دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-
(المتوفى 1399هـ / 1979م)
ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)
عقبات في سبيل إنشاء دارالعلوم وقضاء الله تعالى وقدره:
قد يطرح هذا السؤال نفسه هنا وهو أن فكرة إنشاء دارالعلوم العظيمة في قرية غامرة مثل ديوبند تبدو مثيرة للحيرة للغاية، وارتفاعها إلى الحالة الحاضرة أكثر منه حيرة وعجبا، والظاهر أن إنشاء مؤسسة عظيمة مثل دارالعلوم كان المفروض أن لايختار لها إلا بلدة معروفة شهيرة، أضف إلى ذلك أن نشأة دارالعلوم تلاها مباشرةً إنشاءُ جامعة مظاهر علوم في سهارن فور، وجامعة قاسم العلوم في مرادآباد، والمدرسة الإسلامية في «ميروت»، وهذه المدن الثلاث تحمل مرجعية وأهمية أكثرمن ديوبند، علاوة على ذلك كان من الصعوبة بمكان توفير أسباب التعليم ووسائله في بلدة صغيرة غير معروفة مثل ديوبند، فليست – ديوبند – مركزا تجاريا غير عادي، ولايسكنها الرؤساء والأثرياء، مما يعين على تحقيق هذا العمل العملاق. والقطار- وهو أعظم وسائل التنقل- لم يكن شُقَّ طريقه إلى ديوبند(1).
أضف إلى ذلك أننا حين ننظر إلى أن اللغة الفارسية والعلوم القديمة السائدة حين ذلك في البلاد والتي كانت تلعب أكبر دور في التوظيف وتحصيل المنافع الدنيوية وتكريمها، حين أنشئت دارالعلوم حلت محلها اللغةُ الإنجليزية بصفتها لغةً رسميةً في البلاد، فالتوجه إلى تحصيل العلوم القديمة بدلا من اللغة الإنجليزية كان سببا لحرمان المرء نفسه المصالح الدنيوية وتكريمها، فأصبح أعظم الدواعي إلى تلقي العلم هو اللغة الإنجليزية بدلا من العلوم القديمة. فساورت كثيرًا من الناس -حين نشأة دارالعلوم- مخاوف من عدم توفر طلاب العلوم القديمة؟ وهذه معاناة في جانب، وفي جانب آخر حين فتح المسلمون مؤسساتهم التعليمية نظرت إليها الحكومة نظرةً ملؤها الشك والريب، وكان الإنجليزيرون المدارس العربية وخاصة دارالعلوم مركزا للمؤامرة وإعداد القبائل الحرة ضد الحكومة البريطانية من وراء ستار تعليم القادمين من مناطق «سرحد». فكانت التحقيقات جارية بشكل مستمر خفيةً وعلنًا في أول الأمر- وسبق أن قرأتم في الباب الثاني تقرير أحد المعتمدين لحاكم المناطق المتحدة- وكانوا يصفون العلماء في عموم الأحوال بأن بهم جِنَّةً دينية. وتعتبرهم الحكومة بركانا خطيرا في حقها.
فتوجهُ المسلمين إلى تعليمهم الديني كان من شأنه أن يحرمهم المصالحَ الدنيوية في جانب، وفي جانب آخر كان يثير الشك والريب في مكانتهم السياسية. فظل الأثرياء- الذين كانوا يسارعون في النشاطات التعليمية – معتزلين عن مد يد العون إلى دارالعلوم بحكم قربهم من الحكومة. وبعد ثورة عام 1857م لم يقلَّ عدد الذين اشتغلوا في نسج التهمة والبهتان ضد خصومهم للتشفي منهم وكسب المنافع لصالحهم وإرضاءً لساداتهم الجدد. وظل المسلمون يتعرضون للمشكلات والمتاعب في كل يوم على أيديهم. وحين نقرأ تقارير خدمات عظماء ومشايخ دار العلوم فيها تحتار العقول بالنظر إلى القدرات و الكفاءات التي كان يحملها أسلافنا في الوقت الذي سُدَّت فيه وجوه قبولهم؛ فإنهم قاوموا-كل المقاومة – ذلك الجو المعادي بكل إخلاص، واستمروا في خدماتهم.
ومهما كانت نظرة فلسفة التاريخ تجاه ذلك إلا أن أصحاب البصائر لايخفى عليهم أن الأسباب المؤدية إلى شيء من الأشياء لاتنحصر في المادية؛ بل ثمة أسباب من نوع آخر، وهذا ما كانت عليه دارالعلوم؛ فقدتعرضت في حياتها كثيرًا لكثيرٍ من المشكلات والمتاعب، إلا أن مشيئة الله تعالى تداركتها في حينها بشكل مستمر، وظلت ماضية قدما في سبيل الرقي والتطور.
