دراسات إسلامية

بقلم:  مساعد التحرير

       بدعوة من الجامعة الكوثرية بكيرالا(1) –جنوب الهند- لزيارتها واختبار طلابها والنظر في منهجها الدراسي قمت أنا والشيخ المفتي محمد عثمان القاسمي(2)– أحد أساتذة دارالعلوم/ ديوبند- الذي يستحق مني الشكر على أنه تولى تنسيق الرحلة وحجز المقاعد في القطار من ديوبند إلى دهلي.

       وحسب البرنامج الموضوع طلعنا من ديوبند في الساعة الخامسة مساء من يوم الأحد 16/ديسمبر عام 2017 لنركب القطار السريع المعروف بـ«أحمد آباد إكسبريس»، وتأخر القطار عن موعده ساعتين أو أكثر ومكثنا على المحطة نترقب القطار ترقب العطشان الماء؛ إذ كان الوقت ليلا باردًا جدًا في هذه المناطق، والوقوف على المحطة شبه العراء يعرض المرء لتيارات البرد القارس، فجاء القطار يتهادى فركبناه وأخذنا مقاعدنا فيه، فلما استقر بنا المقام تجاذبنا أطراف الحديث ردهًا من الزمان، وكان للشيخ عثمان شاغلٌ من تحقيق بعض الأعمال التي استصحبها معه، فانصرف إليها، وتوقف القطار على المحطات الكبيرة العديدة بين ديوبند ودهلي حتى وصلنا إليها والساعة تشير إلى العاشرة والربع. فما إن نزلنا من القطار حتى أخذ بي المفتي محمد عثمان إلى محطة قطارات «ميترو»، وكان يسرع الخطى وأنا ورائه ألهث، خشية أن يفوتنا القطار الأخير المتجه إلى المنطقة التي كنا نريد النزول فيها وقضاء الليل على أحد معارف الشيخ عثمان. واشترى الشيخ تذكرتين على قطار ميترو، وانتظرنا قرابة ثلث ساعة حتى جاء القطار. فركبناه فسار سير البرق الخاطف إلى المحطة القادمة، وتوقف القطار على عدة محطات حتى وصل إلى محطة «شتري فور»، فأسرعنا النزول من القطار، والساعة حادية عشرة ليلًا، وخرجنا من المحطة فإذا الحاج/ رفيق(3) واقف ينتظرنا بسيارتـــه الخاصة، فأخذ بنا إلى بيته المجاور للمحطة، ولقينا به والده المسن المنتمي إلى ولاية بنغال الغربية من الهند، فرحب بنا أهل البيت صغارًا وكبارًا أيما ترحيب، ونزلنا في إحدى حجرات البيت الصغير الذي يتوفر فيها الحاجات الأساسية. وقدموا لنا شايًا حارًا فحسونا مما أذهب عنا بعض البرد الذي أصابنا في الطريق، وسرى عنها كثيرًا من العناء الذي لقيناه. ثم تجاذبنا أطراف الحديث مع أهل البيت وصلينا العشاء ثم تعشينا وحسونا القهوة ذات الرائحة القوية النفاذة، وجلس صاحب البيت يسأل المفتي عثمان في الدين وما يهمه من المسائل. ثم أوينا إلى الفراش، ونهضنا من النوم مبكرًا، وصلينا الفجر، وأفطرنا فطورًا خفيفًا ثم حملنا عفشنا إلى السيارة الواقفة بجوار البيت، وركبناها وساق الحاج/رفيق السيارة في طرق دهلي الملتوية التي يتلوى الخريت فيها من خوف الضلال والسير في غير الاتجاه الذي يرغب فيه.و وصلنا إلى المطار الدولي الهندي رقم1 بعد ثلث ساعة من السير، والساعة تشير إلى السادسة تمامًا، ونزلنا فيه وودعنا الحاج/رفيق شاكرين له حسن وفادته وحفاوته البالغة بنا، وما تحمل من المتاعب لأجل لنا.فجزاه الله عنا خير ما يجازي به عباده الصالحين وحقق أمانيه، وهل في أماني المسلم أمنية أغلى من أن يزور بيت الله الحرام، و يقف في المقام، يشتبث بأستار الكعبة ويذرف الدموع على عتبتها، ويسعى بين الصفا والمروة. وهذا ما يولي المرء المسلم لأخيه المسلم الذي أحسن إليه وأكرمه. و كنا حجزنا على الخطوط الجوية (Spice)، واستكملنا إجراءات الركوب إلى الطائرة خلال نصف ساعة ثم توجهنا إلى صالة الانتظار، فلبثنا فيها ريثما يعلن استعداد الطائرة للإقلاع و الركوب إليها،في الساعة التاسعة إلا الربع. وأقلعت الطائرة في الموعد المحدد،وسارت على المدرج ثم ارتفعت في جو السماء شيئا فشيئًا، وفي الساعة الحادية عشرة إلا الربع هبطت على مطار فونه (Pune)، فنزل المسافرون إلى هذه المطار ولبثنا نحن والمسافرون المتجهون إلى كوتشين (Cochin) (4)،  وصعد إليها مسافرون جدد متجهون إليها، ثم أقلعت الطائرة في الساعة الحادية عشرة والربع صباحًا منها متجهة إلى مطار «كوتشين»، حيث وصلنا إليها في الساعة الواحدة والربع. وكان في استقبالنا على المطار كل من الشيخ عبد الغفار(5)، والأخ الفاضل/ رجيب(6)– مدير شؤون التعليم في الجامعة الكوثرية-، خرجنا من المطار وركبنا سيارة خاصة يقوده الأخ/ رجيب، إلى المدرسة في «أرناكولم»، دخلنا المدرسة وصلاة الظهر قائمة، فأول شيء بدأنا به الصلاة ثم تغدينا وأوينا إلى الفراش لنأخذ قسطًا من الراحة، ثم صلينا العصر جماعة، في مسجد المدرسة ذي طابقين، يستخدم الدور الأول منه للصلاة، ولصفوف تحفيظ القرآن الكريم، والدور الأرضي مختص بصفوف تجويد القرآن الكريم، التي يدرسها المقرئ محمد سلمان، وبعد العصرجلسنا مع مسؤولي الجامعة وأساتذتها على الشاي وبعض المأكولات المحلية، وتبادلنا الآراء، وبعض منهم من خريجي دارالعلوم /ديوبند مثل الشيخ ظفير الدين(7)، حتى صلاة المغرب، و صلينا المغرب جماعة في المسجد. وأهم شيء لفت انتباهنا في المسجد هو تقيد الطلاب والأساتذة بالحضور إلى المسجد قبل موعد الصلاة بوقت كافٍ، والمواظبة التامة على التطوع وتلاوة القرآن والأذكار المأثورة بعد الصلوات وقبلها وفي الصباح والمساء، والتزام الطلاب بالعمائم البيضاء على الرؤوس، فيكون منظرًا بهيجًا يشرح الصدر ويبعث الفرح والسروروالغبطة.

