كلمة العدد

       لم تكن الهجرة حدثًا مفاجئًا – كما يظن البعضُ – وإنما كانت جامعة للتأييد الإلهي والتدبير الرباني والتخطيط الإنساني والعمل البشري. إنه الحدث الذي غَيَّرَ وجهَ التاريخ، فكان مبدأ التأريخ. وكان وقوعه مُؤَكَّدًا منذ الأزل في علم الله تعالى، الذي كان قد قَرَّرَ أن يحصل ليكون نقلة جذرية واسعة المدى، بعيدة الأثر في مصير الدعوة الإسلاميّة.

       وقد علم به النبي –صلى الله عليه وسلم- منذ فجر الدعوة الإسلامية، منذ أن صافح الوحي الإلهي قلبه –صلى الله عليه وسلم- في غار حراء، فعاد إلى بيته يقول لأهله: زَمِّلُوني، لقد خَشِيتُ على نفسي، فقالت له زوجته سيدتنا خديجة – رضي الله عنها -: كَلَّا والله، لا يخزيك اللهُ أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتُكْسِب المعدومَ، وتَقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق. وتذهب – رضي الله عنها – به –صلى الله عليه وسلم- إلى ورقة بن نوفل الذي تحدث إليه عما جرى له في غار حراء، فقال له:

       «هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى، ياليتني أكون فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك».

       فقال –صلى الله عليه وسلم-: «أو مُخْرِجِيَّ هم؟!». قال ورقة: «نعم لم يأتِ رجل قطُّ بمثل ما جئتَ به إلّا عُودِيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مُؤَزَّرًا» (البخاري:3، كتاب بدء الوحي)

       فحدثُ الهجرة كان قد صار معهودًا لدى النبي –صلى الله عليه وسلم- ولدى أصحابه الذين اطلعوا بعدُ على ما حدث من نزول قطرات الوحي الأولية عن طريق جبريل عليه السلام، وبيان ورقة لطبيعة الرسالة التي كُلِّفَ النبي –صلى الله عليه وسلم- أداءها وأنه ما كُلِّفَ أحد إيّاها في الماضي إلا عودى من قومه وأخرجوه من وطنه، وأن ذلك واقع معه –صلى الله عليه وسلم- لا مَحَالَةَ، وإن بقي – ورقة – كما تمنى حيًّا يوم يخرجه قومه من الوطن، فإنه سينصره نصرًا قويًّا؛ ولكنه قد لا يكون حيًّا عندما يحدث معه ما هو حادث؛ لأنه قد طعن في السنّ.

       وعندما اشتد أذى قريش، أطلع الله تعالى نبيه على مُهَاجره عن طريق الرؤيا، ورؤيا الأنبياء تكون حقًّا، حيث أصبح النبي –صلى الله عليه وسلم- ذات يوم قائلًا لأصحابه:

       «رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» (مسلم في كتاب الرؤيا: 2272).

       وقيل الهجرة بقليل شاء الله العليم الحكيم أن يُجْرِيَ لنبيه المصطفى وحبيبه المرتضى حدث الإسراء والمعراج الذي كان حقًّا مدهشًا للعقول مهما كانت ثاقبة؛ وذلك لكي يختبر الله تعالى القلوب، ويميز بين المؤمن الصادق في إيمانه بالله ورسوله، وبين من لايكون على هذا المستوى من الإيمان الصادق؛ وليهيئ الصادقين لمواجهة الشدائد ومخاطر الهجرة وتحمّل الأذى من قوارص ألسنة المشركين الذين اتخذوا الحدث ألعوبة، ليصرفوا حديثي العهد بالإسلام عن دينهم بأن نبيهم كيف يهذي ويُطْلِق دعاوي عريضة لا تصدقها العقول؛ حيث كان الله أسرى بعبده المصطفى ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومنه إلى السماوات العلى، وأقطعه مسافة ما يمشى البعير به شهرًا أو أكثر، في ثوان ودقائق معدودات، فلم يُسِغِ المشركون هذا الحدثَ العظيمَ بمعنى الكلمة؛ ولكن المسلمين الصادقين صدّقوه –صلى الله عليه وسلم- وقالوا: إنه لم يكذب ولن يكذب، وقد آمنا به على أعجب من هذا.