ولايسع أحدًا ينظر بعين العدل والإنصاف أن ينكر النتائج الفاضلة التي تمخضت عن المساعي المتواصلة لدار العلوم طوال أكثر من قرن من الزمان لصالح رفع راية الإسلام وتحقيق الحياة الناجحة للأمة الإسلامية. ولازالت قوافل دارالعلوم ماضية قدما بالجهد الدؤوب والمساعي المخلصة يوما فيوما و الحمد لله على ذلك. ولاتزال الأوساط العلمية والدوائر الدينية تشهد توسعًا وامتدادًا مع مرور الأيام. و تنتشر الكتابات الدينية، وتزداد مع الأيام مساعي الدعوة وتبليغ رسالة الدين إلى المسلمين، وتعريفهم بالقيم والمثل الدينية، فإن ما قام به رئيس دارالعلوم من الجولات في الدول الأوربية والإفريقية يعدّ إضافة باب هام فريد من نوعه إلى تاريخ دارالعلوم.
ولايعدّ من العبث هنا أن نحيطكم علما بأن المناطق والدول التي شهدت نشأة المدارس الدينية على منهاج دارالعلوم وهي ناشطة في مجالها الصحيح؛ فإن مكانة الإسلام وخصائص المسلمين الدينية ظلت مصونة لحد كبير.
دعوة دارالعلوم العالمية وحركتها التعليمية:
دارالعلوم من أعظم المراكز والمؤسسات الدينية لمسلمي آسيا،تقوم بخدمة إحياء العلوم الدينية والرقي بها من التفسير والحديث والفقه والكلام وتهذيب الأخلاق ونحوها خدمة عظيمة.
وفي أعقاب زوال سلطة المغول في الهند حين قضى الإنجليز على دور العلوم والفنون الإسلامية لتحقيق مصالحهم السياسية قضاء نهائيا، كانت الحاجة ماسة إلى إنشاء مؤسسة تعليمية على أسس متينة، تهدف إلى الإبقاء على العلوم والفنون والحضارة الإسلامية؛ بل الحفاظ على هوية المسلمين في هذه البلاد. وذلك لصيانة المسلمين من الفتنة الهائلة المتمثلة في الإلحاد والزندقة، وكانت مسؤولية الحفاظ على المسلمين كلها على عواتق العلماء، وتشهد أرض الهند بأن العلماء لم يقصروا في القيام بواجبهم في حينه على الإطلاق.
ونحمد الله تعالى القدير على أن دارالعلوم حققت هذه الآمال والطموحات على أتم الوجوه، و خلال مدة قصيرة بلغ صيت دارالعلوم ذروته، وسرعان ما تحولت إلى مؤسسة تعليمية عالمية لا للهند فحسب؛ بل لأفغانستان وآسيا الوسطى، وإندونيسيا، وماليزيا، وبورما، وتبت، وسيلون، وإفريقية الشرقية والجنوبية، ويقصدها كل عام ألف وخمس مئة طالب من داخل الهند وخارجها.
وليست دارالعلوم مؤسسة تعليمية فحسب، وإنما هي في الواقع حركة، ومذهب فكري مستقل، و بحر لا ساحل له، يستقي منها عطاشى العلوم الدينية في آسيا كلها وإفريقية الشمالية والجنوبية علاوة على الهند وباكستان وبنغلاديش.
والمدارس الدينية المنتشرة حول شبه القارة الهندية اليوم قد استفاد أساتذتها جُلُّهم من دارالعلوم مباشرةً أو غير مباشرة. ويقوم مئات من خريجيها كل عام بواجب نشر الدين عن طريق التدريس والتعليم والوعظ والتبليغ والتأليف، وامتدت نفحاته اليوم إلى أوربا وإنكلترا وأمريكا أيضا.
وقامت دارالعلوم/ديوبند بمأثرة عظيمة في الرقي بمسلمي شبه القارة الهندية إلى مكانة خاصة ممتازة في حياتهم الدينية، فليست دارالعلوم مؤسسة تعليمية عالمية فقط؛ بل مركز للتنمية الذهنية والارتقاء الحضاري والطموحات الدينية، وظل المسلمون يثقون ويفخرون بعلمه الصحيح وموقفه العظيم، كما أن العرب صانوا علوم اليونان من الضياع حينا من الدهر، مثله تماما قامت دارالعلوم /ديوبند في هذا العصر بخدمة العلوم الدينية وبصفة خاصة علم الحديث خدمات غالية تستحق أن تسجل في تاريخ الإسلام العلمي مأثرة ذهبية.