       وحسب البرنامج الموضوع عقدنا اجتماعًا مع الشيخ/رجيب القاسمي- مدير الشؤون التعليمية- بعد المغرب، والذي أطلعنا على منهج الجامعة والمواد الدراسية التي يتم تدريسها في الجامعة، لنرى رأينا فيه ونستعد لاختبار الطلاب والاستعراض التعليمي في المدرسة. وتوزع العمل على الشيخ المفتي/عثمان وعلى كاتب هذه السطور لثلاثة أيام لاحقة، على أن نختبر كل يوم طلاب ثلاثة فصول دراسية، ونتعرف على المنهج الذي يتبعه الأساتذة في تدريسهم حتى نرى رأينا فيه.

       وبدأنا هذه الجولة من صباح الغد، وكلفنا الطلاب قراءة كتب المواد الدراسية وسألناهم عن المنهج الذي يتبعه أستاذ المادة في التدريس، ورأينا الطلاب يتكلمون باللغة العربية إلى درجة كبيرة كل حسب مرحلته الدراسية، مما بعث في أنفسنا الفرح والسرور، وهكذا مرت ثلاثة أيام، نختبر الطلاب في النهار، نعد تقريرًا شاملًا للمواد التي اختبرنا الطلاب فيها، بالإضافة إلى منهج مدرس المادة، وفي اليوم الأخير قدمنا إلى مدير الشؤون التعليمية بأمر منه تقريرًا شاملًا جامعًا،ثم عقدنا اجتماعًا للأساتذة والمسؤولين وعرضنا عليهم ما رأينا عرضه، وتشاورنا معهم في منهجية تدريس بعد المواد الدراسية، ومن كرمهم وحسن خلقهم أنهم أصغوا بأسماعهم لآرائنا المتواضعة، كماكسبنا فوائد جمة من هذا المجلس التشاوري، فكان مجلسًا وديًّا أخويًّا رائعًا.