       وشاءت حكمة الله أن تكون الهجرة محفوفة بالشدائد والمخاطر، حتى تكون درسًا وعبرة للدعاة المخلصين من بعده –صلى الله عليه وسلم- على مر العصور وكرّ الدهور؛ لأن أولي العزم من الرسل ظلوا هم وأتباعهم يُمْتَحَنُون ويُوَاجَهُونَ بالمعاناة الشديدة. ولو شاء الله عز وجل لجعل الهجرة حدثًا سهلًا غير محفوف بالمخاطر والشدائد كالإسراء والمعراج، ونقله –صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة في جزء من الليل دون تعب، وخلال ثوان ودقائق.

       بعد ما تمت بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية، عادت قريش تتخوّف على نفسها وعلى وثنيتها؛ حيث قد علمت بأن محمدًا –صلى الله عليه وسلم- قد بويع من قبل الأوس والخزرج من سكان «يثرب» لكنهم لم يكن بحسبانهم أنه سيأتي يوم يغادر فيه محمد –صلى الله عليه وسلم­- مكة ويلحق بأصحابه بـ«يثرب» فقد كانوا يوقنون أنه قد يأمر أصحابه بالهجرة إلى شتى الأمكنة؛ ولكنه ليس من السهل عليه –صلى الله عليه وسلم­- أن يهاجر مكة موطنه وموطن آبائه وأجداده، ورغم ذلك ظلت قريش مُتَحَسِّبَة لأمره –صلى الله عليه وسلم- ومعنية به، ولاسيّما عندما علمت بمعاهدتي العقبة اللتين تصاعد إثرهما تخوفها من شأنه –صلى الله عليه وسلم- الذي أحسّت أنه بدأ يأخذ منعطفًا خطيرًا.

       ذات يوم احتشد كفار مكة في دار الندوة – التي كانوا يجتمعون فيها للتشاور حول أي أمر ذي بال – يتشاورون في أمرمحمد –صلى الله عليه وسلم­- وطريقة القضاء عليه وعلى الدعوة التي نهض بها والتي من أجلها نشب كل نوع من االصراع بينه وبينهم. وبعد أخذ وردّ ومشاورات طويلة، قرروا أن يختاروا من كل قبيله مجموعة من الشباب الجليد الفتي النسيب شابًّا من هذه وشابًّا من تلك، فينقضّون مرة واحدة على رأسه –صلى الله عليه وسلم- فيتفرق دمه في القبائل، ولا يتعين القاتل، فلا يتاح لبني هاشم على الانتقام وأخذ الثأر، وإنما يضطرون أن يقبلوا على الأكثر الديةَ.

       وفي ذلك يقول الله تعالى:

       «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» (الأنفال:30).

