دراسات إسلامية

بقلم:  الدكتور نبيل طنطاني/ المغرب

مقدمة:

       تعتبر الأسرة عماد المجتمع؛ بل هي مقوم من مقومات بناء الحضارة الإنسانية، ولقيمتها أولاها الشارع الحكيم عناية فائقة، لما يترتب على إصلاحها أو إفسادها من مصالح أو مفاسد، وقد ارتبط إيجادها بمقاصد شريفة تتعلق بخلق الإنسان قال تعالى: ﴿يٰٓأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء:1) ولهذا كان الحرص على رعايتها وإيجادها من أكد مقاصد الشريعة.

       والأسرة في التصور القرآني هي بمثابة اختبار اجتماعي للإنسان ليظهر فيه قوته وقدرته التربوية على حسن التربية ورعاية الأسرة وتوجيهها وفق قوانين التربية القرآنية، ولهذا نتعجب اليوم من تنافس الأسر فيما بينها في الجوانب المادية، والغلو في ذلك على حساب التنافس في الجوانب التربوية العقدية الإيمانية، وهو ما يجعل حركة الإنسان في التاريخ تنبني على قيم مادية محضة تؤثر على تفكيره وشخصيته، فتجعله يبني حضارته على أساس مادي، يقتل فيها الكيان البشري ويطمس معالم الروح فيه، ويلغي الشخصية الإنسانية الحقيقية؛ لأن الإنسان بروحه وأخلاقه وقيمه إنسان.

       وقد خصصت الشريعة الإسلامية أحكاما كبيرة لـمـا يقويها ويحفظها، ويساعدها على أداء دورها الاستخـلافي الحضاري، باعتبـارها الامتداد لمفهوم الخليفـة في القرآن الكريم، وأهم الوسائل التي يتحقق بها إيجــاد الخليفة وتأهيله عقديا وتربويا في مسـيرتـه الإصلاحيــة، ولهذا كان لابد من إيجاد هـذه الأسرة وفق ثلاثة أنساق: الأول: ربط حركة الأسرة بالمقاصد الاستخلافية، والثاني: ربط الأسرة بالمقاصد التي تتعلق بخلق الإنسان. والثالث: ربط نظام الأسرة بالأمانة الكونية والمسؤولية الربانية التي أوكلت للإنسان ليتحملها في الأرض، وما لم يخضع بناء وتشكيل الأسرة لهذه الأسس، فإن الأسرة ستنهار أخلاقيا وإيمانيا، وستكون حياتها بلا هدف ولا غاية، وسينزل الإنسان بقدره وتكريمه، ليتشبه بالمخلوقات الطبيعية، التي اقتضت حكمة الرب أن يختلف عنها الإنسان بعقله ووحيه المنزل عليه، وهي مخلوقات حددت حياتها وعيشها في السياق المادي الغريزي المحض، بينما الإنسان أعلى وأشرف من أن يوقع أسرته حتى تعمل بلا هدف، وتحيى بلا غاية، ولهذا كان الإنسان أشرف المخلوقات، الذي ارتبط إيجاده بأحسن الغايات التي تحددها عقيدته وإنسانيته وعقله.

       ولهذا كان من الضروري اليوم في ضوء المتغيرات المعاصرة  النظر إلى إعادة بناء الأسرة وإدارتها على وزان قواعد القرآن الكريم، الذي يعتبر المرشد المعين لهذه المؤسسة التي أصبحت اليوم تضعف أمام هذه التحديات الإعلامية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية، بحيث غيبت دور الأسرة في التربية الإنسانية، وأبعدت آثارها عن الشخصية الإنسانية، فكثر القيل والقال في طرق إصلاح الأسرة من جديد، وقد جربت في ذلك نظريات تربوية معاصرة لإخراج الأسرة من مأزقها، فلم يحصل تغيير في نظامها، فاقتضى الحال العودة إلى كتاب معجز غير مجرى التاريخ البشري، وتمكن بفضل أحكامه وتشريعاته وإدارته من إصلاح الإنسان في أسرته وتأهيلها حتى تقوم بأدوار إصلاحية في بناء الإنسان ليسهم في التعمير والإصلاح، وهو ما سيظهر جليا في هذا البحث الذي سأحاول أن أظهر فيه مسألة الإدارة الشرعية لمؤسسة الأسرة في القرآن الكريم من خلال بيان أهم الأسس والمعالم والقواعد التي ركز عليها القرآن الكريم في تدبير الشأن الأسري، وهي:

       – التربية على الفطرة التي خلق الله عليها الناس، قال تعالى: ﴿فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (الروم:30)، وهي خلقة ربانية أرادت حكمة الله أن ينشأ عليها الإنسان منذ الأزل قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِيٓ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلٰى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غٰفِلِينَ﴾ (الأعراف:172)، وهذه الفطرة هي بمثابة  لبنات أخلاقية ينبغي أن ينشأ عليها أفراد الأسرة.

       – ربط فلسفة الزواج بوظيفة الإنسان الاستخلافيــة في الأرض: ينبغي أن يعلـم أن الزواج في القرآن لا ينبغي أن تمليه ظروف اقتصادية أو مادية أو اجتماعية، أو حالة نفسية، أو حاجيات غريزية، بقدر ما ينبغي أن تمليه مقاصد عقدية وغايات حضاريــة، يستطيع مــن خلالها الزواج أن ينسجم مع مقصد خلق الإنسان وإيجاده في الحياة، ولهذا تفكير الإنسان في الزواج لا ينبغي أن يبعده عن تثبيت المقاصد العليا من إيجاده في هذه الحياة، فبدون استحضارها والسعي إلى تفعيلها في الواقع؛ فإن الإنسان لا يسلم بزواجه من الوقوع في المحاذير كما حصل ذلك في موقفين بارزين في القرآن الكريم:

       الأول: موقف يوسف عليه الصلاة والسلام الشاب غير المتزوج الذي ثبت في نفسه المقاصد العليا من إيجاده، فكان ذلك سبب نجاته من فتنة الزنا، قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّيٓ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّٰلِمُونَ﴾ (يوسف:23)، لأن الخائن أول خيانة له، هي أنه يخون ربه ورسالته قبل أن يخون زوجه وأهله. ولهذا نبه الله على ذلك في قوله: ﴿يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمٰنٰتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنفال:27) فالسبب المؤدي إلى خيانة الأمانة هو الخيانة العظمى لله ورسوله.

       الثاني: موقف امرأة العزيز  التي لم تستحضر المقاصد العليا من خلقها وإيجادها، ولم تستحضر وظيفتها التي أسندت لها في الأزل، ولهذا لم يمنعها زواجها أن تخون زوجها قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ﴾ (يوسف:23)، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصّٰغِرِينَ﴾ (يوسف:32).

       – استفتاح بناء الأسرة على خصال المروءة، وهو ما يستدعي بناءها على أخلاق تتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة قبل الزواج منها: مثل البعد عن الوعود الكاذبة قال تعالى: ﴿لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلّا أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ (البقرة:235)، واستئذان أهل الزوجة؛ لأن المرأة أمانة الناس، لا يحل التصرف فيها إلا بعد إذن صاحبها قال تعالى: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ﴾ (النساء:25).

       – العناية باللباس الأسري حتى لا يتسخ ولا يبلى، والتعبير باللباس فيه روعة عظيمة جدا، لينتبه الإنسان إلى حجمه وقيمته فكل لباس سيتسخ ويبلى ويقدم ويرقع، لكن هذا اللباس يبقى دائما لباسا يؤدي وظيفته، التي هي نفسها وظيفة هذا الدين، وهو اللباس القرآني يرسم للإنسان وظيفته التربوية التي ينبغي لرعاة الأسر أن يؤدوها، حتى تحس الأسرة برحمة هذا اللباس الرباني. كما أنه لباس ينبغي الحرص على حسن اختياره، حتى يتناسب مع دور الإنسان الخليفة العالم العامل العابد، ويحقق ستر الروح والوجدان وعورات أفراد الأسرة، قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ (البقرة:187).