       وذات يوم رغب مسؤولو المدرسة أن نلقي دروسًا في الحديث الشريف على طلاب دورة الحديث الشريف، فألقى الشيخ عثمان عليهم درسًا في سنن أبي داود، وكان من نصيب كاتب هذه السطور درس في شمائل الترمذي ألقيته باللغة العربية؛ لأنها هي لغة التدريس في معظم الأحوال في كيرالا، وأما صاحبنا الشيخ عثمان فيتكلم باللغة العربية بكل طلاقة؛ إذ سبق له أن قضى أعوامًا في هذه المنطقة ودرَّس في بعض المدارس الإسلامية لبضع سنوات.

       وكان لكاتب هذه السطور– رغم قلة بضاعته في اللغة العربية- محاضرة حول اللغة العربية وطرق تدريسها والتمكن من الترجمة منها إلى الأردية استمرت ساعتين وربعًا، حضرها طلاب الجامعة بجانب أساتذة الجامعة وبعض مسؤوليها.

       بعد جهود مضنية ومتواصلة بذلناها في اختبار الطلاب وتحليل المنهج الدراسي المتبع في الجامعة الكوثرية وأسلوب تدريس أساتذتها وضع لنا المشرفُ الأعلى على الجامعة وهوالشيخ إبراهيم(8) برنامجًا لزيارة بعض الأماكن الأثرية والسياحية في كيرالا، فأخذ بنا في سيارته الفاخرة الفارهة إلى أول مسجد أقيم في كيرالا في الهند معروف بمسجد شيرامان جمعة  (Cherman Juma Masji)(9).

       وركبنا السيارة بعد، واتجهنا من المسجد إلى سوق السمك على ساحل البحر، وكانت سفن صيد الأسماك مرساة عليه للتفريغ أو لحمل الزاد والحاجات والعودة إلى لجة البحر. ثم اتجهنا إلى بعض المناطق السياحية على البحر، ورأينا الهنود والأجانب يمتعون نفوسهم بجو البحر الهادئ ذلك اليوم بعض الشيء، ويلهون بعض اللهو. توقفت السيارة في بعض المطاعم الشعبية وشربنا القهوة على بعض المأكولات الشهيرة في المنطقة. وعُدنا منه إلى بيت الشيخ إبراهيم الذي هيأ لنا فطورًا شهيًا من السمك الطازج وغيره من المأكولات فتناولنا وشربنا الشاي المنعش في بيته العامر، وعدنا إلى المدرسة، وأخذنا قسطًا من الراحة بعد رحلة طويلة في الوهاد والأنشاز.