       أوحى الله تعالى إلى نبيّه –صلى الله عليه وسلم- يُطْلِعُه على ما نَسَجَتْه قريش من مؤامرة ماكرة لقتله –صلى الله عليه وسلم- بعد موت عمه أبي طالب بثلاثة أعوام، واستعدّ النبي –صلى الله عليه وسلم- للهجرة فأمر عليًّا أن ينام على سريره متسجيًا ببردته اليمنية؛ فإنه كان متأكدًا أنه لن يخلص إليه من المشركين ما يكرهه ويؤذيه، وكَلَّفَه أن يردّ عنه الأمانات إلى أهلها، وخرج وقتَ القيلولة إلى أبي بكر الصديق، وكان لا يأتيه في مثل هذا الوقت فأخبره أنه عازم على الهجرة؛ لأنه أذن له بها، فقال سيدنا أبوبكر – رضي الله عنه -: «الصحبة بأبي أنت يا رسول الله». قال له –صلى الله عليه وسلم-: «نعم الصحبة» وأعد أبوبكر – رضي الله عنه – لهذا اليوم راحلتين قويتين، وساعد أهله على تجهيز المُهَاجَريْن العَظِيمَيْنِ اللَّذِين كان ليرتحل معهما من مكة إلى المدينة مصير الدعوة الإسلامية التي كانت لتنجح بنجاحهما وتخفق بإخفاقهما. وقد قَرَّرَ أن تكون رحلتهما مع دليل لهما كافر لم يَخُنْ رغم أنه كان يعلم أن المعركة بينه وبين قومه مصيرية مُغَيِّرة للأبد لوجه التأريخ، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه أن يلتقي بهما عند غار ثور بعد ثلاث ليال، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يمشي متثبتًا هادئًا لا يلتفت، بينما كان سيدنا أبوبكر – رضي الله عنه – يكثر من الالتفات متخوفًا على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أهل السوء من كفار مكة. وكانت قريش رصدت جائزة غالية وأعلنت بها لصالح من يأتيها بمحمد –صلى الله عليه وسلم- حيًّا أو ميتًا، وقد حَدَّثَتْ نفس سراقة بن مالك إيّاه أن يحظى بها، وكان فارسًا مغوارًا، وكان من المتفرسين لآثار الأقدام في الصحراء، فخرج من مكة يتتبع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأبابكر – رضي الله عنه – واقترب منهما وكاد يدركهما إذ عثرت به فرسه، وساخت يداه في الأرض، وحدث له ذلك مرارًا، وفي المرة الأخيرة ساخت يدا فرسه إلى الركبتين، وثار الغبار الكثيف وغطاه وفرسه، عندها علم سراقة أنه ليس بوسعه أن يتغلب على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأنه غالب ومنتصر لا مَحَالَةَ على قريش وأهل مكة، فدنا منه –صلى الله عليه وسلم- وقال له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأحاطه علمًا بما كان أهل مكة يدبرون من مكيدة ضده، وقدم إليهما الزاد والمتاع؛ ولكنه –صلى الله عليه وسلم- لم يقبل منه شيئًا. قال سراقة: لم يـرزآني ولم يسألاني؛ إلا أن قال: «أَخْفِ عنّا» فسألتُه أن يكتب لي كتاب أمان، فأمر عامر بن فهيرة فكتب له في رقعة من أدم – جلد – وقبل أن يمضي رسول الله –صلى الله عليه وسلم­- في طريقه وعد سراقة أنه سيلبس تاج كسرى. وقد تحقق وعده –صلى الله عليه وسلم- بذلك في عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكان ذلك لسراقة مكافأة أكبر وأغلى وأسنى بكل المقاييس من المكافأة التي كانت قد رصدتها له قريش، والتي شاء الله أن لايظفر بها تافهةً حقيرةً ضئيلةً.

       وقد حمى الله تعالى رسوله وصاحبه فلم يصبهما سوء من قبل الكفار على طول الطريق إلى يثرب، رغم جميع ما اتخذوه من تدابير ماكرة، لم يجدوا من ورائها إلّا الإخفاق والفشل الذريع. وقد حكى الله ذلك في كتابه وحيًّا يُتْلَىٰ ليوم القيامة، إذ قال:

       «إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (التوبة:40).

       وخلال مضيهما على طريق الهجرة مَرَّا على امرأة قوية الشخصية كريمة سخية تكرم من يلجأ إليها فتسقيه وتطعمه، اسمها أم معبد الخزاعية التي سَجَّلَ التأريخ اسمها بخطوط عريضة لأنها احتفت بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر رضي الله في هذه الرحلة السعيدة التي لم يعرف الكون أسعد منها.

