الفكر الإسلامي

بقلم:  الدكتور رشيد كهوس (*)

       أنزل الله تبارك وتعالى على حبيبه وخلاصة أصفيائه سورة الإسراء التي تحكي تفاصيل رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وتناولت السورة الوعد الإلهي بالإفساد اليهودي الأول وزواله: يقول الحق جل وعلا: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا* فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلٰلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا* ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنٰكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ (سورة الإسراء:4-6).

       إن (وَعْدُ أُولَاهُمَا)، تحقق – حسب رأي من لم ينظر إلى الوعد بمنظار سنن الله- حين أفسد القوم بأكل السحت وعبادة الأصنام، كما أفسدوا سياسيا بانقسام دولتهم واتباع سياسة الغَدْر والنفاق، وخيانة الأمانة ونقض العهود، فجاء بختنصر(1) فأزال وجودهم السياسي والاجتماعي، وساق إلى بابل من نُفي منهم، حيث ظلوا هناك حوالي سبعين عاما، وبلادهم مخربة خاوية ليس فيها من يعمرها، وهذا كله يحمل سمات المرة الأولى على ما أنذر القرآن(2).

       ولنقف وقفة تأمل وتدبر للآية الكريمة التي تحدثت عن وعد أولاهما:

       ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُوْلَاهُمَا…..﴾ «إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان، أي أن هذا الوعد الإلٰهي والبشارة الإلهية ستتحقق بعد نزول آيات الإسراء المكية. ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ ….﴾ إن التعبير بالبعث مقصود ومراد، فالله بعث الصحابة رضي الله عنهم بعثًا من العدم فلم يكن للعرب في الجاهلية أية منزلة. كما أن كلمة «بعثنا» توحي أن مجيء هؤلاء الربانيين الصالحين لم يكن متوقعًا فقد بعث الله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا فأزالوا الإفساد اليهودي الأول وورثوا ديارهم وأموالهم وقوتهم، فالحديث في الآية إذن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، الذين أزالوا الإفساد اليهودي الأول، في المدينة وما حولها، وكان ذلك بعد الهجرة.. وإسنادُ الفعل ﴿بعثنا﴾ إلى الله يدل على تكريم هؤلاء المجاهدين، المبعوثين بعثا على اليهود.

       ﴿عِبَادًا لَنَا…..﴾ إن وصف الله هؤلاء المؤمنين بأنهم ﴿عِبَادٌ لَنَا﴾، أي تتحقق فيهم العبوديةُ المطلقة الخالصةُ لله، وهذا تكريم رباني آخر للصحابة رضي الله عنهم. وهذه الجملة لا تنطبق إلا على الصحابة رضي الله عنهم؛ فلفظ «العباد»(3) منسوبًا إلى الألوهية أو الرحمانية أو ضمير الجلالة يطلق في القرآن على العباد الصالحين، وعليه؛ فإن ما ذهب إليه المؤرخون والمفسرون(4) من إيقاع بُختنصر باليهود وإيقاع جالوت وجند فارس وبابل وأن هؤلاء هم الذين أزالوا الإفسادين. ولا ينطبق عليهم، لأن كل أولئك كانوا كفارا لا يحق أن يشرفوا بتفسير أنهم «عِبَادٌ لَنَا».

       وهؤلاء العباد أقوياء: ﴿أُولِيْ بَاْسٍ شَدِيْدٍ﴾. وقوة اليهود المقرونة بالعلو الكبير تحتاج إلى مؤمنين أقوياء، متصفين بالبأس الشديد. وقد تجلت قوة عباد الله المسلمين في مواجهة فساد يهود المدينة وما حولها في جانبين: الجانب المادي الذي تمثل في شدة قتالهم اليهود ويشهد عليه حصارهم لبني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة ولما جاسوا خلال ديار خيبر- الجوس المُنكي الذي لا تزال ذاكرة إخوان القردة تحفظه وتغذي نوايا ثاراته باحتلال مكة والمدينة بعد احتلال القدس- ووادي القرى وفدك وتيماء ثم إجلاء بقاياهم عن جزيرة العرب في الخلافة العمرية. والجانب المعنوي الذي تمثل في تحديهم لليهود وإذلالهم لهم، ويشهد عليه مواقف أبي بكر وعمر وعلي وعبادة بن الصامت وعبد الله بن رواحة وغيرهم رضي الله عنهم. لقد حكم «سعد بن معاذ» رضي الله عنه على بني قريظة – بما نقضوا من عهود وبما نكثوا وغدروا- حكمًا ربانيًا بقتل رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم ومصادرة أموالهم وبيوتهم وأراضيهم وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.

