كلمة المحرر
ما من أمة من الأمم إلا لها ماضٍ، ولها أحداث ووقائع في ماضيها تستلهم منها إيحاءات المجد والعز، وتهتدي بها في دروب حياتها أو تتوارى من سوء ما يزخر به ماضيها. والأمة الإسلامية أفضل الأمم في ذلك؛ فلها في ماضيها من الأمجاد والبطولات والأحداث والمواقف النيرة ما لم تحظَ به أمة من الأمم.
وأروع الأحداث والمواقف المضيئة في تاريخ الأمة الإسلامية يتمثل في حادثة الهجرة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأولون فرارًا بدينهم، والتماسًا للأرضية الصالحة لغرسة الإسلام. فكانت الهجرة من إملاءات هذه الظروف والأحوال في مكة المكرمة دارالاضطهاد والظلم المتواصل على أهل الإيمان إلى المدينة المنورة: دار الهجرة والنصرة. وكانت الهجرة من مكة – حينئذ – من المتطلبات الأساسية للإيمان، التي حض عليها القرآن وأنكر المتقاعسين عنها، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّهُمُ الْـمَلَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أ َلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ [النساء:97-98]. قال ابن كثير– بعد أن ساق روايات عدة في هذا الشأن-: هذه الآية الكريمة عامةٌ في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه، مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص هذه الآية.
لقد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه سنوات وسنوات على ما لقوا من الظلم والاضطهاد والأذى على أيدي كفار مكة، وبذلوا في سبيل الحق وإعلاء كلمة الله تعالى الغالي والنفيس، ولم يمنعهم عن ذلك حب آبائهم وأبنائهم وعشائرهم وأموالهم ومصالحهم الدنيوية حتى هاجروا من مكة التي شهدت مدارج صباهم وشبابهم، وتنفسوا في جوها، فأخرِجوا من ديارهم وأبنائهم وأموالهم على أن آمنوا بالله وحده، ولم يرضوا المساومة على الدين الذي ملك عليهم قلوبهم وأفئدتهم.
لقد كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أجل الحرية:حرية العقيدة، وحرية الدعوة إلى الله تعالى، وحرية نشر الخير في ربوع المدينة والمنورة، وانطلاقًا منها في ربوع العالم كله. فلم يمض إلا أعوام قليلة حتى ازدهر الإسلام ونما وانتشر وعسعس ليل الظلم والاستعباد وعبادة الأوثان، وتنفس صبح العبودية لله تعالى وحده.
إن حادثة الهجرة تُذَكِّرنا في مطلع هذا العام الهجري الجديد بالخير العميم الذي جاء به الإسلام، فاستفاد منه العالم كله، وبالهداية العليا التي قضت القضاء المبرم على الوثنية التي أخضعت البشريه كلها للمستبدين من الملوك والأمراء، وألغت امتيازات الأعراق والأجناس والألوان والأنساب، وجعلت القاعدة التي يرجع إليها في تفضيل البشر بعضهم على بعض قوله سبحانه: ﴿يـٰأيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقٰكُمْ﴾ [الحجرات:13]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» (مسند الإمام أحمد 23489). [التحرير]
(تحريرًا في الساعة العاشرة من صباح يوم الأربعاء: 24/ذي القعدة 1438هـ = 17/أغسطس2017م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42