       كان العام عام مجاعة، ولم يكن عندها شيء سوى شاة ضعيفة هزيلة ترقد في زاوية من الخيمة، فاستأذنها –صلى الله عليه وسلم- أن يحلبها، ولم تكن حلوبًا؛ ولكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم­- بدأ يمسح على ضرعها بعد أن سَمَّى الله تعالى ودعا بالبركة، فإذا باللبن ينزل بأمر الله ثجًّا، فسقاه –صلى الله عليه وسلم- الجميعَ، وشرب آخرهم، وظلت أم معبد تقضي من عجبها، وحكت ما جرى لزوجها بعد ما عاد إلى الرحل، قائلةً:

       «رأيتُ رجلًا ظاهر الوضاءة، مُتَبَلِّج الوجه، حسن الخلق، لم تُعْيِه ثُجْلَةٌ، ولن تَذُرَّ به صَعْلَقَة، وسيم قسيم، في عينه دَعَجٌ، وفي أشفاره وَطَفٌ، وفي صوته صَحَلٌ، أَحْوَرُ أَكْحَلُ، أَزَجُّ أَقْرَنُ، شديد سواد الشعر، في عنقه سَطَعٌ، وفي لحيته كَثَاثَةٌ، إذا صَمَتَ فعليه الوقار، وإذا تكلم سَمَا وعلاه البهاءُ، وكأن منطقه خَرْزَاتُ عِقْد يَتَحَدَّرْن، حلو المنطق، لا نذر ولا هذر، أجهر الناس وأجملهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب، رَبْعَةٌ لا تَشْنَؤُهُ من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يَحْفُون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود منشود، لا عابس ولا مُفَنِّد» (عيون الأثر 1/217).

       مما وصفته –صلى الله عليه وسلم- أم معبد، عرف أبو معبد أن الموصوف هو محمد –صلى الله عليه وسلم- الذي تتبعه قريش وتبحث عنه. على كل فكانت أم معبد وزوجها أبو معبد من أنصاره –صلى الله عليه وسلم- فلم يخبرا به أي من جاءهما يسألهما عنه ليتعقبه بالأذى.

       وانتهت رحلة الهجرة، وانتهت معها الأهوال والمخاوف والمعاناة التي ظلت تواكبها على طول الطريق بين مكة ويثرب، و وصل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة يستقبله أهلها بفرح وترحاب وأناشيد.

       روى البخاري عن رجل من أهل المدينة أنه قال:

       «ما رأيتُ أهل المدينة فرحوا بشيء فَرَحَهم برسول الله –صلى الله عليه وسلم-»(3925).

       وروى أبو داود عن أنس – رضي الله عنه – قال:

       «لما قدم النبي –صلى الله عليه وسلم- المدينةَ لعبت الحبشة بحرا بهم فرحًا بقدومه، وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وغمر السرور قلوب جميع المسلمين» (4923).

       وعن أنس أيضًا، قال:

       «شهدتُ يوم دخول النبي المدينة، فلم أر يومًا أحسن منه ولا أضوأ» (عيون الأثر 1/222).

       وبدأ النبي –صلى الله عليه وسلم- عمله بالمدينة المنورة ببناء المسجد، مما دلّ دلالةً صارخة مُؤَكَّدَة أنه هو وجه الإسلام وشعاره وعنوانه، لأنه ظل على عهده –صلى الله عليه وسلم- دار عبادة ومركز قيادة.

       ثم آخى النبي –صلى الله عليه وسلم­- بين شطري الأنصار: الأوس والخزرج، مما قضى على ما كان بينهما من شحناء قديمة، كما آخى بين المهاجرين والأنصار، قائلًا: «تَآخَوْا في الله أخوين أخوين»ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه– فقال: هذا أخي، فكان –صلى الله عليه وسلم- وعلي – رضي الله عنه – أخوين. وتتالت المؤاخاة فكان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة أخوين، وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين، وأبوبكر الصديق وخارجة بن زيد الخزرجي أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين، وسلمة بن عبدالله وكعب بن مالك أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب أخوين، وسعد بن زيد وأبي بن كعب أخوين، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين، وسلمان الفارسي وأبو الدرداء أخوين، حتى وصلت المؤاخاة لتغطي بين جميع المهاجر والأنصار آنذاك. (ابن كثير: البداية والنهاية، ج2، ص264، دارالغد العربي 1411هـ).