       ومن جهة أخرى، نجد أن الإفسادين اليهوديين موجَهان للمسلمين، فالحديث عنهما في آيات القرآن وعد، وعَدَ الله به المسلمين أن يواجهوا هذين الإفسادين اليهوديين، كما أنه وعدهم أن يُزيلوهما وَيقضوا عليهما.

       بين الإفسادين، الإفساد الأول الذي كان في بداية القرن الأول، والإفساد الثاني الذي بدأ منذُ بداية القرن الرابع عشر الهجري. أي أن الفترة بين الإفسادين كانت ثلاثة عشر قرنا.

       فالإفساد اليهودي الأول إذن، – أو وعد أولاهما- وقع لما أتوا إلى يثرب هاربين من الاضطهاد الروماني واليوناني الذي صُبّ عليهم في بلاد الشام، وأُعجب العرب بما عند اليهود من مال وعلم وثقافة. وتفنن اليهود في التحكم بالعرب والإفساد بينهم وامتصاص خيراتهم وإخضاعهم، وكانوا يبشرونهم بقرب ظهور نبي، ويهددونهم بأنهم سيتبعونه ويقتلون العرب معه، ولكنهم لما بُعث رسول الله ونبيه صلى الله عليه وسلم كانوا أكثر الناس عداوة له، وتآمروا على قتله، وحاربوه مع القبائل العربية الجاهلية، وعَتَوا عُتُوّا كبيرا، نكثوا العهود، ودسوا الدسائس، ومكروا مكرا كُبَّارا، وطغوا طغيانا كبيرا، فلما بلغوا الأوج في علوهم وفسادهم، سلط الله عليهم عبادا له أولي بأس شديد، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، فجاسوا خلال ديار خيبر، فاستأصلوا شجرة الفساد من جذورها، وأخرجوا أفاعي الغدر من جحورها. ﴿وَتِلْكَ الْقُرٰٓى أَهْلَكْنٰـهُمْ لَـمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ (سورة الكهف:59).

       ويظهر «وعد أولاهما» في غزوة خيبر(5) جليا واضحا، ذلك بأنه بعد إجلاء اليهود عن المدينة بسبب ما اقترفته أيديهم جعلوا خيبر وكرًا للدس والتآمر، «كانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربة حول المدينة، وتبيت للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو لإلحاق الخسائر الفادحة بهم، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهدنة هو شن الحرب الفاضلة على هذا الوكر»(6).

       فبالرُّغم من الهزائم التي مُني بها اليهود، والتي أدت إلى طردهم وتهجيرهم من يثرب، إلا أنهم لم يرعَووا،  ويعودوا إلى رشدهم، ولم يأخذوا من الماضي عبرة للحاضر والمستقبل، ولم يحاولوا قط أن ينتزعوا من نفوسهم شعور الحقد والعداوة للدعوة الإسلامية وصاحبها، وأن يعيشوا مع المسلمين في سلام ووئام.

       ويبدو أن الفكرة التي سيطرت على عقول اليهود، وشكلت دستور حياتهم، وتناقلها الأبناء عن الآباء، وتواصى بها الزعماء والسادة، هي فكرة القضاء على الإسلام وأهله(7).

       فهل يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأفاعي البشرية تسبح في ظلماتها، وتكمن في جحورها لتستعد لنهش قوة المسلمين وتأليب الكفر عليهم؟! لقد رأى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثاقب فكره وصائب رأيه أن يتحرك إلى جحور هذه الحيات ليوجه إليها ضربته القاصمة. فأذاعت قيادة المسلمين بيانا دعت فيه إلى الاستعداد للقضاء على أعداء الله في خيبر قضاءً نهائيًا حتى يأمن شمال المدينة وتكون بعد ذلك قاعدة أمينة استعدادًا لمحاسبة قريش.

       فجاس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم خلال ديار خيبر، واستقبلهم عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم(8) ومكاتلهم(9)، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش(10) قالوا: محمد والخميس(11) معه! فأدبروا هرابا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين»(12).

       فكان فتح خيبر، كما وصفه الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتٰبِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [سورة الأحزاب:26-27].

       فتطهرت المدينة وما حولها من رجسهم ودنسهم، وذلك لنقضهم العهود وإثارتهم للفتن ومحاربتهم للإسلام وأهله، فهم لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة.

       ثم أوصى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من بعده بإجلائهم من جزيرة العرب، فأجلاهم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته – بعدما نقضوا المواثيق والعهود-، فأراح الله المسلمين من مكرهم ودسائسهم وخبثهم. عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما- أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَـمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأَرْضُ لَـمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا». فَأُقِرُّوا حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ فِي إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا(13). ولما فتح المسلمون بيت المقدس أعطى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أهلها الأمان، وكتب لهم كتابا، وتضمنه ما اشترطوه عليه ألا يسكنها معهم أحد من اليهود.