       – التربية على حب الأصول، وتنمية ذلك في نفوس الأبناء لما له من أثر نافع في بناء الأسرة،  قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسٰناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْرًا حَتَّىٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ﴾ (الأحقاف:15).

       – إحكام  ميثاق الزوجية، وتدبيره وفق سياسة الشرع، التي جاءت لجلب المصالح ودفع المفاسد قال تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء:21)، والإحسان والمعاشرة بالمعروف، قال تعالىٰ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ﴾ (النساء:19).

       – الاعتبار من آيات الله في الكون في بناء الأسرة؛ لأن الزواج من آيات الله في الكون التي تستوجب تعظيمًا لله قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوٓا إِلَيْهَا﴾ (الروم:21) وتأسيس الأسرة ينبغي أن ينبني على قيم إنسانية نبيلة منها المودة والرحمة قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لآيٰتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم:21).

       – العناية بفقه الإرث التربوي الإيماني، الذي يجعل الأبناء تركة تحفظ بقاء الدين والعلم قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰفًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ (النساء:9)، وهو ما يتطلب أن يكون الآباء في مستوى الصلاح و مقام الإصلاح الذي يحفظ المادة والروح في الكيان البشري قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوْهُمَا صَالِحًا﴾ (الكهف:82)

       – التربية على الحوار الأسري الذي ينبني على أساس الحكمة والإقناع: وذلك ظاهر في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ﴾ (لقمان:13).

       – معايير الاختيار في تشكيل الأسرة تتأسس على القوة بأبعادها العقدية التربوية وتحمل الأمانة في أعمق دقائقها، قال تعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدٰهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ﴾ (القصص:26)

       – الحرص على وقاية الأبناء من كل نار تحرق الإيمان، وتميت روح الفطرة في النفوس قال تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم:6).

       – دفع ورفع  ومنع الضرر في جميع صوره سواء كان ماديا أو معنويا عن الأسرة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيٰتِ اللّهِ هُزُوًا﴾ (البقرة:231)

       – حفظ الأسرة من جميع صور وأشكال المس الشيطاني الذي يتطلب حماية الأسرة من شره، وهي مخططات شيطانية تضعف نظام الأسرة، وتهز عرشها وتجعله في مهب الريح، وهذا مقصد شريف؛ لأنه ارتبط ببداية خلق وإيجاد الإنسان قال تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ (البقرة:36)، وقال تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْـمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ (البقرة:102)، وقال تعالى: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطٰنِ الرَّجِيمِ﴾ (ال عمران:36).

       – الحرص على إصلاح الأسرة وتعاهدها تربويا وعقديا، وإعدادها لتنخرط في مسيرة استكمال الإصلاح التربوي الاستخلافي في الأرض، وهو من العهود الأزلية التي ينبغي أداؤها والحفاظ عليه، وينبغي نقل عناصرها العقدية إلى نفوس أعضاء الأسرة حتى تتأسس الأسرة على مواثيقها، قال تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظّٰلِمِينَ﴾ (البقرة:124)، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ (البقرة:128)، قال تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرٰهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يٰبَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفٰى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة:132): يعني ينبغي لنشأة الأسرة أن تنسجم مع معطيات الدين، قال تعالى: ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْـمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلـٰهَكَ وَإِلٰهَ آبَائِكَ﴾ (البقرة:133).

       – بناء محبة أسرية لا تقوم على مجرد العواطف الفطرية، التي تمليها طبيعة الإنسان البشرية، وإنما ينبغي أن يضاف إلى مبانيها محبة عقدية تنبع من أصل العقيدة والإيمان قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ (البقرة: 165).

