الفكر الإسلامي

بقلم: العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله

(1305-1369هـ/1887-1949م)

تعريب: أبو عائض القاسمي المباركفوري

       وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥)

فائدة:

       أي من بني البشر الذين يمتازون عن سائر الخلق بالشعور والعقل، من يتخذ من دون الله شركاء وأندادًا رغم هذه الدلائل الظاهرة السابقة.

فائدة:

       أي لايعدلونهم بالله تعالى في الأقوال والأفعال الفرعية فحسب؛ بل يعدلونهم ويشركونهم به في المحبة القلبية التي تصدر منها الأفعال، وذلك أعظم درجات الشرك وأما الشرك في الأعمال فتبع له.

فائدة:

       أي أن يحبّ المؤمنون الله تعالى حبًّا أكثر وأشد مما يحبه المشركون آلهتهم؛ فإن المصائب قد تنفي حب المشركين آلهتهم، وأما في الآخرة حين يرون العذاب فإنهم يتبرؤون من آلهتهم كل التبرئ، كما سيأتي في الآية اللاحقة. وأما حب أهل الإيمان لربهم وإلههم فمستمر ومتأصل في نفوسهم في الضراء والسراء والمرض والصحة والدنيا والآخرة، وكذلك حب المؤمنين إلههم أعظم وأكبر من حبهم لغير الله تعالى من الأنبياء والأولياء والملائكة والعباد والعلماء أو حبهم لآبائهم وذرياتهم وأموالهم، ونحو ذلك، فإنهم يحبون الله تعالى حبا يليق بشأنه بالأصالة والاستقلال، ويحبون غيره تعالى بالتبع ووفق أمره سبحانه كلاً حسب قدرته ومنزلته، ونِعْمَ ما قاله الشاعر الفارسي مامعناه:

إن لم تحفظ ما بين المراتب

من الفروق فأنت زنديق

فائدة:

       أي لو يرى الظلمة الذين اتخذوا من دون الله شركاء- حين يشاهدون عذاب الله تعالى، وأن الله القوة لله جميعا، ولايغني عنهم شيئا من عذاب الله، وأن عذاب الله شديد- لم يصدوا عن عبادة الله تعالى إلى غيره سبحانه، ولم يرجوا نفعا مما سواه تعالى.

       إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ (١٦٦)

فائدة:

       أي يتجافي بعضهم يومئذ عن بعض، ويتخلى المتبوعون عن تابعيهم. وتتلاشى العلاقة والصلة بين الأصنام و عبدتها، ويكون بعضهم أعداء لبعض؛ لأنهم يرون عذاب الله تعالى بأم أعينهم.

       وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)

فائدة:

       أي يقول المشركون حينئذ: ليت لنا من سبيل إلى العودة إلى الدنيا؟ فننتقم من هؤلاء، وكما تفرقوا عنا اليوم، نرد عليهم بمثله ونتفرق عنهم، ولكن هذه الأمنية المستحيل تحققها لن تجلب عليهم إلا الأسف والندم.

فائدة:

       أي كما أن المشركين يصيبهم الحسرات الشديدة على ما يرون من عذاب الله تعالى، وتخلي آلهتهم منهم، كذلك يجعل الله كافة أعمالهم حسرات عليهم؛ فإن الحج والعمرة والصدقات وغيرهما من القربات التي أتوها، ترد على وجوههم بسبب كفرهم. ويحزنون على شركهم وكفرهم بما يلقون من العذاب، فكانت حسناتهم وسيئاتهم كلها حسرات عليهم، وأما أهل التوحيد والإيمان فإنهم ينجون من النار في آخر أمرهم، وإن دخلوا النار بماكسبوا من السيئات.

       يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)

فائدة:

       أي كانت العرب تعبد الأصنام، وكانوا يسيبون الفحول من الحيوانات باسم آلهتهم، ويحرمون الانتفاع بها، وهو نوع من الشرك؛ فإن التحليل والتحريم أمرهما إلى الله تعالى وحده، والخضوع لأمر غيره سبحانه وتعالى في هذا الباب يعتبر إشراكا به سبحانه، فالآيات الأولى نبهت على فساد الشرك، ويتلوه النهي عن تحريم الحلال، وحاصل المعنى: كلوا مما تخرجه الأرض إذا كان طيبًا وحلالا شرعًا، ولايكون حرامًا لعينه مثل الميتة والخنزير، وما أهل به لغير الله تعالى. وقصد به التبرك إليه – أي غيره سبحانه وتعالى -، أو ما طرأ عليه الحرمة لسبب عارض، مثل مال الغصب و السرقة والرشوة؛ فإنه يجب الحذر من ذلك كله، ولاتتبعوا خطوات الشيطان، بأن تحرموا ما شئتم، مثل الفحول التي سيبت لأجل آلهتهم، أو تُحِلُّوا ما شئتم، مثل ما أهل به لغيره سبحانه وتعالى.

       إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)

فائدة:

       أي تَفْتَرُوا الأحكام الشرعية من قبل أهوائكم، وكما هو المشاهد في كثير من الأحيان  أن الناس يتجاوزون الفروع والجزئيات إلى الأمور الاعتقادية في وضع ما يرضيهم من الأحكام، ضاربين بالنصوص الشرعية عرض الحائط، و بتحريف النصوص القطعية، وتغليط أقوال السلف وتسفيه آرائهم.

       وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)

فائدة:

       أي يوثرون اتباع آبائهم على امتثال أوامر الله تعالى، وهومن الشرك. ويتفوه بمثل ذلك بعض الجهلة من المسلمين في التقصير في زواج الأيامى، ونحو ذلك من التقاليد الباطلة، ومنهم من يستوحى من أعمالهم وسلوكهم ذلك، وإن لم يتفوهوا به. وذلك ما يعارض الإسلام ويخالفه.

       وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)

فائدة:

       أي دعاء هؤلاء الكفرة إلى الهدى، يشبه دعاء حيوانات الغابة؛ فإنها لاتدرك منه إلا الصوت، وكذلك هؤلاء الذين لايعلمون شيئا ولايأخذون بأقوال أهل العلم.

فائدة:

       أي هؤلاء الكفار كأنهم صم لايسمعون الحق أصلا، وبكم لايقولون الحق، وعمي لايبصرون الصراط المستقيم. فلايفهون شيئا؛ لأن قواهم الثلاث المذكورة قد أصابها الفساد والعفونة والاختلال، فأنى يدركون ويفهمون.

       يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)

فائدة:

       سبق الأمر بأكل الطيبات، وبما أن المشركين لاينفكون عن اتباع الشيطان وافتراء الأحكام على الله تعالى، ولايتخلون عما كان عليه آباؤهم من التقاليد الباطلة، فلا يعرفون الحق، فأعرض عنهم وخص المسلمين بالأمر بأكل الطيبات، وبيِّن نعمه عليهم، وأْمُرُهم بالشكر عليها، فكان إشارةً إلى قبولهم عند الله تعالى وأنهم مطيعون له، كما أنه يتضمن اللعن على المشركين، والغضب عليهم وعصيانهم أمر الله تعالى.

       إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)

فائدة:

       الميتة: ما مات حتف أنفه، ولم يتأت ذبحه، أو ذبح على غير الوجه الشرعي، أو صِيد على غير الوجه الشرعي، مثل الحيوان الذي خُنقَ أو أبين منه جزء وهو حي، أو قتل بالخشب أو الحجر أو الغلة، أو البندقية، أوكان متردية أو نطيحة أو افترسه سبع من السباع، أو ترك التسمية عليه عمدًا، فهذه كلها ميتة وحرام، واستثنى الحديث النبوي من الحرمة ميتتين، فهما حلال، وهما: السمك والجراد.

فائدة:

       المراد من الدم: ما يسيل من العروق، ويخرج عند الذبح، أما الدم الذي يعلق باللحم فهوحلال وطاهر، ويحل أكل اللحم وإن طبخ من غير غسله، وإن كان ينافي متطلبات النظافة، ويحل الكبد والطحال وهما دمان جامدان – لما جاء في الحديث النبوي.

فائدة:

       يحرم الخنزير حيا وميتا وإن ذبح على الوجه الشرعي، وكافة أجزائه من لحم وجلد وشحم وظفر وشعر وعظم وعصب نجسة، ويحرم الانتفاع بها واستعمالها. واقتصر على بيان حكم الأكل؛ لأن سياق الآية بيان المأكولات. وأجمعوا على أن الخنزير – وهو أكثر الحيوانات وقاحة وحرصا على النجاسات ورغبة فيها؛ ولذا وصفه الله تعالى بقوله: رجس- نجس العين من غير شك. وليس شيء من أجزائه بطاهر. ولايحل الانتفاع به بصورة أو أخرى. وهذه الصفات جلية بادية فيمن يكثر من أكله والانتفاع بأجزائه.

فائدة:

       قوله: مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِاللهِ: معناه أن يهل بالحيوانات لغيرالله تعالى، أي ذبحها على اسم صنم أو جن أو روح خبيثة أو صالح من الصلحاء أو نبي من الأنبياء، ونذرها لشيء من ذلك تقربا إليه أو ابتغاء مرضاته. ولم يقصد بإزهاق روحها إلا إرضاء هؤلاء. فهذه الذبائح كلها حرام، وإن كبَّر الله تعالى على الذبح أوسماه؛ فإنه لايجوز نذر النفوس إلا لبارئها تعالى. فالحيوان الذي نُذِرت نفسه لغير الله تعالى فاق خبثه خُبْثَ الميتـة. فإن الميتـة كانت أزهقت روحها على غير اسم الله تعالى. وأما هذه الحيوانات فقد نُذرت روحها لغير الله تعالى، وسمي عليها غير اسمه سبحانه تعالى، فكما لايحل الخنزير والكلب بالتسمية عند ذبحهما، ولاتغني التسمية عليهما شيئا، كذلك الحيوان الذي نُذِرَت نفسه لغير الله تعالى وسمي عليه غيره سبحانه لاتغني التسمية عند ذبحه ولايحل بهذه التسمية. فإن سمى شيئا من الحيوانات لغير الله تعالى، ثم تاب ورجع عنه، ثم ذبح فلا شك في حله. وقد صرح أهل العلم بأنه لو ذبح لقدوم ملك تعظيما له أو ذبح الحيوان باسم جان وقايةً من شره، أو ذبح لانطلاق المدافع، و إنضاج كورة الآجر كان ميتة وحراما، وفاعله مشرك، وإن سمى الله تعالى عند الذبح، فقد ورد قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله». أي من ذبح تقربا إلى غير الله  أو تعظيما له، فهو ملعون، سمى الله عند الذبح أو لم يسمِّ. ولابأس أن يذبح لله تعالى ويطعم منه الفقراء، ويهدي ثوابه  إلى قريب أو صالح من الصلحاء أو ذبح عن ميت يريد إهداء ثوابه إليه، إذ ليس ذلك ذبحا لغير الله تعالى، ومن الناس من يتعلل في مثل هذه الأمور – لعوج في نفوسهم- بأنهم لايتوخون من وراء النذر للأولياء إلا إعداد الطعام والتصدق به للأموات، فاعلم علم اليقين أولا بأن الحيل الكاذبة لاتجلب لصاحبها عند الله تعالى إلا ضررا على نفسه. وثانيا: نسألهم: هب أنك اشتريت لحما على قدر الحيوان الذي نذرته لغير الله تعالى ثم طبخته وأطعمته الفقراء هل يتحقق نذرك من غير ريب وشبهة في قلبك أم لا؟ فإن فعلت ذلك من غير دغدغة وشبهة ولاتجد في نذرك من فطوروخلل فأنت صادق، وإلا فأنت كاذب، وفعلك هذا شرك.والحيوان ميتة وحرام.

فائدة:

       فإن قيل: إن الآية الكريمة قَصَرت التحريم على ما ذكرمن الأشياء، ويؤخذ منه أنه لايحرم من الحيوانات إلا ما ذكر، في حين أن السباع كلها والحمار والكلب ونحوهما حرام أكله؟ قلنا: أولا: ليس الغرض من هذا الحصر حصر حكم الحرمة على هذه الأشياء حتى يكون مساغا للقيل والاعتراض، و إنما الغرض تخصيص حكم الحرمة بالصحة والصدق و إبطال الجانب المخالف لهذا الحكم، والمعنى أن الله تعالى حرم عليكم هذه الأشياء. ولايحتمل أمرا آخر أصلا، وهو الاستحلال فهو باطل وخطأ. و الجواب الثاني عنه: سلمنا أن الغرض حصر حكم الحرمة في هذه الأشياء إلا أنه حصر إضافي أي بالنسبة إلى ما حرمه المشركون من تلقاء أنفسهم، كالبحيرة والسائبة ونحوهما مما سيأتي بيانه لاحقا. والمعنى إنما حرمنا عليكم الميتة والخنزير ونحوهما، وأما تحريم الفحول من الحيوانات التي خليت سبيلها وتعظيمها فليس إلا افتراء منكم على الله تعالى. وأما السباع والخبائث من الحيوانات فلم ينازع المشركون في حرمتها. فهذا الحصر بالنسبة إلى الحيوانات التي حرمها المشركون بزعمهم من غير أن يأمرهم الله تعالى بتحريمها. ولا صلة لذلك بعامة حيوانات العالم حتى يستنى الاعتراض عليه.

فائدة:

       أي المذكور من الأشياء حرام ، وأما إذا أشرف المرء على الموت جوعا، فإنه يباح له تناولها في الحالة الاضطرارية، غير باغ ولا عادٍ مثلا: تناوله من غير أن يضطر إليه. وأما التعدي فمعناه أن يتناول أكثر من الحاجة، وملءَ بطنه؛ فإنه لايجوز له أن يتناول إلا القدر الذي يسد به رمقه ويقيه غائلة الموت.

فائدة:

       أي أن الله تعالى كثير الغفران، يغفر لعباده أنواع الذنوب، فكيف لا يغفر لمثل هذا المضطر إلى أكله، و رحيم  بعباده: حيث سمح لهم صراحة بأن يبقوا على أنفسهم بصورة أو أخرى، فرفع عنهم الحكم الأصلي – الحرمة – في حالة الاضطرار، وكان من حق الله تعالى أن يقول لهم: لاتعصوا أمري، زهقت نفوسكم أو بقيت. وقد يقال: إن المضطر الذي يشرف على الموت جوعًا يشق عليه تقدير اللقمات التي تسد رمقه من عدمه، ويستحيل أن يتناول لقمة زائدة تفوق حاجته واضطراره. فيسر الله تعالى ذلك بقوله: إن الله غفور رحيم.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الآخر 1439 هـ = ديسمبر2017م – يناير2017م ، العدد : 4 ، السنة : 42

Related Posts