       نقلة تاريخية ما بين انتصار المسلمين على اليهود في غزوة خيبر وتطهير المدينة وما حولها من شرورهم وسمومهم، وإجلاء الفاروق عمر لهم عن جزيرة العرب وبيت المقدس طواها القرآن طيا كما نعهد من بلاغته: ﴿فإذَا جَاءَ وَعْدُ أوْلَاهُمَا…﴾.

       واكتمل الوعد الإلهي كما وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الإسراء، وفق سنة إلهية عادلة، لا تحابي أحدا. فكل أمة طغت وتكبرت وفسدت، وجحدت النعمة، فقدت مكانتها، وانتزع منها كل شيء، وحق عليها العذاب، كما وقع لهؤلاء اليهود، الذين دارت عليهم الدوائر، وأصابتهم بفسادهم القوارع، فكان (وَعْدُ أُوْلَاهُمَا) في انتظارهم، لما عَتوا عُتوا كبيرا، وفسدوا في الأرض، وصدوا عن سبيل الله.

*  *  *

الهوامش:

(1)        ويمكن الرد على من قال بأن بنوخذ نصر  هو من دخل المسجد أول، أو أنه المبعوث عليهم في المرة الآخرة بهذه الحقيقة التاريخية، يقول الدكتور سهيل زكار: «تحدث الملك بنوخذ نصر عن حملاته، واهما الحملة التي قام بها في السنة السابعة من حكمه حيث جاء في النص الذي تحدث عنها: «السنة السابعة شهر  كسيليمو (كانون أول) حرك ملك أكاد جيشه إلى أرض حتي Hatti، وحاصر مدينة ياحودوIaahudu واستولى على المدينة في اليوم الثاني من شهر آذارو، وعين فيها ملكا حسبما ارتضاه، واستولى على غنائم ثقيلة منها، وجلبها إلى بابل »وطبعا لم يكن اسم القدس في يوم من الأيام ياحودو، والدراسة المتأنية لنصوص بنوخذ نصر تظهر أنه لم يستول على القدس، ولم يدخل فلسطين إلا مرة واحدة، جرى صده من قبل الجيوش المصرية، ويقينا لم يكن هناك سبي ليهود من القدس إلى بابل، لأن اليهود لم يكونوا قد ظهروا على مسرح التاريخ، يضاف إلى هذا أن الحفريات الأثرية أظهرت أن القدس كانت مدينة مزدهرة عامرة في التاريخ الذي قيل بأنها تعرضت فيه للخراب على أيدي جيوش بنوخذنصر، لكن هذه المدينة أخذت تتراجع لتصبح شبه قرية، وكان ذلك بعد أكثر من نصف قرن، أيام الحكم الإخميني، الذي قيل بأن فيها أعيد بناء المدينة حسبما جاء في سفري عزرا ونحميا، وتم فيها عودة المنفيين».التوراة، ترجمة عربية عمرها أكثر من ألف عام، تحقيق وتقديم: سهيل زكار، ص45. نقلا عن:

            The AncientNeasr East, vol I, pp 199­205, The Third Edition of the same book, princeton 1969, pp 307­308. ancient Record of Assyria and Babylonin. BY jamesBreasted, chicago, 1926, vol2, pp199.121,143.

(2)        بنو إسرائيل في ميزان القرآن، البهي الخولي، ص208.

(3)        وللإشارة فإن كلمة «عَبْد» تجمع على «عبيد» وعلى «عباد»، ففي القرآن الكريم، فالعبد الذي يعرف ربه؛ جمعه «عباد»، كقوله جل في علاه:﴿إِلَّا عِبَادَ الله الْـمُخْلَصِينَ﴾ (الصافات:160)، وقوله جل ذكره: ﴿قُلْ يٰعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر:10)، وقوله تقدست أسماؤه: ﴿يٰعِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ (الزخرف:68)، وقوله جلت حكمته: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ (الدهر:6)، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجٰهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ (الفرقان:63)… ومطلق العبد تجمع على «عبيد»، نحو قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (آل عمران:182).

            أضف إلى ذلك أن الفرق واضح بين المفردتين: لأنه لا ترادف في كلمات القرآن، فكلمة «عبيد» ذُكرت في القرآن الكريم خمس مرات في الكلام عن الكفار ومعظمها بصيغة: (ومَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيْدِ) أي أن الله يحاسب الكفار بعدله. أما كلمة «عباد» فهي مذكورة خمسًا وتسعين مرة منها أكثر من تسعين مرة عن المؤمنين.

