دراسات إسلامية

بقلم:  د. محمد محمد أبوليلة

       إن صلة الأرحام من أهم المزايا وأعظم التشريعات والأخلاق في الإسلام، فهي تقوى عروة الدين، وتعزز قيمة النسب، وتؤسس للعلاقات الطيبة بين الناس، كما أنها تساعد على استقرار الأسر والمجتمعات، وعلى شيوع روح الحب والتآلف والتعاون بين أفراد المجتمع، وتجعل الكل يعيش في سكينة وطمأنينة؛ فإن من أهم سمات المجتمع المسلم، الترابط، والتحاب، والإيثار، والتعاون.

       وصلة الأرحام كصلة أعضاء البدن الواحد بعضها ببعض، فبهذه الصلة تتحقق سلامة البدن وقوته، كما أنه باختلالها أو فقدانها يصير البدن ضعيفًا عاجزًا، ثم لا يلبث أن يكون جثة هامدة.

       وقد تُشبَّه صلة الأرحام بشجرة، تظل مزهرة مثمرة، ما دامت فروعها وأغصانها متصلة بعضها ببعض، وما دامت كلها متصلة بالجذر الضارب في الأرض، وبالساق الذي يحمل الكل، والذي من خلاله يصل الغذاء لكل غصن، ولما يحمله هذا الغصن من أوراق وثمار.

       وقد ظهرت قيمة هذا الخلق النبيل مبكرًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه، فقد عدت السيدة خديجة – رضوان الله عليها – صلة الرحم في مقدمة أخلاقه صلى الله عليه وسلم التي أهلته للنبوة.

       روى البخاري في حديث بدء الوحي قولها عنه صلى الله عليه وسلم: «إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق»(1).

       وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه منذ بداية إسلامهم أن يصلوا أرحامهم، فقد جاء في حديث جعفر بن أبي طالب، وهو يعدد محاسن الإسلام للنجاشي – إمبراطور الحبشة: «أيها الملك: كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. فعدد عليه أمور الإسلام. ثم قال: «وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله تعالى»(2).

الحث على صلة الأرحام والتحذير من قطعها

       حث الله تعالى على الإحسان في معاملة الوالدين والأقربين وذكرهما في سياق الأمر بعبادة الله وحده يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبٰى وَالْيَتٰمٰى وَالْـمَسٰكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبٰى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا﴾ (النساء:٣٦)، ويقول أيضًا: ﴿يَـٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء:١)، ويقول: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبٰى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ (الإسراء:٢٦)، ومعرفة النسب تعين على صلة الرحم، روى البخاري، والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة (مكثرة) في المال منسأة في الأثر (أي زيادة في العمر)»(3).

       وروى أبو يعلى عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه».

       وعن عبد الله بن دينار قال: «احذورا ثلاثا؛ فإنهن معلقات بالعرش: النعمة تقول: يا رب كُفرتُ (أي جحدني من أنعمت بي عليه)، والأمانة تقول: يا رب أُكلتُ (يعني ضُيعت)، والرحم تقول: يا رب قُطعتُ».

       وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم شَجْنَةٌ (أي شعبة) من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته».

       وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عيله وسلم: «إن الله ليعمر بالقوم الديار، وينمى لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بعضًا لهم». قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «بصلتهم أرحامهم»(4).

       ويقول تعالى عن صلة الأرحام، وما يترتب على العمل بها، أو إهمالها: ﴿وَاُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ اَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتٰبِ الله﴾ (الأحزاب:6). وذوو الأرحام هم جميع القرابات، وهم أولى بالتوارث من الأجانب، في الحالات التي بينتها كتب الفقه، وكذلك هم مقدمون في البر والإحسان على غيرهم.

       وقد شدد الله تعالى في وجوب البر بذوي الأرحام، ووعد بالثواب العظيم على البر بهم، كما توعد بالعذاب الأليم على التفريط في حقهم، يقول تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوْآ أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمد:22). ومعنى ﴿إِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي عدلتم، وتخلفتم عن الجهاد في سبيل الله، الذي به حماية الدين والوطن، تعودون إلى حياة الجاهلية، وما كان فيها من سفك الدماء، وتقطيع الأرحام، والإفساد في الأرض. وإذن فالجهاد إنما هو لصد العدوان، ولتأمين الحياة الفاضلة على الأرض وللحفاظ على الأخلاق والأعراف.

       وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها»(5). والمسلمون مأمورون بإصلاح مافسد من العلاقة مع الأقارب، يقول تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَاَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم﴾ (الأنفال:1)، فإصلاح ذات البين واجب شرعي استبقاء للعلاقات وحفاظًا على المودات بين الأهل وإلا تمزق المجتمع وأصبح مجتمعًا محاربًا، وأصبح المسلمون شديدي البأس فيما بينهم، واختفت من ثم مظاهر الرحمة والتواد من المجتمع المسلم، لذلك فإن ثواب واصل الرحم البركة في العمر، والسعة في الرزق، فعن أنس – رضي الله عنه –  في الحديث المتفق عليه: «من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه».

       وفي رواية أخرى: «من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله وليصل رحمه». في هذا الحديث تحذير من قطع الرحم؛ لأن قاطع الرحم والعاق لأقربائه لا يكون في قلبه تقوى، ولا في ضميره خوف من الله تعالى.

       وروى الإمام أحمد والطبراني من حديث درة بنت أبي لهب، وابن قتيبة الدينوري: «يا رسول الله أي الناس خير؟، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم»(6).

       وقال أبوذر – رضي الله عنه –: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرّا».

       وقد كان النبي صلى الله عيله وسلم وصالًا لرحمه، بل كان أوصل الناس جميعًا للرحم، وكان صلى الله عليه وسلم يحب من يصل رحمه ويثنى عليه، وقد ربط بين الإيمان وصلة الرحم، كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»(7).

       ويجب على المسلم أن يصل رحمه، حتى لو كانت لقريب غير مسلم، وذلك لأن العقوق والجحود ليسا من أخلاق الإسلام.

       قالت أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما– : «قدمت على أمي في مدة قريش مشركة، وهي راغية (يعني محتاجة)، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:  يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة راغبة أفأصلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: «صلي أمك»، وفي رواية: أفأعطيها؟ قال: «نعم صليها»(8).

لا استثناء في وجوب صلة الرحم

       ومن ثم، فإن الرحم يجب أن توصل على أي حال؛ في حالة الرضا، وفي حالة الغضب، وسواء قدر لك من تصلهم معروفك أم أساءوا تقديره، فما عليك إلا أن تكون بارّا بهم، وصالًا للرحم على قدر وسعك.

       أخرج البخاري – رحمه الله – أن أبا طلحة أراد أن يتصدق بحائط له كان يعجبه عملًا بقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران:٩٢). قال: «يا رسول الله، هو في سبيل الله، وللفقراء، والمساكين، فقال صلى الله عليه وسلم: «وجب أجرك على الله قسمه في أقاربك».

       وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أفضل الصدقة صدقة على ذي الرحم الكاشح»(9) و«ذي الرحم الكاشح» هو القريب الكاره، أو المعادي. وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رجلًا قال: «يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال: «إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير (نصير) عليهم ما دمت على ذلك»(10). والمل هو الرماد الحار، ومعنى تسفهم المل أي تلقمهم أو تحشو أفواههم بالرماد الحار، وهذه أسوأ عقوبة لهم على الجحود والقطيعة.

       والبر بالوالدين من أوجب الواجبات في الإسلام، فعلى الولد أن يبر والديه، ويرعاهما، ويطيعهما ما استطاع، يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوْآ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلٰهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُـمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُـمَا قَوْلا كَرِيمًا﴾ (الإسراء:٢٣).

       ﴿وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدٰكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (العنكبوت:٨).

       ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبٰى وَالْيَتَامٰى وَالْـمَسٰكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبٰى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ اَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا﴾ (النساء:٣٦).

       والبر بالوالدين من أعظم القربات إلى الله تعالى، عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه»(11).

       ومعنى البر بالوالدين التوسع والاجتهاد في الإحسان إليهما، وإرضائهما، وضده العقوق، وقد بينت آية سورة الإسراء مفهوم الإحسان إلى الوالدين في حياتهما، وبعد مماتهما، يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصٰلُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْـمَصِيرُ﴾ (لقمان:١٤).

       فهل بعد قول الله تعالى: ﴿وَقَضَى﴾، و﴿وَوَصَّيْنَا﴾ في الحث على بر الوالدين قول؟ وهل بعد هذا الترغيب من ترغيب؟.

       وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني».

       وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رد بعض الصحابة، فلم يقبل خروجهم معه للجهاد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة، والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: «فهل من والديك أحد حي، قال: نعم بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله، قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما»(12).

       عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبويَّ يبكيان، فقال صلى الله عليه وسلم: «ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما»(13).