       الأخوة هذه التي أقامها النبي –صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار كانت أقوى وأعز من الأخوّة التي تكون بين أخوين من أم وأب؛ لأنها كانت نابعة من الإيمان بالله ورسوله وفي سبيل الله ومن أجل دين الله وفي سبيل الآخرة التي كانت عندهم أثمن من كل ما على ظهر الأرض، فقد آثر الأنصار إخوانهم المهاجرين على أنفسهم في كل شيء كان عندهم، أخرج الإمام أحمد عن أنس – رضي الله عنه –:

       «أن عبدالرحمن بن عوف قدم المدينة، فآخى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري – رضي الله عنه – فقال له سعد: أي أخي! أنا أكثر أهل المدينة مالًا، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها. فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلُّوني على السوق، فدَلُّوه، فذهب فاشترى وباع، فربح فجاء وعليه رَدْعُ زعفران، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مَهْيَهم؟ قال: يا رسول الله تزوجت امرأة! قال: ما أَصْدَقْتَها؟ قال: وزن نواة من ذهب. قال: أَوْلِمْ ولو بشاة. قال: عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعتُ حجرًا، لرجوتُ أن أصيب ذهبًا وفضة» (محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية، ج1، ص155، ط: دارالكتب 1934م؛ مسند الإمام أحمد: 13863).

       ثم عقد النبي –صلى الله عليه وسلم- أخوة إنسانية عامة بين المسلمين واليهود تضمنتها وثيقة المدينة التي قررت حق المواطنة للجميع، حتى يكون الجميع يدًا واحدة على من يغير عليهم من خارج المدينة، ويتعاونوا في تحقيق المصالح الشعبية العامة.

       إن حادث الهجرة يعطي دروسًا عظيمة: أولًا: إنه –صلى الله عليه وسلم- تحمل جميع أنواع العذاب في وطنه مكة، ولم يهاجرها إلى مكان آخر حتى أذن الله له بها، فهاجر إلى المدينة لتكون قاعدة إسلامية لانتشار النور في العالم كله. ثانيًا: لم يشتغل الصحابة في المدينة بجمع مال وحيازة ثروة وتحسين المعيشة والتوسع في وسائل الحياة والانسياق وراء الشهوات واللذات، وإنما تفرغوا لحماية الملة وخدمة الدين وبناء الأمة ونصرة الله ورسوله. ثالثًا: ضحى النبي –صلى الله عليه وسلم- وصحابته بالوطن الذي كانوا يحبونه جدًّا جدًّا من أجل حب الله ورسوله، وتخلوا عن المال والمتاع الذي كانوا يملكونه في وطنهم مكة. وقد كانوا يحبون وطنهم، حتى قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: وهو على مشارف مكة: «والله يا مكة! إنك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ» وتحدر الدمع من عينيه. رابعًا: إن الهجرة أظهرت معادن الأنصار الذين آووا ونصروا وضربوا أروع الأمثلة في الإيثار والتضحية والبذل والعطاء. رابعًا: إن الهجرة علمتنا أن نقوم بالتخطيط المحكم والتدبير الدقيق للخروج من الأزمات، حتى نكسب المعركة، ونحقق المصالح، ونربح ما نريد من المكاسب في مأمن من بطش العدو. خامسًا: أن نتخذ الإيثار والمحبة سلاحنا الاجتماعي والديني، لأن ذلك كان أنفع الأسباب في نجاح المهاجرين والأنصار.

(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الاثنين: 28/ذوالقعدة 1438هـ الموافق 21/أغسطس 2017م).

نور عالم خليل الأميني

nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42

Related Posts