       ثم ركبنا السيارة في اليوم التالي صباحًا مبكرًا، مع جماعة تضم المفتي رجيب والمفتي زين العابدين، والمفتي محمد عثمان وكاتب هذه السطور، والسائق عبدالعزيز، والساعة سادسة و نصف، متجهين إلى مونار (Munnar) على بعد نحو مئة كيلو من المدرسة، بعد أربع ساعات تقريبًا وصلنا إلى مونار المدينة وجاوزناها إلى راج مالا (Raj Mala) وهي جبل سامق، و الساعـــة عاشــرة ونصف، وهنا شعرنا ببرد قارس، رغم أن الشمس كانت طالعة، فقد كان البرد وصل إلى (12) درجة مئوية، وتركنا السيارة مع السائق، واشترينا تذاكر للدخول إلى المنتزه الشهير على الجبل، وركبنا سيارات إدارة المنتزه، و طلعنا إلى الجبل كليومترات، ثم توقفت السيارة وقالوا: من أراد الصعود إلى الجبل والتنزه في المنتزه فليمش على  قدميه، وليصعد إلى الجبل لرؤية المناظر الجميلة والحيوانات الموجودة به من الأوعال وغيرها، فنزلنا من السيارة مع النازلين، وبدأنا نخطو خطوات إلى الجبل، ورأينا أول مرة في الحياة الأوعال في الغابة، وتناثرت اللوحات المكتوبة عليها: لايجوز مساس الحيوانات الموجودة على الجبل، ومن ورائنا حراس المنتزه يترقبون الناس وتصرفاتهم بعين من عقاب، والطرق ضيقة جدًا لاتسمح بمرور سيارتين معًا إلا بشق النفس، وطالما وقفت سيارتنا لتفسح المجال للسيارة القادمة حتى تمر ثم تواصل سيارتنا السير إلى الأمام. وتجولنا في الجبل برهة من الزمان، ثم عدنا إلى المكان الذي تركنا سيارة المنـتزه الجبلي هذا، فوجدنا طابورًا طويلًا من المنتظرين للسيارات حتى جاء دورنا للركوب فركبناها، ونزلنا من الجبل بعد نحو ثلاث ساعات إلى حيث تركنا سيارتنا نحن، وكثيرًا ما تنقطع الاتصالات في هذه المنطقة الجبلية، ولم نستطع الاتصال بسائقنا الذي خلفناه مع السيارة إلا بشق النفس. وقد أخذ منا التعب كل مأخذ، ثم شربنا قهوة في بعض المقاهي.وواصلنا السير إلى منطقة ماريور (Marayoor)، وهي منطقة جبلية أعلى من منطقة «راجل مالا»، على بعد نحو أربعين كيلو، والطرق وعرة وعثاء ضيقة يتلون السائق فيها تلون الحرباء خوف التوى والهلاك، ففي جانب منه وادٍ سحيق، و في جانب آخر جبال عالية و زروع خضراء من الشاي مد البصر. انطلقنا من «راج مالا» والساعة ثانية ونصف، وبلغنا «ماريور» والساعة رابعة إلا الربع، مررنا خارج المدينة بمسجد فأوقفنا السيارة وصلينا الظهر، ولم نجد في المسجد أحدًا من المصلين، ثم تابعنا المسير إلى المدينة، نتلمس مطعمًا للأطعمة الحلال، ولم نجد مطعمًا إلا عليه لافتة مكتوب عليها: «الحلال» بألفاظ بارزة، و تنقلنا في المدينة ساعة في البحث عن الطعام الحلال، حتى بلغنا مطعمًا عليه لافتة مكتوب عليها: «الحلال مئة في المئة» واسمه (Sneha Resturan)، فنزلنا من السيارة، سألنا النادل عن اللحوم فقال: هي حلال مئة في المئة؛ لأننا نشتريه من المسلم الفلاني- سماه-، ولم يطئمن بعضنا بقوله فلم يتناول إلا بعض الخضراوات، وأفاد الشيخ/ رجيب أن أصحاب المطاعم لايكذبون فيما يخص اللحوم، فإذا قالوا: حلال، فهوحلال دون ريب. ثم واصلنا السير في الطرق الجبلية وكان الشيخ/رجيب مصرًا على أن يُزيرنا بعض حقـول التفاح، فصعد