لم توفر دارالعلوم في الهند الأسباب العظيمة للحفاظ على العلوم الدينية والمثل الإسلامية فحسب؛ بل تركت بصمات مؤثرة بعيدة المدى على حياتنا الاجتماعية والسياسية في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل القرن الرابع عشر الهجري، وفي أحداث ثورة عام 1857م ساد المسلمين جوٌ قاتم من اليأس والقنوط بعد أن فشلوا فيها، و خيم الصمت الرهيب المخيف على جو المسلمين العلمي والحضاري حينذاك، ولولا أن دارالعلوم نشأت وعادت مشعلا منيرا في سبيلهم لعجزنا عن تخمين تاريخ المسلمين اليوم في الهند كيف يكون؟
والحاصل أن ما تقوم به دارالعلوم/ديوبند من الخدمات العظيمة في تعليم الدين والتبليغ والوعظ، و إصلاح العقائد، والحفاظ على الدين لا يخفى ذلك على أحد اليوم. ويشتغل اليوم كثير من خريجي دارالعلوم في كثير من البلدان في إرشاد مسلميها إلى الدين وخدمتهم عن طريق التدريس والإصلاح والدعوة. ويقول الشيخ أبو الحسن علي الندوي: «إن صلة خريجي دارالعلوم بالشعب لايحظى بها جماعة دينية أخرى، فالمدارس العربية منشورة شبكتها في طول الهند وعرضها، ويشغل علماء هذه المؤسسة التعليمية وخريجوها مناصب التدريس بها،وينالون من ثقة عامة المسلمين الشيء الكثير، ولهم تأثير ونفوذ في المساجد والأحياء»(2).
فيحق لمسلمي شبه القارة الهندية أن يفتخروا بدارالعلوم ما شاؤوا.
وفي أعقاب إجراء النظام التعليم البريطاني في الهند، حين ظهرت ثقافة جديدة وبدأ عهد جديد، استشعر مشايخ دارالعلوم حاجة المسلمين الدينية وأهميتها في أوانها، فشنوا حركة التعليم الديني وإنشاء المدارس الإسلامية القائمة على مساعدات الشعب وعامة المسلمين، وكتب الله تعالى القبول لحركتهم هذه في الأوساط الإسلامية، فنشأت المدارس الدينية في مختلف الأصقاع في شبه القارة الهندية، وانتشرت شبكتها في شبه القارة الهندية، ولاتزال تشهد ارتفاعا وامتدادا مع مرور الأيام.
ومنذ أول عهد دارالعلوم تكونت الفكرة القائلة بأن خريجي دارالعلوم يتيسر لهم بعد تخرجهم فيها أسباب العيش بكل عز ووقار. فجاء في تقارير عام 1298هـ: «لايُظَنَّ أن طلاب دارالعلوم تعترضهم– بعد التخرج منها- صعاب اقتصاديةٌ، كما ظن ذلك بعض الناس حين أنشئت دارالعلوم؛ بل رفع الله تعالى خريجي هذه الدار عزًا ومنزلةً، وخريجو هذه الدار ينظر إليهم الناس عامتهم وخاصتهم نظرة ملؤها التقدير والاحترام، وهم في وضع اقتصادي أحسن، ويتقاضون راتبًا يقدر خمس عشرة إلى خمسة وسبعين روبية كل شهر(3).
