دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
من طبائع الفتن أنها متى ما وقعت فإنها سَرعان ما تتطور، وتخرج عن حدود السيطرة، حتى إنها لتستعصي على من أشعلوها إن حاولوا إطفاءها.
قال بعض أشياخ الشام: «مَن أعطى مِن نفسه أسبابَ الفتنةِ أولًا، لم ينجُ آخِرًا، ولو كان جاهدًا».
وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى-: «والفتنة إذا وقعت عجز العقلاءُ فيها عن دفع السفهاء … وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال:25]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله(1).
نور الفطنة يبدد ظلمات الفتنة:
ويتفاوت الناس في مدى استبصارهم بحقيقة الفتنة، واستجلاء عواقبها، تَبَعًا لما أوتوه من التقوى، والفقه.
«فالقلب كالعين في إبصارها، فتجد عينًا لا تبصر البعيد، وأخرى لا تبصر بمجرد وجود ضباب طفيف، أو غبار خفيف، فضلًا عن أن تكون في ظلام، فإبصار القلب تابع لقوة الفقه، ونور الإيمان، ومقدارهما»(2).
وقد شَبَّه النبي –صلى الله عليه وسلم- الفتنة بقطع الليل المظلم، أي: الذي لا قمر فيه ولا ضياء، فالساري فيه على شفا هلكة إن لم يكن معه نور يبصر به مواقع قدمه، وهو في حال الفتن نور العلم الذي يكشف أهلَها، ويبين حالها.
قال حذيفة – رضي الله عنه -: «لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل».
وقد سمَّى الله تعالى كتابه العزيز نورًا؛ فقال -عز من قائل-: ﴿يٰٓأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء:174]، وقال سبحانه: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [التغابن:8]، وقال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولـٰٓىٕكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف:157].
وسماه «بصائر» فقال -عزَّ وجلَّ-: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ [الأنعام: 104]، وقال سبحانه: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية:20].
وقد صحَّ عن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلتُ لأُبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان: أبا المنذر ما المخرج؟ قال: «كتابُ الله، ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكِلْه إلى عالمه»(3).
وقال أبو مسعود لحذيفة -رضي الله عنه-: «إن الفتنة وقعت، فحدثني ما سمعته» قال: «أَوَلم يأتكم اليقين؟ كتابُ الله عزَّ وجلَّ»(4).
العلماء سفينة نوح:
قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:7] وقال -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:83].
قال العلَّامة السعدي – رضي الله عنه -: «وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُولَّى مَن هو أهلٌ لذلك، ويُجعلَ إلى أهله، ولا يُتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ»(5).
إن ذهاب العلم مقترن برواج الفتن، وإن الالتحام بالعلماء عصمة للأمة من الضلال، والعلماء سفينة نوح، من تخلَّف عنها -لا سيما في زمان الفتن- كان من المغرقين.
عن ابن مسعود وأبي موسى – رضي الله عنهما – قالا: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهَرْجُ؛ والهرج القتل»(6).
وعن أنسِ – رضي الله عنه- قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «من أشراط الساعة أن يقل العلمُ، ويظهرَ الجهل»(7).
وسبب قلة العلم موت حَمَلَتِهِ، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمرٍو – رضي الله عنهما – قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لا يقبض العلمَ انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالـمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضَلُّوا، وأضَلُّوا»(8).
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: «أتدرون ما ذَهاب العلم؟» قلنا: لا، قال: «ذهاب العلماء»(9).
وعنه – رضي الله عنه – قال: «لا يزال عالم يموت، وأثر للحق يَدْرُس، حتى يكثر أهل الجهل، وقد ذهب أهلُ العلم، فيعملون بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل»(10).
وعن هلال بن خباب قال: سالت سعيد بن جبير، قلت: يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟ قال: «إذا هلك علماؤهم»(11).
وعن زياد بن لبيد – رضي الله عنه – قال: ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- شيئًا، فقال: «ذاك أوانُ ذَهاب العلم»، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونُقرئه أبناءنا، وُيقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أَوَليس اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟»(12).
وعن أبي أمامة – رضي الله عنه – مرفوعًا: «خذوا العلم قبل أن يذهب»، قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله، وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب -لا يُغضبه الله-. ثم قال: «ثكلتكم أمهاتكم، أَوَلم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئًا؟! إن ذَهاب العلم: أنْ يذهب حَمَلَتُه»(13).
الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء(14):
قال الإِمام أبو بكر الآجري -رحمه الله تعالى-: «فما ظنكم -رحمكم الله- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيها ضياء وإلا تحيَّروا، فقيَّض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس، لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح، فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟
هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداءُ الفرائض، ولا كيف اجتنابُ المحارم، ولا كيف يُعْبد الله في جميع ما يَعبده به خلقُه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحيَّر الناس، ودَرَس العلم بموتهم، وظهر الجهل»(15).
إن مهمة المبصرين هي التبصير، ولا سيما في أوقات الفتن؛ حيث يكون العلماء الفاقهون وحدهم هم المستشرفين لنتائجها في لحظات إقبالها على حَدّ قول الحماسي:
تَبَيَّن أعقابُ الأمور إذا مضت
وتُقبل أَشْبَاهًا عَلَيكَ صُدُوْرُها
وقول الآخر:
لَو أَنَّ صُدُوْرَ الأَمْرِ يَبْدُوْنَ لِلْفَتَى
كَأَعْقَـابِـــهِ لَـمْ تُلْفِــهِ يَتَنَــدَّمُ
وقول الآخر يمدح ذا البصيرة النافذة:
بَصِيرٌ بأعقَابِ الأمُوْرِ بِرَأيِهِ
كَأَنَّ لَه في اليَوْمِ عَيْنًا عَلَى غَدِ
ولهذا قال الحسن البصريّ -رحمه الله تعالى-:
«الفتنة إذا أقبلت عرفها(16) كل عالم(17)، وإذا أدبرت عرفها(18) كل جاهل».
قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف:108].
فأهل العلم هم أهل البصيرة الذين نوَّر الله قلوبهم فميزوا الحق من الباطل:
عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: حدَّثنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حديثًا طويلًا عن الدجال، فكان فيما يحدثنا أنه قال:
يأتي الدجال – وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة- فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو خير الناس، أو من خيار الناس، فيقول: «أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حديثه»، فيقول الدجال: «أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟»، فيقولون: لا، فيقتله، ثم يحييه(3).
فيقول: «والله ما كنت فيك أشدَّ بصيرةً مني اليوم»، فيريد الدجال أن يقتله، فلا يُسلَّط عليه(19).
إن الالتحام بالعلماء والصدور عن توجيههم من أهم سبل الوقاية من الفتن، والعصمة من الزيغ والضلال.
فقد أعزَّ الله دينه بالصِّدِّيق الأكبر – رضي الله عنه – يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة.
و بابن تيمية يوم الغزو التتاري الوحشي حين حرَّض الأمراءَ والعامةَ على التصدي للتتار، وارتاب الناس في حكم قتالهم، حتى قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: «لو رأيتموني في صف التتر مواليًا لهم، وعلى رأسي مصحف ، فاقتلوني»، فتشجع الناس في قتال التتر، وقويت قلوبهم.
* * *
الهوامش:
(1) «منهاج السُّنَّة النبوية» (4/ 343).
(2) «العوائق» ص (29).
(3) «التاريخ الأوسط» للبخاري (1/ 64).
(4) «حلية الأولياء» (1/ 274).
(5) «تفسير السعدي» ص (190).
(6) رواه البخاريّ (13/ 13 – فتح).
(7) رواه البخاريّ (1/ 178 – فتح).
(8) رواه البخاريّ رقم (100) (1/ 174، 175)، ومسلم رقم (2673).
(9) رواه الدارمي (1/ 78).
(10) «جامع بيان العلم» (1/ 603) رقم (1039).
(11) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/ 40).
(12) «صحيح ابن ماجه» رقم (3272) (2/ 377).
(13) رواه الدارمي (1/ 77، 78)، والطبراني في «الكبير» (8/ 276) رقم (7906).
(14) من كلام الحسن البصريّ -رحمه الله تعالى-.
(15) «أخلاق العلماء» ص (96).
(16) بأن يشاهدها بنور بصيرته.
(17) فإن كان علمه كاملًا أبصرها قبل مجيئها ورأى نتائجها، وكأنه يهتك حُجُبَ الغيب، ويتأخر وقت إدراكه لضررها كلما كان علمه أقل.
(18) إذا انتهت، فلا فضل للجاهل في رؤية تشتت دعاتها وإفلاسهم، فإنها تكون مشاهدةَ عينٍ وبصرٍ، لا إدراك عقل وبصيرة؛ ولذلك يتمكن منها من لا عقل له أيضًا.
(19) رواه البخاريّ (13/ 101)، واللفظ له، ومسلم (4/ 2256) رقم (2938)، وانظره
أيضًا: (4/ 2256) رقم (2938).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1439 هـ = يناير – فبراير 2018م ، العدد : 5 ، السنة : 42