       وجعل النبي صلى الله عليه وسلم البر بالوالدين أو أحدهما عدل الجهاد، وجعل رضاهما، وإذنهما شرطًا في الدخول مع المجاهدين في سبيل الله، وبالإضافة إلى ما سبق من أحاديث، روى أنس رضي الله عنه، قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «هل بقي من والديك أحد؟» قال: أمي، قال صلى الله عليه وسلم: «فأسأل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج معتمر ومجاهد»(14).

       وروى طلحة عن معاوية السلمي – رضي الله عنهما – قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم: «أمك حية؟» فقلت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الزم رجلها، فثم الجنة»(15).

       وعن أبي أُمامة – رضي الله عنه – أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما حق الوالدين على ولدهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: «هما جنتك ونارك»(16). ومعنى «هما جنتك ونارك» أن في طاعتهما والبر بهما الجنة، وفي عصيانهما وعقوقهما النار، وعلى المرء أن يختار لنفسه ما شاء.

       فالبر بالوالدين، وصلة الأرحام يفتح الأبواب المغلقة للرزق، والعفو والعافية، فيعيش الواصل لرحمه، البار بوالديه في سعة من الرزق وبركة من العمر، ويكون قلبه مملوءًا بالسكينة، وحسن التوكل على الله، والرضا بما قضى له سبحانه وتعالى به، وعلى عكس ذلك يكون جزاء العقوق بالوالدين، وعدم البر بهما وبذوي الأرحام.

       فعن ثوبان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر»(17).

       والبر كلمة تتسع لكل معاني الخير والأخلاق الطيبة، لا سيما البر بالوالدين، وإسعادهما، وصلة الأرحام، وإكرام الأقارب بحسب الوسع والطاقة.

       وقد جاء التحذير من تقطيع الأرحام، وعقوق الوالدين في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة، وذلك لما في العقوق من فقدان المودة والمحبة بين أفراد الأسرة الواحدة؛ بل أفراد المجتمع كله، وإن عقوق الوالدين والأقربين، الذين هم أولى بالمعروف، يسد منافذ الخير، ويفتح منافذ الشر ويجلب العداوة والشقاق بين أفراد الأسرة؛ بل وبين أبناء المجتمع كله، فلا يكون ثمة تواصل أو تعاطف وتراحم يجمع بينهم، وإنما يكون التقاطع والتدابر والتزاحم، وما أكثر المفاسد والمضار التي تترتب تعطيل هذا الحق، والتخلى عن هذا الخلق الكريم من غياب آثارالرحمة، والبر، والمواساة، والتعاون  المجتمع، وإذا سيطر العقوق والجحود على المجتمع شاعت فيه مظاهر القسوة، والعداوة، والبغضاء وصارت كالمرض الخبيث ينتقل من فرد لفرد، ومن جيل لجيل.

       ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه –: «عفوا عن نساء الناس، تعِفُّ نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، ومن أتاه أخوه متنصلا (معتذرا من ذنب أوخطأ) فليقبل ذلك محقّا (هذا المعتذر) كان أو مبطلاً، فإن لم يفعل لم يرد على الحوض»(18).

       وروي عنه بعدة طرق أن: «من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله (أي من رحمته)»(19).

       وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين»(20). فهل بعد ذلك من ترغيب أو ترهيب!

       وفي قاعدة الواجب للوالدين على الأولاد، ذكر القرافي أن كل ما وجب للأجانب وجب للوالدين، وقد يجب للوالدين ما لا يجب للأجانب.

       وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أبوك»(21).

       فالأم إذن هي أول الأرحام التي يجب أن توصل وأولاها بالبر والإكرام، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم عظم ما للأم من فضل على أولادها، وعظم ما لها من حق عليهم، فهي التي حملت كرها، ووضعت كرها، وربَّت صبرًا وقضت حياتهاكلها تحملا، وتجملا لأولادها؛ فالأم تحمل طفلها جنينًا في بطنها تسعة أشهر، ثم تحمله بين يديها، وعلى صدرها، حتى يشب عن الطوق، ويستوي على قدميه، وتتسع مداركه، ثم تحمله بعد ذلك في قلبها ورأسها مدى حياتها، إذا أصابه هم أصابها أضعاف هذا الهم، وإذا مرض مرضت مرضا أشد من مرضه، وإذا أرق أرقت معه وتضاعف أرقها وقلقها عليه، فهي مضحية دائمًا براحتها، وبحياتها من أجل أولادها، دون انتظار عوض عما قدمته.

       ﴿وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسٰنًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ﴾ (الأحقاف:١٥).