والخدمات الغالية التي قدمها خريجو دارالعلوم في مجال التعليم والدعوة والتبليغ وتزكية الأخلاق، والتأليف والإفتاء والمناظرة والصحافة والخطابة والتذكير والحكمة والطب ونحوها لاتنحصر في منطقة بعينها؛ بل تنتشر في الدول الأخرى علاوة على كل ولاية من ولايات الهند وباكستان، ولو ذهبنا نستعرض الخدمات التي قامت بها دارالعلوم في شبه القارة الهندية عبر مئة وأربع عشرة سنة اعتبارًا من عام 1283هـ إلى عام 1396هـ لأدركنا أنها – دارالعلوم- وصلت بخريجيها الأكفاء في كل جزء من أجزاء هذه الدول، ممن تلالؤوا شموسًا وأقمارًا في تلك الأصقاع، وأخرجوا خلق الله تعالى من ظلمة الجهل وأغنوهم بنور العلم، وفيما يلي قائمة خريجي دارالعلوم المنتمين إلى الهند وباكستان وبنغلاديش كل حسب ولايته ودولته، خلال مئة عام من عمرها اعتبارًا من عام1283هـ إلى عام 1382هـ، ولاتشمل هذه القائمة الطلاب الذين استفادوا من دارالعلوم، ولم يصلوا إلى مرحلة الفضيلة:
الهنـــــد
ر.س | اسم الولاية | عدد الخريجين |
1 | أترابراديش | 1896 |
2 | بنغال الغربية | 151 |
3 | آسام ومني فور | 265 |
4 | بهار وأريسه | 780 |
5 | مدراس | 30 |
6 | تراونكور | 4 |
7 | كيرالا | 42 |
8 | آندهرابراديش | 52 |
9 | ميسور | 6 |
10 | مادهيا براديش | 28 |
11 | بنجاب الشرقية | 196 |
12 | دهلي | 12 |
13 | مهاراشترا | 39 |
14 | غجرات | 138 |
15 | راجستهان | 43 |
16 | جامون وكشمير | 110 |
المجموع ………………… | 3792 | |
مجموع عدد الخريجين الهنود منذ عام 1283هـ إلى عام1396هـ | 3611 | |
المجموع العام | 7403 |
عدد خريجي دارالعلوم هذا يختص بالهند فقط، وأما الطلاب المنتمون إلى غيرها من البلاد والذين استفادوا من دارالعلوم وتخرجوا منها فيتجلى بالنظر إلى خارطتها أن دارالعلوم لم تقصر نفحاتِها العلمية على شبه القارة الهندية؛ بل حظي بأنوارها الدول الإسلامية في كل من آسيا وإفريقية، وفيما يلي قائمة بهؤلاء الخريجين الوافدين خلال مئة وأربع عشرة سنة اعتبارًا من عام 1283م حتى عام 1396م:
ر.س | اسم الولاية | عدد الخريجين |
1 | أفغانستان | 109 |
2 | إندونيسيا | 1 |
3 | إيران | 11 |
4 | بورما | 160 |
5 | تهائيليند | 2 |
6 | جنوب إفريقية | 199 |
7 | الصين | 44 |
8 | روسيا بما فيها سائبيريا | 70 |
9 | المملكة العربية السعودية | 2 |
10 | سيام | 1 |
11 | سيلون | 7 |
12 | العراق | 2 |
13 | فرنسا | 1 |
14 | كمبوديا | 1 |
15 | الكويت | 2 |
16 | ماليزيا | 445 |
17 | نيبال | 58 |
18 | اليمن | 1 |
المجموع ………………… | 1116 |
العدد الإجمالي لخريجي دارالعلوم من الهند وخارجها:
ر.س | اسم الولاية | عدد الخريجين |
1 | الهند | 7403 |
2 | باكستان | 1523 |
3 | بنغلا ديش | 1672 |
4 | دول أخرى | 1116 |
المجموع ………………… | 11714 | |
الطلاب الذين استفادوا من دارالعلوم ولم يحصلوا على شهادة التخرج يقدر عددهم(4) | 58310 | |
المجموع ………………… | 70024 |
ولو اعتبرنا الخريجين في آلاف المدارس التي أنشأها خريجو دارالعلوم، من خريجي دارالعلوم بواسطتها، وهم حقا من خريجي دارالعلوم/ديوبند؛ فإن عدد خريجي دارالعلوم والمستفيدين منها يبلغ مئات الآلاف، الذين وصلت على أيديهم نفحات دارالعلوم العلمية والدينية إلى الملايين من الناس.
* * *
الهوامش:
(1) وأما السكة الحديدية التي تمر بديوبند والتي يطلق عليها السكة الحديدية لمنطقة الشمال حاليا كان يطلق عليها السكة الحديدية لمنطقة الغرب سابقا، تَمَّ شقها في أعقاب نشأة دارالعلوم؛ حيث تم إنشاؤها في ديسمبر عام 1868م، وتم تدشينها في يناير عام 1869م (تاريخ سهارن فور ص 28).
(2) عصر جديد كا جيلنج (تحديات العصر الراهن) للشيخ أبي الحسن علي الندوي، ص 36.
(3) تقارير حفلة توزيع الجوائز عام 1298هـ،ص 15.
(4) هذه التقديرات ترجع إلى عام 1382هـ، وتم توفير الإحصائيات لثلاثة عشرعاما لاحقا.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1439 هـ = يناير – فبراير 2018م ، العدد : 5 ، السنة : 42
(*) أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.