دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

من نفحات دارالعلوم العلمية والدينية:‏

       وذات مرة قالت صحيفة «عصر جديد» تعليقًا على خدمات دارالعلوم/ ديوبند:

       «ما تقوم به دارالعلوم/ديوبند من خدمة دينية وتعليمية، وما تبذله من المساعي المشكورة في صيانة الكياني الروحاني للهند الإسلامية من السيل العارم للثقافة والحضارة الإسلامية يشهد به كل شبر من أشبار شبه القارة الهندية الطويلة العريضة. وفي الوقت الذي بهرت أنوار العلوم الجديدة أبصار ذوي النظرات العابرة، في حين كانت المعزة والمناصب الدنيوية يسيل لها لعاب أخيار الناس،في حين أعرض الناسُ عن الدين، وغفلوا عن تعاليمه، وفي حين خشعت أصداء «قال الله، وقال الرسول» المباركة تحت أنقاض العلوم الجديدة، وغلب على أمرها أمام نداءات العلوم والحضارة الغربية الفاتحة وضجاتها، في مثل هذه المرحلة الزمنية الرهيبة كانت ديوبند، وديوبند وحدها كانت قائمة على قدميها حاملة بيدها لواء الكتاب والسنة النبوية. وكم حاولت عواصف الغفلة والإعراض التي كانت تمر بها البلاد هدمُ كيانها والتغلب عليها إلا أنها قامت قيام الجبال الراسيات، ولم تستطع عواصف الثقافة الفاتحة الغالبة أن تنحرف بها عن آسيويتها وقدامتها وأصالتها. وحاول سيل التعليم الجديد أن يجرف بها في تياره، فخاب وخسر؛ فإن دارالعلوم ظلت تقاوم – رغم بؤسها وضعفها – أعداءها داخل الصف وخارجه في جانب، و في جانب آخر وصلت بنور روحانيتها إلى كل ناحية من نواحي البلاد، حتى أصبحت –بعد جهود متواصلة مضنية – مركزًا عظيمًا للتعليم الإسلامي لا في الهند فقط؛ بل في آسيا كلها، وبلغت مغناطيسيتها الروحانية أن تجمعت حولها فدائيو علوم الكتاب والسنة لا من «بيشاور» و«رنغون» فقط؛ وبل من «قفقازيا» و«الموصل»، ومن نواحي العالم الإسلامي كله.

       يقال: إن العلماء يعتزلون الناس، ويجهلون تقلبات العالم، وهذا منقوض الأساس، فإنهم لم يعارضوا العلوم الجديدة، إلا لأنهم أعداء للثقافة الغربية التي تغفل القلوب والعقول عن قوميتها ودينها ومجتمعها. وليسوا جامدين أوضيقي الأنظار غير أن نفوسهم تشمئز من التعليم والمجتمع اللذين يوسعان الفجوة بين أبناء جنس واحد، وبلد واحد، ويقضيان على عاطفة القومية فيهم، ويغفلانه عن الدين الخلق الشرقي، ويخلقان فيهم حب الموضة، والولع بالظاهر، والركون إلى الراحة والدعة، ويعميانهم عن أكبر وأهم أهداف الحياة: عبادة الله تعالى وخدمة خلقه سبحانه(1).

       وقالت صحيفة «الجمعية» في افتتاحيتها بتاريخ 22/ أبريل عام 1952م :

       «من الحقائق التي يعدل إنكارها إنكار أعظم الحقائق في العالم أن ما قامت به المدارس الإسلامية الدينية الهندية وخاصة دارالعلوم/ ديوبند من خدمات عظيمة للإسلام والمسلمين، و الطريق الذي سلكته في صياغة العقول في قوالب إسلامية مما يعز مثيله في نظام تعليمي آخر في العالم. وإن ما تقدمه المدارس العربية من الدراسة الرخيصة يعزّ نظيره على مستوى العالم. ويتقاضى أساتذتها من الرواتب الضئيلة التي يتقاضاه اليوم العمال والخدمة في مصالح الحكومة. ويدرِّسون على الحصر ليخرجوا طلابًا يحملون على عواتقهم مسؤولية الحياة الدينية للمسلمين. ويبلغ الطلاب من الاستقامة ما يجعلهم يقتنعون بما ينالون ويتوفر لهم. فإن كانت المدرسة توفر لهم بعض المساعدات فهي لاتتجاوز قيمة شراء الدهن والصابون، ويقوم الطلبة بغسل ملابسهم بأيديهم. ويقفون حياتهم لمرضاة الله تعالى، ولايبالون بما يواجهون من الجوع في بعض الأوقات، ولايجدون ما يغطُّون به أجسادهم.

       ولوذهبنا إلى تقصي الأعداد والإحصائيات للدراسة الرخيصة التي توفرها هذه المدارس لم يصدِّقها العالم. فهذه المدارس مصدر الحياة الإسلامية، تضخّ الدم الطازج من الدين والعقائد في جسد المسلمين الديني. ولا يخفى على أحد أن دارالعلوم /ديوبند أكبر مركز ديني لا في الهند؛ بل في آسيا كلها، يتلقى فيها طلاب العالم كله الدراسة، وامتدت نفحاتها إلى آسيا كلها(2).

       وقالت صحيفة «دعوت» في خصائص دارالعلوم/ديوبند:

       «دارالعلوم عندنا أمانة أتى عليها قرن من الزمان، هي المؤسسة الوحيدة في آسيا تقوم بكفالة ألف وخمس مئة طالب، وتزودهم بالتعليم كل عام، في حين لم تتلق فلسًا من المساعدات الحكومية، ويتوجه إليها للدراسة طلاب آسيا الصغرى حتى الحجاز والشام والعراق، وتفرّق خريجوها في هذه الدول والمناطق وأثبتوا تفوقهم في العلم والمعرفة. إن مسؤولية التدريس في المدارس، والإمامة والخطابة في المساجد يتولاها خريجوها في معظم الأحوال»(3).

