة، وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وكان أبوه سنديًا أعجميًا لا يفصح، وكان في لسان أبي عطاء عجمة ولثغة، وكان إذا تكلم لا يفهم كلامه(2).
وكان معروفًا بلكنة في لسانه، كان يسمى الجرادة (زرادة) ويقول عن الشيطان (سيطان)؛ ولذا كان لا يجرؤ على إنشاء ما يبدعه من الشعراء لعلمه بلكنة لسانه، فكان يتخذ له غلامًا ينشد عنه شعره، وكان يعاني في سبيل انتقاء هؤلاء المنشدين والرواة من المتاعب ما يصوره في الأبيات التالية مخاطبا بها سليمان بن سليم الكلبي.
أعوزتني الرواة يا بن سليم
وأبى أن يقيم شعري لساني
وغلا بالذي أجمجم صدري
وجفاني لعجمتي سلطاني
وازدرتني العيون إذ كان لوني
حالكا محتوى من الألوان
فضربت الأمور ظهر البطن
كيف أحتال حيلة لبناني
وتمنيت أنني كنت بالشعـ
ر فصيحًا وبان بعض بناني
ثم أصبحت قد أبحت ردائي
عند رحب الفناء والأعطان
فأعطني ما يضيق عنه رواتي
بفصيح من صالح الغلمان
يفهم الناس ما أقول من الشع
ر فإن البيان قد أعياني
واعتمدني يا ابن سليم
في بلادي وسائر البلدان
ستوافيهم قصائد غر
فيك سباقة لكل لسان
فأمر له بوصف بربري، فسماه عطاء أو تبنى به، ورواه شعره، فكان إذا أراد إنشاد مديح لمن يجتديه أو مذاكرة شعر أمره، فأنشد، قيل: إنه قال له يوما: ولأمنذ أو تأولت لي لبيأ ما أنت تصنأ يعني: ولك منذ دعوتك وقلت لي لبيك ما كنت تصنع.
وشهد أبو عطاء حرب بني أمية، وبني العباس، وأبلى مع بني أمية، وقتل غلامه عطاء مع ابن هبيرة، وانهزم هو. وحكى المدائني أن أبا عطاء كان يقاتل المسودة، وقدامه رجل من بني مرة يكنى أبا يزيد قد عقر فرسه، فقال لأبي عطاء: أعطني فرسك أقاتل عنك، وعني، وقد كانا أيقنا بالهلاك، فأعطاه أبو عطاء فرسه، فركبه المري ومضى على وجهه ناجيًا، فقال من الوافر:
لعمرك إنني وأبا يزيد
لَكَالسَّاعي إلى لمع السراب
رأيت مخيلة فطمعت فيها
وفي الطمع المذلة للرقاب
فما أغناك من طلب ورزق
كما أعياك من سرق الدواب
وأشهد أن مرة حي صدق
ولكن لست منهم في النصاب(3).
حكى ابن خلكان في كتابه الشهير «وفيات الأعيان» على صفحة 282 حكاية عن أبي عطاء السندي فقال:
يحكى عن أبي عطاء السندي الشاعر المشهور، واسمه مرزوق، وهو من موالي أسد بن خزيمة، أنه كان في لسانه هذه العجمة، فاجتمع حماد الراوية، وحماد عجرد الشاعر، وحماد بن الزبرقان النحوي، وبكر بن مصعب المزني، في بعض الليالي ليتذاكروا فقالوا: ما بقي شيء إلا وقد تهيأ لنا في مجلسنا هذا، فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي ليحضر عندنا ويكمل به المجلس، فأرسلوا إليه، فقال حماد بن الزبرقان: أيكم يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة وزج شيطان وإنما اختار له هذه الألفاظ؛ لأنه كان يبدل الجيم زايًا و الشين سينًا، فقال حماد الراوية: أنا أحتال في ذلك، فلم يلبثوا أن جاءهم أبو عطاء فقال لهم: هياكم الله، يريد حياكم الله، فقالوا له: مرهبًا مرهبًا، يريدون مرحبًا مرحبًا على لغته، فقالوا له: ألا تتعشى فقال: قد تعسيت، فهل عندكم نبيذ نسرب فقالوا: نعم، فأتوا له بنبيذ فشرب حتى استرخى، فقال له حماد الراوية: يا أبا عطاء، كيف معرفتك باللغز فقال: هسن، يريد حسن، فقال له ملغزًا في جرادة:
فما صفراء تكنى أم عوف
كان رجيلتيها منجلان
فقال: زرادة، فقال: صدقت، ثم قال ملغزًا في زجٍ:
فما اسم حديدةٍ في الرمح ترسي
دوين الصدر ليست بالسنان
فما اسم حديدةٍ في الرمح ترسي … دوين الصدر ليست بالسنان فقال أبو عطاء: زر، فقال حماد: أصبت، ثم قال ملغزًا في مسجد بجوار بني شيطان، وهو بالبصرة:
أتعرف مسجدًا لبني تميم
فويق الميل دون بني أبان
فقال: هو في بني سيطان، فقال: أحسنت، ثم تنادموا وتفاكهوا إلى سحرة في أرغد عيش(4).