بنا أعلى الجبل حيث يكون الضباب بصورة مستمرة في كل وقت من ليل ونهار، ونزلنا من السيارة والرذاذ يستقبلنا، فدخلنا بعض الحقول، ولم يكن موسم التفاح، فاكتفينا برؤية أشجاره وبعض الأشجار الأخرى التي لم نرها في حياتنا. وعُدنا أدراجنا والساعة رابعة وربع، حتى بلغنا المسجد الذي صلينا فيها الظهر، والساعة خامسة إلا الربع، فصلينا العصر، ولقينا إمام المسجد وهو الشيخ عبد اللطيف يشتغل مدرسًا في بعض المدارس في مدينة «مريور»، وأفاد بأن الإمام المكلف غائب وهو ينوب عنه في إقامة الصلاة في هذا المسجد، وعرض علينا الشاي، ولكن أعجلنا الوصول إلى «محطة القمة» عن تلبية طلبه، فاعتذرنا إليه، وأفاد الشيخ عبداللطيف بأن عدد المسلمين في المدينة لايتجاوز مئة بيت، ومعظم سكانها نصارى، بجانب قلة قليلة من الهندوس، ولاتوجد حساسية دينية في المنطقة أصلًا، والسكان كلهم يتعايشون في ظلال الأمن والسلم، ولم يستطع عبد اللطيف تحديد النسبة المئوية للمسلمين في المدينة، وذكرأن المصلين يكثرون في صلوات المغرب والعشاء والفجر، وأما صلوات الظهر والعصر فقلما يتوجه إليه أحد للصلاة؛ لأن الناس موظفون أو عملة يدأبون النهار كلها في أعمالهم ووظائفهم في أماكن مختلفة من المدينة. وتبين أن صاحبنا المفتي عثمان سبق أن درَّس أحد إخوان زوجة عبد اللطيف في مدرسة «منجيري»، فتبسط إلينا كثيرًا. ثم ودعنا عبد اللطيف وركبنا السيارة متوجهين إلى «محطة القمة» على بعد أربعين كيلو منها، مرورًا بـ«راجل مالا» ومدينة «مونار»، وكان السائق عبد العزيز يسوق السيارة بمهارة تامة وبسرعة كبيرة، يعتسف الخرق بعد الخرق، في هذه الطرق الملتوية رغبةً في أداء الصلاة في مدينة مونار، فبلغناها ودخلنا المسجد وقد سلم الإمام، فصلينا نحن جماعة في ناحية من المسجد. ثم تناولنا الشاي في المدينة، وكان الشيخ رجيب مصرًا على زيارة «محطة القمة»، وقد أخذ منا التعب كل مأخذ بعد الرحلة الشاقة المرهقة من بزوغ الشمس إلى غروبها، فاعتذرنا إليه عن هذه الزيارة، فتجولنا قليلًا في المدينة، ثم ألح الشيخ /رجيب أن يزيرنا (Water flower) فزرناها وتجولنا في أنحائها، وهي غنية بالأزهار الجميلة ذات أنواع وألوان لاتحصى ولاتعد، وعرجنا على متحف للأسماك، واطلعنا على أنواع كثيرة منها لم نرَ ها من قبلُ. ثم أزمعنا على العودة إلى الجامعة الكوثرية، والوقت الساعة الثامنة ليلاً، و وصلنا إليها في الساعة الحادية عشرة ليلًا بسلام آمنين، وحمدنا الله تعالى على العودة. وبتنا الليلة في الجامعة الكوثرية واستيقظنا صباحًا مبكرًا وخرجنا منها حين انشق الصبح الصادق، بسيارة الشيخ إبراهيم مدير المدرسة وهو يقود السيارة بنفسه، و ودعنا الشيخ إبراهيم والشيخ/رجيب على المطار بعد أن عانقنا وتصافحنا، وفي النفس حزازة على فراق هؤلاء الذين أحبونا في الله تعالى، وأكرمونا فوق ما نستحقه، والفضل في ذلك يرجع بعد الله تعالى إلى الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند، التي تحل في قلوب الناس قاصيهم ودانيهم محلا أسمى، ولحبهم لها أحبوا كل من ينتمي إليها من أساتذة وطلاب. فجزاهم الله خير ما يجازي به عباده الصالحين.