       وتدلك انطباعات بعض المفكرين الغربيين على أن صيت دارالعلوم ومكانتها تجاوزت القارة الإفريقية إلى كندا، حيث يقول كينتول إسمث- رئيس جامعة «ميك كل» في كتابه (Moderate Islam In India):

       «إن دارالعلوم/ديوبند-الأزهر الثاني- مؤسسة دينية هامة موقرة في العالم الإسلامي، ومن الطبيعي أن يحتل نفوذًا وإكرامًا كبيرين جدًا في الهند، وخاصة لأنها حرصت على تطور المسلمين الاجتماعي جريًا على عادتها المستمرة، وترجع تقاليدها القديمة إلى حركة الشاه ولي الله الدهلوي. انطلاقًا من هذه المثل والتقاليد ساهم علماء ديوبند في مختلف الحركات الثورية، ومنها: ثورة عام 1857م، أو وقوفهم بجانب حزب المؤتمر الوطني حاليًّا. والاتجاه الديوبندي – على العكس من الاتجاه البريلوي- لايرضى بأن تستمر الأوضاع على ماهي عليه الآن؛ بل هي ناشطة في تطوير الأوضاع بكل عزيمة وحماس. ونصب عينيها إحياء الإسلام الحقيقي، أي انتشال المسلمين من الأعمال والتقاليد الباطلة التي اصطبغت بصبغة الدين – والحفاظ عليه من أن تمتد إليه يد التغيير والتخريب مما يعرضهم له الاستعمار البريطاني بصورة مستمرة».

       وبالنظر إلى الحيثية الدينية يحمل هذا الاتجاه نوعا صارمًا من التقليد والاتباع، ويرى إغلاق باب الاجتهاد المطلق بإحكام. وتعتبر دارالعلوم قوية في الحفاظ على حدود الإسلام وصيانتها، وهي على غاية من العقلانية داخل هذه الحدود والأطر، وفي حرص شديد دائم على محاربة الضلال، والنفاق والكسل الذهني. وجوّها الديني يسوده الأسلوب الكلامي، ويتبع أساتذتها – إلى حد كبير- الطريقة القديمة التقليدية.

       إن علماء ديوبند أشداء أقوياء في المجال العلمي، مشمرين ذيولهم بعزيمة راسخة لمحاربة الفساد و الأوهام وعبادة الصلحاء ولوازم الجهل والفقر والخوف والذعر، مما أشربه المجتمع الريفي الأدنى. ويتَّجهون إلى الإسلام التقليدي المتمثل في صورتها الأخلص الأصفى، بالإضافة إلى تطبيق الشريعة بقوة و صرامة. 

       وفكرتهم فيما يخص تاريخ الإسلام فكرة علمية على العكس من الفئة المتحررة التي تعرض صورة خلابة ملونة لعصر مثالي في الزمن الماضي إلا أنها تصبغها صبغة غامقة بالأفكار والنظريات المتحررة السائدة في العصر الحاضر بدلًا من أن تصبغها بالمواد الثقافية الإسلامية(4).

       إن خدمات دارالعلوم/ديوبند ظاهرة كالشمس في رائعة النهار يراها  المرء بادئ الرأي. قال الدكتور/ راجندرا براشاد الراحل- رئيس الجمهورية الهندية – عام 1377هـ-1957م(5): «كان عظماء دارالعلوم يتلقون العلم ويعلّمونها للعلم، وقد سبق أمثالهم في الماضي ولكنهم قليلون، ممن كانوا يتلقون العلم للعلم فحسب، ويعلمونه للعلم كذلك، وهؤلاء يكسبون من العزّ ما يفوق عزّالملوك. وإن عظماء دارالعلوم اليوم يتأسون بأسوتهم.

       لم تقصر دارالعلوم خدماتها على سكان هذه البلاد؛ بل أكسبتها خدماتها من الصيت والسمعة ما حمل طلاب الدول الأخرى على شدّ الرحال لتلقي العلم في رحابها، ليتخرجوا منها إلى بلادهم، وينشروا العلم فيها»(6). وهذا مما يعتز به سكان البلاد كلهم(7).

*  *  *

الهوامش:

(1)      صحيفة «عصر جديد» بتاريخ 13/ أكتوبر عام 1936م

(2)      صحيفة «الجمعية»، بتاريخ 22أبريل عام 1952م

(3)      افتتاحية صحفية«دعوت»، دهلي، بتاريخ 24/ يوليوعام 1969م

(4)      Moderate Islam in India-الإسلام المعتدل في الهند- ص 321

(5)      سوانح

(6)      على الحكومة الهندية أن تقدم الشكر إلى المدارس الدينية بصفة عامة وإلى دارالعلوم /ديوبند بصفة خاصة؛لأنها لا تتلقى مساعدات حكومية، وتدأب في محو الأمية وبأقل نفقة بكل سذاجة وبساطة، بالإضافة إلى إصلاح المجتمع الخلقي ليل ونهار، علاوة على ذلك تجاوزت نفحات خدماتها وبركاتها الهند إلى بلاد العالم؛ بل يشكلون خير أداة لنشر صيت البلاد وسمعتها الطيبة في البلاد الأخرى كما أشار إليه رئيس الجمهورية الهندية. 

(7)      «رئيس الجمهورية الهندية في رحاب الهند» ، ص 27، 32.


(*)    أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1439 هـ = أبريل – مايو 2018م ، العدد : 8 ، السنة : 42

Related Posts