       أشارت الآية بداية إلى الوالدين، ثم أُفردت الأم بالذكر وبينت ما تحملته من آلام الحمل والوضع والرضاعة والتربية، وهذه كلها مما انفردت به الأم عن الأب، لذلك عظم أجرها، واستوجبت أن يكون لها في الفضل والبر ثلاثة أضعاف الرجل، وفي هذا السياق تنوه بأن الله تعالى قد أنزل سورة باسم النساء ولم ينزل سورة باسم الرجال.

       وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أُمّ؟ قال: لا، قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرَّها» (رواه الترمذي)(22). والبر بالخالة يكون بالإحسان إليها، ورعاية مصالحها ماديّا وأدبيّا، فإن الخالة بمنزلة الوالدة.

       وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه رأى رجلا يحمل أمه في الحج ويطوف بها، فقال لابن عمر يا صاحب رسول الله، هل تراني وفيتها حقها؟ فقال ابن عمر: لا، ولو بطلقة واحدة. ولو بزفرة واحدة، فإنها كانت تفعل ذلك وترجو حياتك، أما أنت فتنتظر موتها».

البر بالوالدين بعد وفاتهما

       والبر بالوالدين يتعدى حياتيهما إلى البر إليهما وهما في القبر، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يكون هذا البر، فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبوى شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم الصلاة عليهما (أي الدعاء لهما)، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما (أي العمل بوصيتهما) من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما»(23).

       وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أبر البرِّ صلة الولد أهل ود أبيه»(24). وإذا كان الحديث ينص على الأب، فإن حق الأم أعظم كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الابن أو الابنة أن يبر كلاهما بمن كان الأب أو الأم يبرونهما في حياتيهما، فتلك رحمة واصلة إلى الوالدين، وذلك عمل يؤجر عليه فاعله في الدنيا والآخرة.

       وما أكثر ما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقوق الوالدين، وتقطيع الأرحام، روي عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مجتمعون فقال: «يا معشر المسلمين اتقوا الله، وصلوا أرحامكم، فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة الرحم، وإياكم والبغي، فإنه ليس من عقوبة أسرع من عقوبة البغي، وإياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام»(25).

       عاقبة العقوق وأي الحقين، يقدم على الآخر، حق الوالدة أم حق الوالد؟

       ما أسوأ حال العاق لوالديه في الدنيا والآخرة، فعن أبي بكرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات»(26). وورد أنه قيل لمالك – رضي الله عنه – : يا أبا عبد الله، لي والدة وأخت وزوجة! فكلما رأت (أي أمي) لي شيئا قالت لي: أعط هذا لأختك، فإن منعتها ذلك سبّتني ودعت عليّ، قال له مالك: ما أرى أن تغايظها، وتخلص منها بما قدرت عليه». أي وتخلص من تسخيطها بما قدرت عليه؛ وقال مالك أيضا: إجابة على سؤال، ورد إليه: والدي في السودان وكتب إلى أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له مالك: «أطع أباك، ولا تعص أمك»، وروي أن الليث ابن سعد، أمره بطاعة الأم، لأن لها ثلثي البر، في ضوء ما قلناه، وما سقناه من أدلة الكتاب والسنة، وأقوال الفقهاء والعلماء، يتبين بجلاء عظم حقوق ذوي الأرحام، وحقوق الوالدين، وعظم الأجر على ذلك، وعظم المردود النفسي والاجتماعي كذلك على من يصل رحمه، ويبر بوالديه.

*  *  *

الهوامش:

رواه عروة بن الزبير عن عائشة.

محمد يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية 1418هـ/1997م، 2/519.

رواه أبو هريرة.

رواه الطبراني بإسناد حسن، ورواه الحاكم، والمنذري في الترغيب والترهيب، 3/336.

أخرجه الطبراني والبيهقي.

عيون الأخبار. القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 2/84.

الترغيب والترهيب، 3/333.

متفق عليه.

أخرجه أحمد والطبراني من حديث أبي أيوب.

رواه مسلم.

رواه أحمد.

رواه مسلم.

رواه أبو داود.

رواه أبو يعلى والطبراني في الصغير، والأوسط بإسناد جيد.

رواه الطبراني.

رواه ابن ماجه من طريق علي بن زيد عن القاسم.

رواه الترمذي.

رواه ابن ماجه من طريق علي بن زيد عن القاسم.

انظر الترغيب والترهيب للمنذري، ج3، ص318 وما بعدها.

رواه الترمذي.

رواه البخاري ومسلم.

رواه الترمذي.

رواه أبوداود، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه.

رواه مسلم.

رواه الطبراني في الأوسط.

رواه الحاكم والأصبهاني من طريق بكار بن عبدالعزيز، وقال الحاكم. صحيح الإسناد.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42

Related Posts