وبعد سرد هذه الحكاية التي تنم عن لكنة هذا الشاعر ولثغته الشديدة في لسانه، قال ابن خلكان معترفًا بمكانته العلمية والأدبية، وملكته الشعرية:
«وهذا أبو عطاء من الشعراء المجيدين، وكان عبدًا أخرب، والأخرب: المشقوق الأذن، وله في كتاب «الحماسة» مقاطيع نادرة، ولولا خشية التطويل والخروج عن المقصود لذكرت جملة من شعره ونوادره»(5).
كان أبو عطاء مع عجمته ولكنته قد أسهم إسهامًا بارزًا في إثراء المكتبة العربية بنوادره الشعرية الأدبية التي أعجبت كثيرًا من أقحاح العرب من الأدباء الذين نشؤوا في البيئة العربية الأصلية، فاعترفوا بطول باعه في صناعة الشعر حتى أورد أبو تمام نوادر شعره في كتابه «الحماسة»، وكذلك كان مرتجلًا فورد أنه كان منقطعًا في طريق مكة، وكان خباؤه مطروحًا على الأرض، فمر به نهيك بن معبد العطاردي، فقال: لمن هذا الخباء فقيل: لأبي عطاء السندي، فبعث غلمانا له، فضربوا له خباء وبعث إليه بالطاف وكسوة فقال: من صنع هذا؟ قالوا نهيك بن معبد فنادى بأعلى صوته يقول:
إذ كنت مرتاد الرجال لنفعه
فناد بصوت يا نهيك بن معبد
فبعث إليه نهيك: زدنا يا أبا عطاء! فقال أبوعطاء: إنما أعطيناك على قدر ما أعطيتنا، فإن زدتنا زدناك! ولما ولى أبو العباس السفاح الحكم مدح أبوعطاء السندي بني هاشم فقال:
إن الخيار من البرية هاشم
وبنو أمية أرذل الأشرار
أما الدعاة إلى الجنان فهاشم
وبنو أمية من دعاة النار
فلم يعطه أبو العباس شيئًا، فقال:
ياليت جوربني مروان عادلنا
وأن عدل بني العباس في النار
وقال أيضا :
بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم
فقد قام سعر التمر صاعا بدرهم
فإن قلتم رهط النبي وقومه
فإن النصارى رهط عيسى بن مريم(6)
وفي آخر أيام منصور مات أبو عطاء السندي الشاعر المجيد الموفور المطبوع ما أروى غلة آلاف من بغاة العلم والأدب وذلك في سنة 180هـ المصادفة لسنة 796م .
لقد احتل هذا الشاعر المطبوع مع ما به لكنة ولثغة مكانة سامية في الأوساط العلمية والأدبية والشعرية، فاسترعى بفضل نوادر شعره انتباهَ العلماء والأدباء والشعراء كما نال القبول لدى طبقة الملوك والأمراء، وكذلك اعتنى بكلامه كبار شعراء عصره، فأوردوه في دواوينهم كأبي تمام حبيب بن أوس الطائي في كتابه الشهير «ديوان الحماسة» فاعترف بطول باعه وقوة عارضته صاحب كتاب الأغاني فقال: وكان مع ذلك من أحسن الناس بديهة وأشدهم عارضة وتقدمًا(7). وكان معاصروه من الشعراء وأصحاب العلم يعدون أنفسهم في خسران إذا فقدوه في مجالسهم لظرفه وبداهته، ولإبداعه في فن الشعر عده النقاد من فطاحل الشعراء العرب، حتى قال ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان»: هذا أبو عطاء من الشعراء المجيدين، وكان عبدا أخرب والأخرب المشقوق الأذن، وله في كتاب الحماسة مقاطيع نادرة، ولو لا خشية التطويل والخروج عن المقصود لذكرت جملة من شعره ونوادره»(8).
وكفى برهانًا على لباقة هذا الشاعر وقريحته الجيدة ونظره الثاقب شهادة أمثال ابن خلكان الأديب المؤرخ. وعلى كل، فإن شاعرنا أبا عطاء ساهم مساهمة أدبية ملحوظة في العصر العباسي في العراق، نالت قبولا شائعًا على جميع المستويات، وخدم خدمة جليلة في مجال العلم والأدب كما خدم كثير من علماء الهند شتى العلوم في سائر البلدان المسلمين العرب، كما اعترف بذلك العرب مثل الأديب الأستاذ أحمد السباعي، فكتب وترك أهل السند والهند أثرا في ثقافة الإسلام، فقد كانوا مبرزين في الحساب والطب وصناعة السيوف كما كانوا مبرزين في الرياضيات والنجوم والفلسفة، وقد اختلط المسلمون بكل هذه الفنون، وتفوق عدد كبير من علمائهم فيها(9).
* * *
الهوامش:
(1) WWW.alithnainya.com الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ أحمد السباعي .
(2) www.Alwarraq.com موقع الوراق، الصفدي، الوافي بالوفيات.
(3) http://islamport.com
(4) ابن خلكان، وفيات الأعيان:5/282- 283.
(5) ابن خلكان، وفيات الأعيان:5/283.
(6) www.ahewar.com
(7) أصفهاني، الأغاني : اسلام ويب.
(8) ابن خلكان، وفيات الأعيان:5/283.
(9) الأعمال الكتابية للأستاذ أحمد السباعي WWW.alithnainya.com
* * *
(*) باحث الدكتوراه في جامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية، حيدر آباد.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1439 هـ = يوليو – أغسطس 2018م ، العدد : 11 ، السنة : 42