       وكانوا حجزوا لنا مقاعد على طائرة الخطوط الهندية المتجهة إلى دهلي عاصمة البلاد، وتأخرت الطائرة عن موعدها نحو ساعة أو أكثر، دخلنا المطار، واستكملنا الإجراءات اللازمة، واتجهنا إلى صالة الانتظار، وقضينا بها ما تبقى من وقت إقلاع الطائرة. ونزلنا على مطار دهلي للرحلات الداخلية، و ركبنا قطار «ميترو»، وسبق أن حجزنا المقاعد في القطار المتجه إلى ديوبند ووصلنا إليها في الساعة السادسة إلا الربع بسلام آمين، وحمدنا الله تعالى على ذلك.

*  *  *

الهوامش:

(1)       الجامعة الكوثرية: إحدى المؤسسات التعليمية على منهج دارالعلوم/ديوبند، يرجع نشأتها إلى أن الحاج/زبير – أحد أثرياء المنطقة (يوم الجمعة 20 /5/1929- يوم الاثنين 26/6/1990م) خرج مع جماعة الدعوة والتبليغ عام 1973م وزار – زيارة دعوية- كلا من العراق والشام وفلسطين والمدينة المنورة، ومكة المكرمة، وعاد منها بعد أن انقلب رأسًا على عقب، وتبدل نفسا بنفس، فجاشت في نفسه الرغبة في تدريس أبنائه دراسة دينية، فأرسل نجله الحاج/ أويس رحمه الله إلى مدرسة سبيل الرشاد/ بنغالور للدراسة فيها، ثم حدثت نفسه أن ينشئ مدرسة عظيمة في المنطقة تفاديًا من الصعوبات التي يلاقيها الراغب في الدراسة الدينية في الرحلات الشاقة إلى الأماكن البعيدة، وليتيسر على الناس تعليم أولادهم الدين في منطقتهم، فبدأ المدرسة بأستاذ وبعض الطلبة على صورة كُتَّابٍ صغير، بإيعاز من الشيخ موسى (1349-1423هـ=1930-2002م) في مسجد النور بمدينة «أرناكولم» في29/رمضان عام 1394هـ= 15/أكتوبرعام 1974م. هذه هي البداية المصغرة لهذه المدرسة التي عادت فيما بعد مركزًا علميا تعليميا على مستوى «كيرالا».

ولمسجد النور قصة طريفة حكاها لي الأخ الفاضل/رجيب، وهي أن الحاج موسى– أحد أثرياء المنطقة – عاد من الدول الأوربية والغربية، و اشترى هذه القطعة من الأرض في المدينة ليبني عليها مسرحًا وملهى من طراز جديد سائد في الدولة الأوربية، ثم توطدت صلته مع جماعة الدعوة والتبليغ، فعدَّل نيته وبنى مسجد النور بدلا من المسرح والملهى.

وفي السنة التالية من بداية الجامعة الكوثرية  اختار الحاج /زبير لذلك مكانا عاليًا، فاشترى قطعة من الأرض واسعة في هذه المنطقة التي تقع الجامعة فيها بنفقته، ووقفها على المسجد والمدرسة، فبنى المدرسة ومسجدًا، رغبة منه في إعلاء صوت الأذان والدراسة الدينية من أعلى مكان في المنطقة، فانتقلت المدرسة إلى المباني الجديدة التي أنشئت لنفس الهدف، على بعد 15 كيلو من مدينة «أرناكولم»،و واصلت الجامعة نشاطاتها حتى خرجت الدفعة  الأولى من خريجيها في 24/1/1981م، وأنيطت العمائم برؤوس المتخرجين بيد الشيخ العلامة الشيخ أبو سعود الباقوي رحمه الله- مدير جامعة سبيل الرشاد/بنغلور-، ثم تولى رئاسة المدرسة و ولايتها الحاج /أويس رحمه الله، المتوفى عام 2015م،ويتولى رئاستها اليوم الشيخ /إبراهيم بن الحاج / أويس.

وتحتضن المدرسة حاليًا (200)طالب، وطاقمها يضم (25) شخصًا. وتتوفر فيه الدراسة إلى مرحلة «الإفتاء»، ويتوجه كثير من طلابها إلى الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند وغيرها من المؤسسات التعليمية الشهيرة في البلاد للدراسات العليا.

وقامت الجامعة الكوثرية وطلابها وخريجوها بنشاطات دعوية وتعليمية مخلصة مكثفة مرموقة، فحلت أسمى مكان في قلوب الشعب، وتفرق خريجوها في مختلف أماكن المنطقة وخارجها.

وخلال تواجدي في المدرسة لمست في القائمين عليها الحرص الشديد على تزويد أبنائها بالعلوم النافعة والأخلاق الحسنة؛ وفي أساتذتها الرغبة الجامحة في تثقيف الطلاب وتعليمهم وتربيتهم تربية دينية مثالية؛ وفي طلابها إقبالٌ عظيم على طلب العلم النافع لهم وللمسلمين.

ومن الجدير بالذكر أن الطالب يتخرج في الجامعة الكوثرية حاملًا معه العلوم الدينية بجانب التضلع من العلوم العصرية إلى حد كبير جدًا يمكنه من مواصلة الدراسات العصرية في مختلف المجالات والميادين الحيوية في الجامعات الرسمية العصرية.