       – اعتماد المعاييــر الأخلاقيــة والعقـدية في بناء الأســرة منذ بدايــة تكوينها، ولهذا كانت رسالة الإيمان مؤثــرة في الحياة الأسرية، ولقيمتها نبّه الحق عليها، قال تعالى: ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ (البقرة:221). وقال تعالى: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ (البقرة:221).

       – الوفاء بحقوق الأبناء والأهل باعتبارها من ضمن المسؤوليات الربانية التي لا ينبغي للإنسان أن ينسحب عنها؛ لأنها بمثابة اختبار أسري، يظهر فيه مدى نجاح الإنسان في إتقان عمله، والوفاء بها دال على إخلاص الإنسان في العبادة، قال تعالى: ﴿وَالْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْـمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لَا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ (البقرة:233).

       – اعتبار القوامة تكليفا وليس تشريفا في حق الرجل، يقتضي أن يكون الزوج حريصا على خدمة أهله وأسرته، فالقوامة هنا قوامة أخلاق ومعاشرة بالمعروف، وضمان لاستقرار الأسرة حتى لا تتعرض للتشرد قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوّٰمُوْنَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء:34).

       – تصرفات الزوج  في مجال الأسرة لا ينبغي أن تعود عليها بالإهمال والضياع والظلم، وهذا يستدعي أن لا يزري الإنسان بحق الزوجة أو يسقطه مهما كانت الأسباب، ومن ذلك أداء الصداق للزوجة قال تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَآءَ صَدُقٰتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ (النساء:4)،  وقال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدٰهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضٰى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء:20-21).

       – تحقيق مقصد العدل في تسيير نظام الأسرة؛ لأن الأسرة بدون قانون العدل فهي معرضة لمفاسد لا يحمد عقباها، ومن ذلك أن يعدل الإنسان بين أبنائه في العطاء والمعاملة والعطف والرعاية، قال تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ﴾ (النساء:11). لأن الأسرة ناظرة في تصرفات الراعي، فإن رأوا فيها العدل اطمأن الجميع، وإن رأوا فيها بعدا عن العدل أحدثوا حربا أسرية تفقد الأسرة دورها الإصلاحي؛ ولهذا قال تعالى على لسان إخوة يوسف: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صٰلِحِينَ﴾ (يوسف:9)، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنٰٓى أَلا تَعُولُوا﴾ (النساء:3).

       – إعداد وتدريب عناصر الأسرة على قانون العمل الصالح، وهو فقه ينبغي أن يجعل الراعي يحفز أفراد الأسرة على عمل الصالحات، واستثمارها في الحياة الأسرية، من أجل تحصيل الحياة الطيبة قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيٰوةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل:97) وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّٰلِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ (النساء:124).

       – التعامل بواقعية في بناء الأسرة، وهذا يتطلب الاستعداد لحل بعض الاختبارات الأسرية التي سيواجهها نظام الأسرة، وقد اقترح القرآن في ذلك حلها بالحوار بالتي هي أحسن قال تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيٓ إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ (المجادلة:1)، واعتماد الحكمة والصلح بكل أشكاله وصوره الفردية والجماعية  قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَآ إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا﴾ (النساء:35)، وقال تعالى: ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ (النساء:128).

خاتمة:

       نستنتج مما سبق أن الشرع قد نجح في تدبير الشأن الأسري، ووضع القواعد الربانية التي ينبغي الحرص على تفعيلها وتنزيلها في إيجاد الأسرة، حتى تسهم مؤسسة الأسرة في بناء الإنسان القرآني القادر على إدارة المسؤولية الاستخلافية الربانية المنوطة به في إصلاح الأرض وعمارتها، وتفعيل معطيات القرآن الكريم في إصلاح النفس البشرية، وإرشادها إلى عبادة الله تعالى.

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة 1439 هـ = فبراير – مارس 2018م ، العدد : 6 ، السنة : 42

Related Posts