(4)        اختلف أهل العلم في تفسير الآيات السابقة؛ ما حقيقة المرتين؟ وهل مضى وعدهما، أم لا؟ ومتى تحقق وعد أولاهما؟ ومن المبعوث عليهم في المرة الأولى؟

            فالمفسرون من القرون الماضية، الذين لم يكن أمام أعينهم ما نشاهده صباح مساء من الحقائق الباهرة، ومن الفساد الصهيوني في فلسطين السليبة، منهم من فسر  المرة الأولى التي أفسد فيها بنو إسرائيل في الأرض وعَتوا عُتوا كبيرا حين كذبوا نبي الله إرمياء وقتلوه، فأرسل الله عليهم بُخْتَنْصَر، وقيل: أرسل الله عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد، وقيل: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوَعى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الأولى، فكان منهم جوسٌ خلال الديار لا قتل، وقيل: أنه جاءهم بختنصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا، وقيل: إنهم لما قتلوا نبي الله زكرياء u غزاهم  ملك الموصل سنحاريب وجنوده. وقيل: حين خالفوا أحكام التوراة…، إلى غير ذلك من الآراء..انظر هذه الآراء في: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 9/177. تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/28. المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، 3/438. تفسير الكشاف، للزمخشري، ص590. جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، (طبعة:مؤسسة الرسالة)، عند تفسير الآيات 4-9 من سورة الإسراء، 17/385. معالم التنزيل (تفسير البغوي)، 5/76.

(5)        غزوة خيبر في المحرم سنة سبع، قال محمد بن إسحاق:  ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة حين رجع من الحديبية، ذا الحجة وبعض المحرم، وولي تلك الحجة المشركون، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر، وقال ابن سعد: في جمادى الأولىٰ، وقال موسى بن عقبة: سنة ست من الهجرة، وقال الواقدي: خرج رسول الله ﷺ في صفر سنة سبع، ويقال لهلال ربيع الأول، إلى خيبر،  وذهب الإمامان الزهري ومالك إلا أنها في المحرم من السنة السادسة للهجرة. وقال ابن حجر: روى يونس بن بكير في المغازي عن ابن إسحاق في حديث المسور ومروان قالا: انصرف رسول الله ﷺ من الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح؛ فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه الله فيها خيبر بقوله: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ [الفتح:20] يعني خيبر، فقدم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم. وذكر موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب أنه ﷺ: أقام بالمدينة عشرين ليلة أو نحوها، ثم خرج إلى خيبر.  وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس: «أقام بعد الرجوع من الحديبية عشر ليال» وفي مغازي سليمان التيمي: «أقام خمسة عشر يوما » وحكى ابن التين عن ابن الحصار أنها كانت في آخر سنة ست، وهذا منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم، وهذه الأقوال متقاربة، والراجح منها ماذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول، وأما ما ذكره الحاكم عن الواقدي، وكذا ذكره ابن سعد أنها كانت في جمادى الأولى، فالذي رأيته في مغازي الواقدي أنها كانت في صفر، وقيل: في ربيع الأول، وأغرب من ذلك، ما أخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة من حديث أبي سعيد الخدري قال: «خرجنا مع النبي ﷺ إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان» الحديث وإسناده حسن، إلا أنه خطأ، ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت، وتوجيهه بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج النبي ﷺ فيها في رمضان جزما، والله أعلم». انظر: سيرة ابن هشام، 3/445. الطبقات الكبرى لابن سعد، 2/206. المغازي، لابن عقبة، ص247. كتاب المغازي، للواقدي (تحقيق: مارسْدن جُونس)، 2/634.. تاريخ دمشق، لابن عساكر، 1/33.فتح الباري، 7/464.

(6)        الرحيق المختوم، عبد الرحمن المباركفوري، ص319.

(7)        التاريخ السياسي والعسكري، علي معطي، ص202.

(8) المَساحِي: جمعُ مِسْحاةٍ وهي المِجْرَفَة من الحديد والميم زائدة لأَنه من السَّحْوِ الكَشْفِ والإِزالة والله أَعلم. لسان العرب، مادة: مسح. 2/598.

(9)        المكاتل: جمع مَكْتَل وهي القُّفَّة العظيمة، وسميت بذلك لتكتُّل الشيء فيها، وهو تلاصق بعضه ببعض. الروض الأنف، 7/91.

(10)      الجيش: وهو من الألف إلى أربعة آلاف. فقه اللغة وأسرار العربية، أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي،252.

(11)      الخميس: الجيش العظيم المشتمل على المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر. سفرة الزاد في سفرة الجهاد، أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي البغدادي، مخطوط بمكتبة الأزهر الشريف، الرقم العام 27363، الرقم الخاص 874، ص7.

(12)      سيرة  ابن هشام، 2/330. الطبقات، ابن سعد، 2/106-108.

(13)      صحيح البخاري، كتاب الخمس،  باب ما كان للنبي (يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ح2983. صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع،ح1551.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42

Related Posts