(2)       المفتي عثمان غني بن عبد الرؤوف، من العلماء الشباب، ومن مواليد عام 1969م، تلقى دراسته الابتدائية في مدرسة شمس العلوم/ بردوان، بنغال الغربية، ومكث بها خمس سنوات، ثم التحق بدارالعلوم/ديوبند، وتخرج منها في دورة الحديث الشريف عام 1990م، وأكمل الإفتاء بها عام 1991م، ثم تولى التدريس في بعض المدارس الهندية لمدة قصيرة ثم استقدمته مدرسة «منجيري» في كيرالا، فمكث بها مدرسًا لمقررات دورة الحديث الشريف لمدة أربع سنوات، ثم ترشح للتدريس في الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند عام 2006م، ولايزال بها ليومنا هذا، وبجانب التدريس لمقررات المرحلة العليا في دارالعلوم/ديوبند له هواية التصنيف والتأليف، فصدر من يراعه كتب قيمة منها: «نجوم الصرف»- في علم الصرف-، و«الأدعية بعد المكتوبات»، وهما باللغة العربية. وهو منطلق اللسان كذلك باللغة العربية، و رجل هش بش، ترقص الابتسامة على شفتيه بشكل دائم، وعلى غاية من البساطة والهمة العالية في التدريس وفي الأعمال الموكولة إليه من الجامعة.

(3)       الحاج رفيق من منطقة «مدنا فور» في بنغال الغربية، له مكتب عقار في دهلي، من الشبان المحبين للعلم وأهله، كثير الترحيب بهم، له همة عالية في أعمال الخير والبر، شديد اللصوق بالمفتي عثمان وبلدِيُّه. اعتمر العام الماضي وحكى لنا كثيرًا من ذكريات عمرته بلهف وشوق عظيمين، وهو ينوي الحج مع والده المسن و والدته العام الجاري كما أخبرنا بذلك يسرالله تعالى له وهيأ له الأسباب. يتردد إلى ديوبند وسهارن فور للقاء أهل العلم والصلاح في المنطقة وشحن بطارية إيمانه ويقينه كما يقوله.

(4)       كوتشين(Cochin) منطقة سياحية كثيرة الأنهار والأشجار، سكانها وادعون هينون لينون.

(5)       الشيخ عبد الغفار بن أحمد الكوثري، من العلماء الكحول وأحد الأساتذة في الجامعة الكوثرية، ولد عام 1960م في كيرالا، وتلقى مبادئ العلوم في الجامعة الكوثرية ثم التحق بمدرسة نظام الدين/دهلي وتخرج منها عام 1982م في دورة الحديث الشريف، ثم تعين مدرسًا في مدرسة كاشف العلوم/تريوندرم /كيرالا، ثم استدعته الجامعة الكوثرية للتدريس، عام 1986م ولايزال يدرس فيها منذ (30) عامًا مختلف المقررات الدراسية،أمثال «المحلي»- في فقه الشافعية-، و«صحيح مسلم»، من أعماله رسالة نقلها إلى اللغة المحلية: مليالم.

(6)       الشيخ /رجيب: من العلماء الشباب الناشطين في الدعوة والتدريس، من مواليد عام 1983م، أخذ مبادئ العلوم في بعض المدارس الإسلامية في كيرالا، وبصفة خاصة في مدرسة «منجيري»، ثم التحق بدارالعلوم/ديوبند في السنة الخامسة العربية، وواصل دراسته حتى تخرج منها عام 2006م، وأكمل الإفتاء في الجامعة نفسها عام 2007م، ثم بدأ التدريس في بعض المدارس في كيرالا حتى استقطبه الشيخ إبراهيم صاحب المدرسة حاليًا، إلى مدرسته الجامعة الكوثرية وعينه مدرسا ومديرا للشؤون التعليمية.

(7)       الشيخ ظفير الدين بن محمد عالم كير، من مواليد عام 1976م في مدينة جمال فوره، دربنجه، بولاية بيهار الهندية، أخذ دراسته الابتدائية في المدرسة المعروفية/فوره معروف، من مديرية مئو-حاليا- ومن مديرية أعظم كره سابقًا، في ولاية أترابراديش، ثم التحق بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ديوبند عام 1987م، ولم يكمل دراسته لأسباب، ثم التحق بها مرة ثانية في دورة الحديث الشريف عام 1995م، وتخرج منها في نفس السنة ليلتحق بقسم التخصص في اللغة العربية ويتخرج منه عام 1996م، ثم تولى التدريس لمدة سنتين في مدرسة نجم الهدى،بـ«منجير» من ولاية كيرالا، ثم انتقل منها إلى مدرسة سراج العلوم/ دهوليا بولاية مهاراشترا، ثم استقدمته الجامعة الكوثرية للتدريس فيها عام 2012م، وهو مستمر في تدريس مقررات المرحلة العليا ليومنا هذا في هذه الجامعة. كان كثيرا الانبساط والفرح بمقدمنا إليها، كثير الحديث عن الذكريات التي عاشها في دارالعلوم/ ديوبند، وأساتذتها وزملائه فيها.

(8)       الشيخ محمد إبراهيم من مواليد عام 1982م، حفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ الدراسة في الجامعة الكوثرية في بلده، ثم حدَا به الشوق إلى جامعة زكريا في جنوب إفريقية، فشد رحاله إليها وأمضى بها أعوامًا في تحصيل العلم والمعرفة ليتخرج منها عام 2003م، ثم خرج مع جماعة الدعوة والتبليغ لمدة سنة واحدة، ثم عاد منها إلى كيرالا وسعى مع والده في أعماله التجارية، ثم وُلِّي قائمًا بأعمال المدرسة بعد وفاة أبيه الحاج أويس بن الحاج زبير عام 2016 م، وجده الحاج /زبير هو الذي وقف هذه الأراضي على الجامعة الكوثرية، ظل قائما بأعمال المدرسة ما دام حيًا ثم خلف ابنه الحاج/أويس ثم خلفه ابنُه: الشيخ إبراهيم هذا الذي يعدُّ من العلماء الشباب، وله طموحات واسعة لتطوير المدرسة والرقي بمستواها التعليمي والتربوي. وبلغ من نزاهته من مال المدرسة أنه يعيش في بيتها على الإيجار دأبَ جده و والده. فجزاه الله تعالى عن الجامعة الكوثرية خيرًا، وبارك في ماله وولده.

(9)       مسجد شيرامان جمعة ( Cheraman-juma-masjid ) هو مسجد في مدينة «ميثالا كودونغالور تالوك» بمقاطعة تريسوربولاية كيرالا في الهند. و يعد مسجد شيرامان أول مسجد بني في الهند، حيث إنه بني عام 629 على يد مالك بن دينار رحمه الله، ويعتقد أن هذا المسجد تم تجديده وإعادة بنائه لأول مرة في القرن الحادي عشر الميلاد.

ويعتقد شعب ولاية كيرالا أن «فيهار القديم بوذا» كان قد أعطى المسلمين الإذن بإقامة مسجد لهم هناك، ومنذ ذلك الحين كانت العلاقات التجارية بين العرب، وشبه قارة الهند من جهه أخرى نشيطة من العصور القديمة، وحتى قبل الإسلام كانت قد نشأت علاقة بين العرب والهند، حيث زار التجار العرب منطقة «مالابار» والتي كانت الوصلة الرئيسة بين موانئ جنوب وجنوب شرق آسيا، ومع ظهور الإسلام أصبح التجار العرب يحملون الدين الجديد و ينشرونه أينما ذهبوا، وقد ذهب «شيرامان بيروميل»- ملك شيرا- إلى البلاد العربية حيث التقى المسلمين، واعتنق الإسلام وغير اسمه إلى تاج الدين.

ومن هناك بعث برسائل مع مالك بن دينار إلى أقاربه في ولاية كيرالا يطلب منهم أن يكونوا لطفاء مع هذا الأخير، وتقول الروايات: إن مجموعة من العرب بقيادة مالك بن دينار ومالك بن حبيب وصلوا إلى شمال ولاية كيرالا وهم الذين شيدوا مسجدًا في دودونغالور .

والمسجد لديه مصباح النفط القديم الذي يحرق دائمًا لكي يضيء، والذي يعتقد أن عمره أكثر من ألف سنة. والناس من جميع الأديان يجلبون النفط للمصباح، ومثل معظم المساجد في ولاية كيرالا يسمح لدخول غير المسلمين إليه. وكان رئيس الهند آنذاك أبو بكر زين العابدين عبد الكلام ممن زار المسجد.

دخلنا المسجد والوقت نحو الساعة الثامنة صباحًا، واطلعنا على الجزء القديم منــه، وهـــو مزين بالأخشاب الغاليـة. وفي جزء منـه بعض القبور. وخارج المسجد ترعـة واسعة قديمة. كان يستخدم ماؤها للوضوء ونحوه.   (https://www.keralatourism.org/muziris/cheraman-juma-masjid.php)

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1439 هـ = مايو – يوليو 2018م ، العـدد : 9-10 ، السنة : 42

Related Posts